لم أكن أعلم الكثير عن كرة القدم قبل كأس عالم 1994، كنت فقط أعرف اسمي مارادونا وزيكو حيث اعتدنا أن نغني لفريق مدرستنا في أثناء مبارياته ( ولا مارادونا ولا زيكو، كابتن –فلان- هيوريكو). بذلك الحين لم أكن مدركًا أن هذا المارادونا هو اللاعب نفسه الذي أشاهده في صباح كل يوم خميس علي القناة الثانية بمقدمة (اليوم المفتوح) وهو يمر متراقصًا بين لاعبين كثر نحو المرمي، مسقطًا إياهم واحدًا تلو الآخر حتي يودع الكرة في الشباك.
قبيل انطلاق كأس العالم بأيام اصطحبني أبي في مهمة خاصة بعمله، أو ربما زيارة لصديق، لا أذكر تحديدًا، أعطاني نسخة من جريدة لأقلب صفحاتها حتي أنشغل بها عنه، ربما كانت العربي الناصري، وجدت في الجريدة صفحة كاملة عن مارادونا بصورة له تمتد بطول الصفحة، صورته عندما كان عشرينيًا بشعر ناعم طويل وملامح طفولية جذابة. أدركت حينها للمرة الأولي أنه هو اللاعب الذي يراوغ الجميع بمقدمة اليوم المفتوح.
تابعت البطولة العالمية لأول مرة في حياتي، وبحثت عنه بين اللاعبين، كانت ملامحه مختلفة تماما عن صورة الجريدة، بدا عجوزًا بشعر قصير خشن وملامح أكثر جدية، غير أن فكرة العودة من الإيقاف والإدمان والعجز إلي المنافسة علي بطولة العالم من جديد استهوتني وأبهرتني. مازال مشهده وهو يمسك بعدسة الكاميرا ويصرخ في وجهها حتي تطاير الرذاذ علي عدستها بعدما أحرز هدفه بمرمي اليونان عالقًا بذاكرتي كصورة بطل شعبي يصرخ رافضًا الهزيمة.
>>>
حتي وإن لم تكن مهتمًا بالكرة ولا تهوي مشاهدتها، فإنك بالتأكيد تعرفه، هذا القصير مكتنز الجسم بقفزته الشهيرة وجريته الثعبانية. أما إن كنت من المهتمين بمتابعة كرة القدم، فلابد أنه قد أذهلك وسلب عقلك وتلاعب بمشاعرك وهو يحمل كأس العالم بابتسامة طفولية أو وهو يبكي بعد خسارة ظالمة في نهائي كأس العالم 1990، أو حتي عندما رأيته وقد زاد وزنه وأصبح أقرب إلي لاعبي السومو منه إلي لاعبي الكرة.
بدأتُ في متابعة كرة القدم منذ ذلك الحين، في نهاية عهد الأمهر علي الإطلاق مارادونا ومع بزوغ نجم الشباك وحاصد الأهداف جابرييل عمر باتيستوتا، وبسببهما أحببت الأرجنتين وعشقت اللونين الأبيض والسماوي، أصبحت أرجنتيني الهوي. كان ذلك قبل أن أقرأ لبورخيس أو أتابع رقصات التانجو أو أسمع موسيقي أوستور بياتزولا أو أشاهد فيلم (حكايات وحشية) أو أعرف عن جيفارا، ولكن بعد أن قرأت وشاهدت وسمعت وعرفت زاد حبي للدولة اللاتينية.
في2014، أدركت مدي التقارب بيننا وبين الأرجنتينيين، أقصد بيننا نحن المصريين وهم اللاتينيين، كان ذلك عند مشاهدتي لتحركات جماهيرهم العريضة الزاحفة إلي الجارة اللدود البرازيل في أثناء بطولة كأس العالم، حيث احتلوا الشوارع، مشوا في تجمعات أشبه بالمظاهرات في قلب العاصمة البرازيلية ينشدون أغاني تُحقر من بيليه وتسخر من البرازيليين، ركبوا المترو وهم نصف عرايا بسبب الحر، احتلوا المولات وملأوها بهتافاتهم، وسهروا علي الشواطئ وفي الشوارع حتي مطلع الفجر. بدا لي أن شيئًا مشتركًا يجمع بين شعبينا.
>>>
» له وجه طفل، وجه ملاك
له جسد الكرة
له قلب أسد
له قدما غزال عملاق». *
>>>
وكأي بطل أسطوري فحياة مارادونا محشوة بالدراما والدموع والعنف والصخب. كتب البريطاني ويل ماجي عما عاناه الأرجنتيني القصير عندما خرج من بوكا جونيورز إلي برشلونة لأول مرة في عام 1982. يقول ويل إن المدرب النحيف مينوتي، صاحب التأثير الكبير علي مارادونا، كان مشهورا بكرة قدم غير تقليدية ومبدعة، ومع انتقاله لتدريب برشلونة حاول أن يضع الفريق في إطار جديد، وبصورة يسكن مارادونا في قلبها. بينما كان أتلتيك بيلباو، أحد أقرب منافسيهم، يلعب بأسلوب أقل رومانسية، وأكثر اجتهادًا وعملية. لم تكن كرتهم قبيحة إلا أن وجود اللاعب المدعو جويكو في قلب دفاعاتهم، وصمهم بسمعة اللعب القاسي والعنيف. كان جويكو مدافعًا ضخمًا مفتول العضلات، من بلدة مكسوة باللون الأحمر وسط جبال الباسك الوارفة الخضراء، بوجه يشبه الأحجار المهشمة وبتعبيرات تنم عن تهديد ووعيد دائمين. كان جويكو رمزًا مخيفًا في قلب دفاع أتليتك بيلباو، ومنذ ظهوره الأول عُرف بتدخلاته الوحشية، وبدا وكأنه يستمتع بتدمير المنافسين بأية طريقة.
في سبتمبر 1983، استضاف برشلونة بيلباو في ملعب الكامب نو، ودمروه تمامًا. تقدم الفريق المُضيف بثلاثة أهداف في منتصف المباراة، صنع مارادونا اثنين منها. فقد جويكو عقله وهو يتابع مارادونا بعدما التقط الكرة مرة أخري في الثلث الأخير من ملعب بيلباو ليبدأ هجمة جديدة. عندها اندفع جويكو نحوه وقام بعرقلة وحشية من خلفه مهشما قدم مارادونا، تاركا إياه يصرخ في ألم بعد أن كسر كاحله بشكل بدا خطيرًا. كانت تلك العرقلة سببا في تسميته (جزار أتليتك بيلباو).
ليس من المبالغة القول بأن تلك العرقلة كان من الممكن أن تُنهي كل شئ لمارادونا، الرجل الذي سيفوز بكأس العالم ويصبح أعظم لاعبي الكرة. واجه دييجو فترة طويلة من البُعد عن الملاعب، وشهورا من التأهيل قبل أن يصبح قادرًا علي اللعب مجددًا. استشاط مينوتي غضبًا بعد الحادثة، ووصف جويكو بأنه واحد من عِرق (أعداء لاعبي كرة القدم)، ثم طالب بمنعه من اللعب لبقية حياته.
اعتذر جويكو مرارًا، مدعيًا أنه لم يتعمد أبدًا إصابة مارادونا. كان من الممكن تصديق تصريحات جويكو لو لم تذكر التقارير أن الجزار ظل محتفظا بالحذاء الذي ارتداه ذلك اليوم في حافظة زجاجية في بيته كتذكار لجريمته الكبري.
يكمل المدون البريطاني ويل ماجي قائلا إن مارادونا استطاع أن يعود أسرع من المتوقع، ولعب المباراة الثانية في الدوري ضد جويكو ورفاقه، مسجلا هدفين ليقود فريقه للفوز. بعدها شارك دييجو في نهائي كأس الملك الذي تصارع فيه برشلونه وبيلباو في مبارزة أخري، شهدت انقلابًا دراميًا حوّل خاتمة الموسم إلي صخب وعنف.
في تلك المباراة، أُصيب مارادونا بجرح جديد في ساقه إثر تدخل قوي من جويكو، تبعته صيحات مستهزئة وهتافات عنصرية من الجماهير الباسكية ضد النجم الأرجنتيني، بدأ الغضب في التملك من مارادونا حتي أظهر وجهه العنيف. بدأت في هذه اللحظة ما قد نعتبرها أعنف مشاجرة في بطولة محلية كبري، حيث وجه مارادونا ركبته نحو وجه ميجيل سولا بعد مشادة كلامية بينهما، فطرحه أرضًا قبل أن يبدأ دييجو في توزيع عدد من الركلات لمختلف لاعبي بيلباو. وفي خضم ركلات الكونج فو واللكمات التي تلت، استطاع جيوكو أن ينفرد بدييجو ويودّعه موجهًا له ضربة أخيرة بركلة طائرة.
كان ملك إسبانيا خوان كارلوس حاضرًا في المباراة النهائية، كما قُدر عدد مشاهديها في التليفزيون بنصف سكان إسبانيا، وأصيب العشرات في المشاجرات اللاحقة للمباراة. بعدها قرر مارادونا أن يرحل عن إسبانيا، كانت حادثة بيلباو هي السبب الرئيس لقراره بالانتقال إلي نابولي.
>>>
»لا يمكن إيقافه، كما لا يمكن للملك الأحمق أن يوقف موج البحر، هكذا يقول الخبراء الرياضيون الذين وجدوا في المرجعية الشعرية اللغة الوحيدة القادرة علي وصف هذا الشيطان الملائكي، صانع الفرص، نشّال ماهر، موجود في كل مكان، حوّل الملاعب المكسيكية إلي مرتعه الخاص.»*
>>>
لم يفز نابولي بالدوري إلا مرتين، كانتا في عهد مارادونا، كما قادهم للقبهم الأوروبي الوحيد، كان ما يدور في إيطاليا حينها بمثابة ثورة يقودها هذا الوافد اللاتيني القصير. لم يكن الأإيطاليون يصدقون ما يحدث، وبرز العداء بين نابولي وبين فرق الشمال، كل فرق الشمال وفي مقدمتهم ميلان واليوفتنتوس، علي خلفية تفوق أبناء الجنوب.
يقول إدواردو جاليانو في كتابه البديع (كرة القدم) “صار مارادونا في نابولي القديس مارادونا، وصارت تباع في الشوارع صورة الإله ذي السروال القصير، مضاءة بتاج السيدة العذراء أو ملفوفة بعباءة القديس الذي ينزف كل ستة شهور، وكانت تباع كذلك توابيت لأندية الشمال الإيطالي، وقوارير مملوءة بدموع برليسكوني، وكان الأطفال والكلاب يظهرون بشعور مستعارة مثل شعر مارادونا.”
يضيف جاليانو أن كل هدف أحرزه دييجو كان يعتبر تدنيسًا وانتهاكًا للنظام السائد وانقلابًا مضادًا لمسار التاريخ، حتي في كأس عالم 1990 المقام بإيطاليا كانت الجماهير تعاقب مارادونا بالصفير الساخط كلما لمس الكرة، حتي احتُفل في إيطاليا بهزيمة الأرجنتين أمام ألمانيا في المباراة النهائية بضربة جزاء خاطئة وكأنه انتصار إيطالي.
“عندما بدأ نادي نابولي يلعب أفضل كرة قدم في إيطاليا بتأثير مارادونا السحري كان رد فعل شمال البلاد هو أنها استلت أسلحة الازدراء القديمة، فالنابوليون الذين اغتصبوا الأمجاد المحظورة عليهم كانوا ينتزعون بذلك الغنائم من المتسلطين الأزليين، فما كان من هؤلاء إلا أن عاقبوا الغوغاء الدخيلة القادمة من الجنوب. فعلي مدرجات استادات ميلان أو تورين، كانت تُرفع اليافطات المُهينة : (أيها النابوليون، أهلا بكم في إيطاليا)
وبقوة أكبر من أي وقت مضي كانت تدوي أغنيات هي ابنة الخوف وحفيدة العنصرية :»يا للرائحة الكريهة.. حتي الكلاب تهرب.. النابوليون قد وصلوا.. آه للملونين للمزلزلين.. لا يمكن حتي للصابون أن ينظفهم.. نابولي أيتها البراز.. نابولي أيتها الطاعون.. أنتِ عار علي إيطاليا كلها.»
>>>
»مارادونا رفع كرة القدم إلي مستوي التجريد الموسيقي الشفاف، رفعها إلي الطهارة المطلقة. لعب مارادونا من أجل اللعب، وحوّل كرة القدم إلي أغنية راقصة، مزيج من السامبا البرازيلية والتانغو الأرجنتيني.»*
>>>
في العام الماضي، منحت مقاطعة نابولي الجنسية الشرفية لمارادونا، بعد شهور من تسميته سفيرًا لها في العالم، مارادونا هو رقم 10 الأخير في تاريخ الفريق الجنوبي بعدما اتخذوا قرارًا بمنع أي لاعب من ارتداء الرقم من بعده، مارادونا بمثابة ملك لنابولي، قديس أو إله. ركب دييجو في ليلة تتويجه بالجنسية الشرفية علي سطح عربة ضخمة، وجاب أنحاء المدينة، طاف وهو يغني بأعلي صوته للفريق بينما تجمع حوله المشجعون الجنوبيون، كانوا ينشدون “من لا يغني معنا اليوم، فهو من مشجعي اليوفنتوس”.
بات مارادونا جزءًا من ذاكرة نابولي، تحتل رسوم الجرافيتي لوجهه البنايات، والحوائط والأسوار، يبدو في رسومهم مناضلا أو مقاتلا ذا نظرة حادة وملامح حاسمة. لا يمكن لأي من مشجعي نابولي أن ينسي المشهد الأشهر لفريقهم، الغريب أنه ليس لقطة لهدف أو لحظة تتويج ببطولة، ليس مراوغة ثعبانية كالتي أدمنها الأرجنتيني، ليس حتي جزءا من مباراة، بل دقائق من إحماء فريقهم قبيل بداية مباراة نصف نهائي البطولة الأوروبية، حيث وقف مارادونا في قلب الملعب الألماني قبيل مواجهة مع شتوتجارت علي ملعب الأخير، وهو يؤدي حركات الإحماء بشكل راقص علي أنغام أغنية Live is life غير عابئ بالجماهير الألمانية المتأهبة للمباراة الحاسمة. يقول منافسه كلينسمان “كنا متوترين، نتدرب في الجانب الآخر من الملعب بجدية تليق بنا كألمان، وفجأة لمحنا ما يفعله مارادونا وانتبهنا إليه، بدأنا ننظر إليه واحدا تلو الآخر، ثم توقفنا عن الإحماء لنشاهد ما يفعله هذا المجنون.” قاد المجنون فريقه للفوز بالمباراة ليلتها، ثم أضاف اللقب الأوروبي الوحيد إلي خزائنهم.
»مارادونا هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم. دانت له بقدر ما دان، هو، لكرة القدم، التي صارت كرة قدمه، النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته لتفتتن بما تراه، لتراه من الجهات كلها، لتبهر في معجزة التكوين، لتصلي للخالق والمخلوق، لتحتفي بحرمانها المتحقق في غيرها، لتنشد نشيد المدائح لمن جعلها تُهزم بهذا الامتنان: فما أسعد من هزمته قدم مارادونا!.»*
>>>
بزغ نجم مارادونا لأول مرة عندما قاد بلاده للفوز بكأس العالم للشباب في1979 ولم يخفت أبدًا، أصبح نجمًا تحبه الأضواء ولا تلبث أن تظن أنه تواري وبعد عنها حتي تراه يتوسط الصورة مزيحًا عن طريقه نجومًا بارزين ليطغي هو بحضوره المميز وكاريزماته اللافتة، وأحيانًا بسلوكه المثير للجدل وربما المشين. رغم ما شاب مسيرته من إدمان ومافيا وكوكايين، لم يفقد مارادونا قلوب محبيه بل اكتسب مزيدًا من التعاطف، له نظرة تمتزج فيها براءة الأطفال باستهتار المراهقين، فلا تستطيع أمامها إلا أن تحبه.
ولد الدييجو بعد عام واحد من صعود فيديل كاسترو ورفاقه إلي سدة الحكم ودخول كوبا وأمريكا الجنوبية إلي منعطف تاريخي جديد. كان الطبيب الأرجنتيني جيفارا قد تعرف بالثائر الكوبي فيدل كاسترو في المكسيك. كان كل منهما في مكسيكوسيتي لأسباب مختلفة عن الآخر، كاسترو في رحلة بحث عن سلاح من أجل ثورته الوليدة وجيفارا بصحبة زوجته بحثًا عن عمل. انجذب الشاب الأرجنتيني ذو الصدر المريض إلي صديقه الكوبي ذي الذقن غير المشذبة، وتزاملا في صداقة غيرت مجري التاريخ.
بعد حوالي خمسين عاما، كان كاسترو علي موعد مع نجم أرجنتيني مريض آخر، وذلك عندما وجه كاسترو دعوة لمارادونا أن يأتي إلي الهافانا برحلة استشفائية من إدمانه للكوكايين الذي لازمه علي مدار خمسة عشر عاما، حيث أوقفه عن اللعب في أوج عظمته عام 1991 قبل أن يبعده عن اللعبة برمتها ويهدد حياته مرتين، توقف قلبه في ثانيتهما، إلا أنه أبي أن يفارق الحياة.
بعد شفاء النجم الكبير وعودته للأرجنتين، وقبيل تنحي كاسترو وتولية أخيه راؤول، رد فيدل الزيارة لصديقه حيث استضافه مارادونا ببرنامجه التليفزيوني (ليلة الرقم 10). لم يلتق كاسترو بجيفارا منذ مقتل الأخير ببوليفيا علي يد بعض العملاء الأمريكيين، إلا علي جسد مارادونا حيث احتل وشم لوجه كاسترو ساقه اليسري، وتمدد جيفارا علي ذراعه اليمني.
>>>
بدأ اهتمام دييجو بالسياسة مع بداية حرب الفوكلاند، كان مارادونا حاضرًا باستعدادات الأرجنتين لكأس العالم 1982، وكان الجنود اللاتينيون يتجهزون بساحة القتال، كلاهما يعرق ولكن لعرقهم طعم مختلف. لم يشارك مارادونا بالحرب ولم ينضم للجيوش، وجاء بعد أربعة أعوام ليخوض حربًا من نوع خاص، النوع الذي يجيده ويبرع فيه، عندما راوغ نصف لاعبي الفريق الإنجليزي (العدو) محرزًا الهدف الأجمل تاريخيا، وتبعه بهدف آخر مد فيه ذراعه لتدفع يده بلده نحو كأس العالم ونحو انتصار علي المنتخب البريطاني. عندما سُئل دييجو إن كان قد أحرز الهدف برأسه أم بيده، أجاب “نصفه برأسي ونصفه بيد الله”، تبدو لي الجملة صالحة للاستخدام كأساس لفلسفة عامة، فكل ما نفعله، كل حياتنا، نصفها برأسنا ونصفها بيد الله. انتقم مارادونا من الدولة الغنية التي سلبت جزيرتهم، وقال إن المباراة كانت هزيمة دولة وليست مجرد هزيمة منتخب كرة “بالرغم من أننا أعلنا من قبل أن الكرة لا علاقة لها بالحرب، إلا أننا نعلم أنهم قتلوا العديد من أطفال الأرجنتين، قتلوهم كما تُقتل العصافير الصغيرة... وهذا هو انتقامنا.”
>>>
»إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء.. وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصًبا لعارها في الفوكلاند.. سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح إنجلترا المغرورة الحرب مرتين.
ولكن مارادونا يتقدم بالكرة من حيث تراجعت السلطة، مارادونا يعيد الجزيرة إلي الأرجنتين، وينبّه الإمبراطورية البريطانية إلي أنها تحيا في أفراح الماضي.. الماضي البعيد.» *
>>>
في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، كان مارادونا جزءًا من الحملة الانتخابية للرئيس والنجم اليميني اللامع كارلوس منعم، وهو ما لا يتفق مع توجهات مارادونا السياسية التي سيتبناها لاحقًا علي إثر العلاقة التي ستربطه بفيدل كاسترو، فقد عُرف صاحب أمهر قدم يسري بالتاريخ لاحقًا بميوله اليسارية وتأييده المستمر لصديقه كاسترو وكذلك الزعيم الفنزويلي الراحل هوجو شافيز، “أنا أؤمن بشافيز، أنا شافيزي، كل شئ يفعله فيدل، كل شئ يفعله شافيز، هو الأفضل بالنسبة لي”. ولذا لم يفوت شافيز فرصة استغلال شعبية النجم الأرجنتيني عندما دعاه لافتتاح بطولة كوبا أمريكا في فنزويلا في 2007.
لم يتوقف دور مارادونا عند حدود قارته بل امتد نفوذ الأرجنتيني وشهرته إلي النصف الآخر من العالم، فدعاه الحزب الشيوعي الهندي لزيارته بعد فقدانه عددا كبيرا من المقاعد البرلمانية عام 2009، تمت دعوته لمقابلة جيوتي باسو، رئيس الحزب الماركسي، وافتتاح عدد من الملاعب الكروية، كانت الدعوة مصحوبة بصورة تجمع جيوتي باسو بفيديل كاسترو من أجل اقناع مارادونا وتحفيزه لقبول الدعوة.
زاد اهتمام مارادونا بالقضايا السياسية في سنوات اعتزاله، فهاجم بابا الفاتيكان وقال جملته الشهيرة “لقد ذهبت إلي الفاتيكان وشاهدت السقف الذهبي، ثم سمعت البابا يتحدث عن اهتمام الكنيسة بالأطفال الفقراء، إذن، بع السقف، افعل شيئًا يا رجل.”
كما لم يترك مارادونا فرصة إلا وهاجم الولايات المتحدة وسياساتها اللاإنسانية، أيد إيران في عهد أحمدي نجاد ضد الهيمنة الأمريكية، وخرج في عام 2005 بمظاهرة رافضة لزيارة بوش للأرجنتين مرتديا تي شيرت كُتب علي صدره (أوقفوا بوش) واصفًا إياه بالمزبلة البشرية. ووقف ذات يوم مرتديا الكوفية الفلسطينية ورافعا علمها فوق رأسه، سمعته يقول “إحنا ولاد الكلب الشعب، إحنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب، والضرب ببوز الجزمة وسن الكعب.” قلتها بالعربية وقالها بالإسبانية، ثم همس في أذني أنه يحب القصيدة، ولكنه لا يحب الأبنودي، كما لا يحب بيليه.
>>>
بعد ساعات من وفاة كاسترو، نشر مارادونا علي صفحته الشخصية علي الفيسبوك صورة قديمة تجمعه بالرئيس الكوبي السابق وهو يرتدي بدلته العسكرية ويضع يده فوق كتف مارادونا الذي ينظر إليه بابتسامة يملؤها الإعجاب، أو ربما الانبهار... ليس سهلا أن تُبهر شخصًا خاض كل طرق الحياة مثل مارادونا، إلا أن كاسترو قد فعل، بأفكاره وأقواله الحكيمة ولحيته الخشنة البيضاء وسيجاره الشهير. كتب مارادونا بجانب الصورة “مات صديقي، المؤتمن علي أسراري، الرجل الذي طالما نصحني، الرجل الذي اعتاد أن يتصل بي في أي وقت لنتحدث عن السياسة، كرة القدم، والبيسبول، الرجل الذي قال لي عندما ذهب كلينتون أن القادم أسوأ، وقد كان بوش. كالعادة لم يخطئ أبدا. بالنسبة لي كان فيدل، ومازال وسيظل، باقيًا إلي الأبد، الوحيد، الأعظم. إن قلبي ينزف لفقدان العالم للرجل الأكثر حكمة علي الإطلاق.”
>>>
»يدخل الملعب كأنه داخل إلي كنيسة، يغربل الدفاع ويهدّف، نجم هذا العصر، لن يجد الأطباء دمًا في عروقه، سيجدون وقود الصواريخ، يمر كالهواء عبر المساحات الضيقة، ملك الكرّة المتوّج الذي قال: سجلت الهدف الأوّل في مرمي الإنجليز بيد الله ورأس مارادونا».*
>>>
في عام 2000، قررت الفيفا أن تخصص جائزة لأفضل لاعب كرة قدم في القرن العشرين، وقررت المؤسسة الدولية أن يتم اختياره عن طريق تصويت جماهيري واسع، فاز مارادونا في التصويت بنسبة 53.6 %، بينما أقرب منافسيه كان بيليه الذي حصل علي 18.5 % فقط من الأصوات.
انزعجت الفيفا من تلك النتيجة، فبيليه مساند دائم للفيفا ومسئوليها بعكس مارادونا المعارض علي طول الخط. طلبت الفيفا من مارادونا في ذلك الحين أن يتقاسم الجائزة مع جاره البرازيلي الأسمر، إلا أنه رفض وقال إن الناس صوتوا له، وأنه لن يتقاسم الجائزة مع أي شخص آخر.
قبيل الاحتفال بأيام قليلة، وبشكل مفاجئ أعلنت الفيفا عن استحداث جائزة أخري لأحسن لاعب يختاره المختصون عبر لجنة للتحكيم، فاز بتلك الجائزة بيليه بفارق شاسع عن مارادونا الذي حل خامسا بعد أن فصلهما كرويف، وبيكنباور ودي ستيفانو علي التوالي.
يبدو لي هذا المشهد معبرا عن الفارق الأساسي بين مارادونا وبيليه، مارادونا الصعلوك، صاحب النزوات، المثير للجدل، مشعث الشعر، سليط اللسان، البعيد عن المناصب، وبين بيليه ذي البدلة الكاملة ورابطة العنق الأنيقة، صديق الفيفا، وزير الرياضة السابق، والمتهم في قضايا فساد مالي.
مارادونا بطل شعبي يشبه الناس بكل عيوبهم وبكل تلقائيتهم، تكرهه الفيفا وتضطهده، والثاني يشبه السلطة، بكل ادعائها وصلفها. كان دييجو نصابا وطنيا في كأس العالم 86، وكان فيلسوفا متدينا عندما قال إنها يد الله، ومظلوما باكيا بكأس العالم 1990، وهو أيضا المنكسر والمقاوم والفنان الفردي المنتصر للموهبة، الذي يشحذ حماس الناس لتشجيع شخص يشبه ملامحهم وأخطاءهم وانفعالاتهم، فيدك حصون الفرق ويواجه سدودها منفردًا هادمًا نظرية أن الكثرة تغلب الشجاعة – أو الحرفنة-.
عبّر مارادونا عما يميزه عن بيليه عندما قال “بيليه هو صديق من يديرون كرة القدم، أنا لست صديقهم، أنا مع اللاعبين.” وكما يليق ببطل شعبي فهو خفيف الظل، سليط اللسان، شتّام، وحاضر البديهة. عاني بيليه كثيرًا من التلاسن مع مارادونا عند تعليق الأخير علي آراء الأول، ففي مرة قال “علي بيليه أن يعود إلي المتحف.” وفي أخري قال “يبدو أن بيليه قد تعاطي دواءً خاطئا. أنصحه أن ينتظم بأدويته قبل أن يبدي أي آراء أخري.”، ولم يتوقف عن مهاجمته إلا بعد صلح تأخر لعقود.
عندما استضاف الممثل أحمد فهمي مارادونا في لقاء قصير بأحد البرامج قبيل كأس العالم الماضي، أخرج له الممثل صورة أحمد عدوية من جيبه وقال له إن البعض في مصر يعتقد أنه يشبه هذا المغني، نظر مارادونا إلي الصورة متعجبًا وقال “لا... بالطبع لا.” إلا أن بالتأكيد شيئًا ما يجمع بين ملامح مارادونا وملامح عدوية، شيئا بسيطًا ومحببًا إلي النفس، شعبويًا ربما، ولكنه جذاب.
كان دييجو قصيرًا وممتلئًا بجسد لا يشبه أجساد بيليه أو بيكنباور، أقرب إلي جسد عدوية أيضًا، لا يخضع مارادونا لقواعد القوام الرياضي، لا يخضع لأية قواعد، ولا يصلح للعمل كمدرب أو إداري، فهو يكره النظام والالتزام، يميل إلي التمرد، الفردية، وكسر القواعد، بل تحطيمها. ظلت تلك الصورة التي رسمها مارادونا للشخصية الأرجنتينيه مثارًا للجدل حتي يومنا هذا. كتب عبد الكريم الشطي ضمن ما كتب عن زيارته للأرجنتين في 2014 في مجلة العربي، أن عليك توخي الحذر قبل التعبير عن رأيك في ثلاث شخصيات عندما تكون في الأرجنتين، مارادونا، وايفيتا، ومغني التانجو كارلوس كارديل، حيث إن الخلاف بشأنهم حاد وعنيف. فأغلب الطبقة الأعلي والأغني أو ذات التوجه اليميني تكره مارادونا والصورة التي يمثلها، في حين أنه بطل خارق وربما قديس عند عامة الشعب، الفقراء، والطبقات الشعبية.
>>>
»مارادونا لا يسأل غريزته. سقراط البرازيلي هو المفكّر المشغول بتأملات ميتافيزيقية حول الضربة الركنية. وزيكو يلاحق كابوس ضربة الجزاء، التي طارت من الملعب فطارت البرازيل من الحلم. وبلاتيني يُحسّن شروط التقاعد. وبيليه الخبيث يُجاهد لإخفاء الشماتة التي تصيب الملوك المخلوعين، ولكن مارادونا يعرف شيئا واحدًا هو أن كرة القدم حياته وأهله وحلمه ووطنه وكونه. *
>>>
تغيرت كرة القدم، تبدلت طرقها، وتراجعت المهارة أمام القوة، وظهر ميسي وبزغ نجمه. يقول البعض إن الانحياز لميسي ضد رونالدو، مثله مثل الانحياز لفيدرير ضد نادال، هو انحياز للجمال في مواجهة القوة، للموهبة في مقابل الفتوة، للمتعة في مواجهة القبح... قد أتفق مع منطق هذه النظرة، تحديدًا فيما يخص فيدرير ونادال، إلا أنني لا أستغرب من مؤيدي الفريق الآخر، فالنموذج الذي يقدمه نادال أو رونالدو، المعتمد علي موهبة عادية، لا ليست عادية، فالموهبة بطبيعتها غير عادية، ولكننا قد نقول موهبة متكررة أو من طراز منتشر، غير فذة، مدعومة بإصرار وقوة لافتين، هو نموذج جذاب للبشر العاديين الذين يريدون التصديق بأنهم قادرون علي الوصول إلي القمة ومقارعة أكثر الموهوبين رغم عاديتهم... إنهم يشجعون في ذلك النموذج أنفسهم، فهو نموذج قادر علي بث الأمل في نفوسهم، عكس ما يمثله مارادونا وميسي من هبة إلهية خارقة، وربما غير إنسانية.
إلا أن ميسي يستحق نظرة من زاوية أخري، فهو لا يمثل الموهبة فقط، بل إنه يقدم نموذجًا أكثر تعقيدًا. فشل ميسي في كل المناسبات التي مثّل فيها بلاده، لم يقدم مع الأرجنتين نصف ما قدمه لبرشلونة، لا أتكلم هنا عن النتائج، ولكني أتكلم عن الأداء والحماس والعرق. أو كما قال مارادونا “عندما أشاهد ميسي مع منتخب الأرجنتين، أعتقد أنه سويدي جاء ليلعب معنا.”
ميسي يلعب في المنتخب بلا روح، ليس قائدا في الملعب وغير قادر علي بث الحماسة في فريقه. حاول بعض اللاعبين تأدية دور القائد نيابة عن ميسي، ماسكيرانو مثلا، لكن واقع الحال الذي يجعل من ميسي في أعين الجميع المتحكم الأول في أداء المنتخب، يقلل من قيمة حماسة ماسكيرانو أمام برودة ميسي.
مازلت لا أري لمارادونا منافسا كأفضل من لمس الكرة، سواء فاز ميسي بكأس العالم أو لا.. ربما مايزيد الفارق ويوسع الهوة هو شخصية مارادونا، روحه وقتاله. ورغم أن مارادونا يعتبر من أول اللاعبين المحترفين في العالم، إلا أن سلوكه لم يكن احترافيا قط، كان متمردًا، لم يلتزم بالقواعد، ولم يلعب لأغني الأندية، وظل يقدم لمنتخبه كل شئ، لا يخشي علي قدمه التي تساوي الملايين، ويظهر في أحسن حالاته بفانلتهم... أما ميسي فهو نموذج للاداء التجاري، الذي يرفع من قيمة النادي، ولي النعمة، صاحب رأس المال، ويقدم له كل شئ، مهمشا المنتخب. من هذه الزاوية قد نري ميسي نموذجًا للانتماء لرأس المال، نموذجًا للاحتراف الكامل، للخضوع لهذا العالم المادي، الفاقد لأي قيمة عاطفية منسحقًا أمام الشهرة والمال، للموهوب الذي يوظف مهاراته لمن يدفع أكثر، يلعب بجمود، فيقوم بالمهمة الموكلة إليه كموظف متمكن، ببرود، دون شغف، دون حماس، دون قلب، دون أن يصبح أبدًا مارادونا.
>>>
» فراغ الأمسيات يتقدّم منّا كطبل من حديد، فنحن لا ننتظر أحدًا.. سنجر الخطي الثقيلة في اتجاه بيروقراطية النفس والوقت، وسنضطر إلي قبول مواعيد أخري، نستعيد فيها الثرثرة اليومية حول المناخ، والعنصرية، والحروب الأهلية.
وسنتذكّر، لنسهر أكثر، عصرًا ذهبيًا عاصرناه: العصر الذي حلّ فيه مارادونا ضيفا علي لهفتنا، فأقلعنا عن كل شيء لنتفرغ لما مسّنا من طقس: محبة مارادونا، وتسييج قدميه بفضاء الرحمة، والقفز علي الشاشة لفك الحصار الألماني الثقيل، الذي يسد الهواء علي توتر عضلاته، وهجاء الحكم البرازيلي، الذي كسر قلب مارادونا، كما يكسر الرجل الغليظ القلب قلب طفل بريء.. لا لشيء إلا لأنه يغار من عبقرية الطفولة.»
* عن:
مارادونا يد تثور وقدم تكتب الشـعر
قبيل انطلاق كأس العالم بأيام اصطحبني أبي في مهمة خاصة بعمله، أو ربما زيارة لصديق، لا أذكر تحديدًا، أعطاني نسخة من جريدة لأقلب صفحاتها حتي أنشغل بها عنه، ربما كانت العربي الناصري، وجدت في الجريدة صفحة كاملة عن مارادونا بصورة له تمتد بطول الصفحة، صورته عندما كان عشرينيًا بشعر ناعم طويل وملامح طفولية جذابة. أدركت حينها للمرة الأولي أنه هو اللاعب الذي يراوغ الجميع بمقدمة اليوم المفتوح.
تابعت البطولة العالمية لأول مرة في حياتي، وبحثت عنه بين اللاعبين، كانت ملامحه مختلفة تماما عن صورة الجريدة، بدا عجوزًا بشعر قصير خشن وملامح أكثر جدية، غير أن فكرة العودة من الإيقاف والإدمان والعجز إلي المنافسة علي بطولة العالم من جديد استهوتني وأبهرتني. مازال مشهده وهو يمسك بعدسة الكاميرا ويصرخ في وجهها حتي تطاير الرذاذ علي عدستها بعدما أحرز هدفه بمرمي اليونان عالقًا بذاكرتي كصورة بطل شعبي يصرخ رافضًا الهزيمة.
>>>
حتي وإن لم تكن مهتمًا بالكرة ولا تهوي مشاهدتها، فإنك بالتأكيد تعرفه، هذا القصير مكتنز الجسم بقفزته الشهيرة وجريته الثعبانية. أما إن كنت من المهتمين بمتابعة كرة القدم، فلابد أنه قد أذهلك وسلب عقلك وتلاعب بمشاعرك وهو يحمل كأس العالم بابتسامة طفولية أو وهو يبكي بعد خسارة ظالمة في نهائي كأس العالم 1990، أو حتي عندما رأيته وقد زاد وزنه وأصبح أقرب إلي لاعبي السومو منه إلي لاعبي الكرة.
بدأتُ في متابعة كرة القدم منذ ذلك الحين، في نهاية عهد الأمهر علي الإطلاق مارادونا ومع بزوغ نجم الشباك وحاصد الأهداف جابرييل عمر باتيستوتا، وبسببهما أحببت الأرجنتين وعشقت اللونين الأبيض والسماوي، أصبحت أرجنتيني الهوي. كان ذلك قبل أن أقرأ لبورخيس أو أتابع رقصات التانجو أو أسمع موسيقي أوستور بياتزولا أو أشاهد فيلم (حكايات وحشية) أو أعرف عن جيفارا، ولكن بعد أن قرأت وشاهدت وسمعت وعرفت زاد حبي للدولة اللاتينية.
في2014، أدركت مدي التقارب بيننا وبين الأرجنتينيين، أقصد بيننا نحن المصريين وهم اللاتينيين، كان ذلك عند مشاهدتي لتحركات جماهيرهم العريضة الزاحفة إلي الجارة اللدود البرازيل في أثناء بطولة كأس العالم، حيث احتلوا الشوارع، مشوا في تجمعات أشبه بالمظاهرات في قلب العاصمة البرازيلية ينشدون أغاني تُحقر من بيليه وتسخر من البرازيليين، ركبوا المترو وهم نصف عرايا بسبب الحر، احتلوا المولات وملأوها بهتافاتهم، وسهروا علي الشواطئ وفي الشوارع حتي مطلع الفجر. بدا لي أن شيئًا مشتركًا يجمع بين شعبينا.
>>>
» له وجه طفل، وجه ملاك
له جسد الكرة
له قلب أسد
له قدما غزال عملاق». *
>>>
وكأي بطل أسطوري فحياة مارادونا محشوة بالدراما والدموع والعنف والصخب. كتب البريطاني ويل ماجي عما عاناه الأرجنتيني القصير عندما خرج من بوكا جونيورز إلي برشلونة لأول مرة في عام 1982. يقول ويل إن المدرب النحيف مينوتي، صاحب التأثير الكبير علي مارادونا، كان مشهورا بكرة قدم غير تقليدية ومبدعة، ومع انتقاله لتدريب برشلونة حاول أن يضع الفريق في إطار جديد، وبصورة يسكن مارادونا في قلبها. بينما كان أتلتيك بيلباو، أحد أقرب منافسيهم، يلعب بأسلوب أقل رومانسية، وأكثر اجتهادًا وعملية. لم تكن كرتهم قبيحة إلا أن وجود اللاعب المدعو جويكو في قلب دفاعاتهم، وصمهم بسمعة اللعب القاسي والعنيف. كان جويكو مدافعًا ضخمًا مفتول العضلات، من بلدة مكسوة باللون الأحمر وسط جبال الباسك الوارفة الخضراء، بوجه يشبه الأحجار المهشمة وبتعبيرات تنم عن تهديد ووعيد دائمين. كان جويكو رمزًا مخيفًا في قلب دفاع أتليتك بيلباو، ومنذ ظهوره الأول عُرف بتدخلاته الوحشية، وبدا وكأنه يستمتع بتدمير المنافسين بأية طريقة.
في سبتمبر 1983، استضاف برشلونة بيلباو في ملعب الكامب نو، ودمروه تمامًا. تقدم الفريق المُضيف بثلاثة أهداف في منتصف المباراة، صنع مارادونا اثنين منها. فقد جويكو عقله وهو يتابع مارادونا بعدما التقط الكرة مرة أخري في الثلث الأخير من ملعب بيلباو ليبدأ هجمة جديدة. عندها اندفع جويكو نحوه وقام بعرقلة وحشية من خلفه مهشما قدم مارادونا، تاركا إياه يصرخ في ألم بعد أن كسر كاحله بشكل بدا خطيرًا. كانت تلك العرقلة سببا في تسميته (جزار أتليتك بيلباو).
ليس من المبالغة القول بأن تلك العرقلة كان من الممكن أن تُنهي كل شئ لمارادونا، الرجل الذي سيفوز بكأس العالم ويصبح أعظم لاعبي الكرة. واجه دييجو فترة طويلة من البُعد عن الملاعب، وشهورا من التأهيل قبل أن يصبح قادرًا علي اللعب مجددًا. استشاط مينوتي غضبًا بعد الحادثة، ووصف جويكو بأنه واحد من عِرق (أعداء لاعبي كرة القدم)، ثم طالب بمنعه من اللعب لبقية حياته.
اعتذر جويكو مرارًا، مدعيًا أنه لم يتعمد أبدًا إصابة مارادونا. كان من الممكن تصديق تصريحات جويكو لو لم تذكر التقارير أن الجزار ظل محتفظا بالحذاء الذي ارتداه ذلك اليوم في حافظة زجاجية في بيته كتذكار لجريمته الكبري.
يكمل المدون البريطاني ويل ماجي قائلا إن مارادونا استطاع أن يعود أسرع من المتوقع، ولعب المباراة الثانية في الدوري ضد جويكو ورفاقه، مسجلا هدفين ليقود فريقه للفوز. بعدها شارك دييجو في نهائي كأس الملك الذي تصارع فيه برشلونه وبيلباو في مبارزة أخري، شهدت انقلابًا دراميًا حوّل خاتمة الموسم إلي صخب وعنف.
في تلك المباراة، أُصيب مارادونا بجرح جديد في ساقه إثر تدخل قوي من جويكو، تبعته صيحات مستهزئة وهتافات عنصرية من الجماهير الباسكية ضد النجم الأرجنتيني، بدأ الغضب في التملك من مارادونا حتي أظهر وجهه العنيف. بدأت في هذه اللحظة ما قد نعتبرها أعنف مشاجرة في بطولة محلية كبري، حيث وجه مارادونا ركبته نحو وجه ميجيل سولا بعد مشادة كلامية بينهما، فطرحه أرضًا قبل أن يبدأ دييجو في توزيع عدد من الركلات لمختلف لاعبي بيلباو. وفي خضم ركلات الكونج فو واللكمات التي تلت، استطاع جيوكو أن ينفرد بدييجو ويودّعه موجهًا له ضربة أخيرة بركلة طائرة.
كان ملك إسبانيا خوان كارلوس حاضرًا في المباراة النهائية، كما قُدر عدد مشاهديها في التليفزيون بنصف سكان إسبانيا، وأصيب العشرات في المشاجرات اللاحقة للمباراة. بعدها قرر مارادونا أن يرحل عن إسبانيا، كانت حادثة بيلباو هي السبب الرئيس لقراره بالانتقال إلي نابولي.
>>>
»لا يمكن إيقافه، كما لا يمكن للملك الأحمق أن يوقف موج البحر، هكذا يقول الخبراء الرياضيون الذين وجدوا في المرجعية الشعرية اللغة الوحيدة القادرة علي وصف هذا الشيطان الملائكي، صانع الفرص، نشّال ماهر، موجود في كل مكان، حوّل الملاعب المكسيكية إلي مرتعه الخاص.»*
>>>
لم يفز نابولي بالدوري إلا مرتين، كانتا في عهد مارادونا، كما قادهم للقبهم الأوروبي الوحيد، كان ما يدور في إيطاليا حينها بمثابة ثورة يقودها هذا الوافد اللاتيني القصير. لم يكن الأإيطاليون يصدقون ما يحدث، وبرز العداء بين نابولي وبين فرق الشمال، كل فرق الشمال وفي مقدمتهم ميلان واليوفتنتوس، علي خلفية تفوق أبناء الجنوب.
يقول إدواردو جاليانو في كتابه البديع (كرة القدم) “صار مارادونا في نابولي القديس مارادونا، وصارت تباع في الشوارع صورة الإله ذي السروال القصير، مضاءة بتاج السيدة العذراء أو ملفوفة بعباءة القديس الذي ينزف كل ستة شهور، وكانت تباع كذلك توابيت لأندية الشمال الإيطالي، وقوارير مملوءة بدموع برليسكوني، وكان الأطفال والكلاب يظهرون بشعور مستعارة مثل شعر مارادونا.”
يضيف جاليانو أن كل هدف أحرزه دييجو كان يعتبر تدنيسًا وانتهاكًا للنظام السائد وانقلابًا مضادًا لمسار التاريخ، حتي في كأس عالم 1990 المقام بإيطاليا كانت الجماهير تعاقب مارادونا بالصفير الساخط كلما لمس الكرة، حتي احتُفل في إيطاليا بهزيمة الأرجنتين أمام ألمانيا في المباراة النهائية بضربة جزاء خاطئة وكأنه انتصار إيطالي.
“عندما بدأ نادي نابولي يلعب أفضل كرة قدم في إيطاليا بتأثير مارادونا السحري كان رد فعل شمال البلاد هو أنها استلت أسلحة الازدراء القديمة، فالنابوليون الذين اغتصبوا الأمجاد المحظورة عليهم كانوا ينتزعون بذلك الغنائم من المتسلطين الأزليين، فما كان من هؤلاء إلا أن عاقبوا الغوغاء الدخيلة القادمة من الجنوب. فعلي مدرجات استادات ميلان أو تورين، كانت تُرفع اليافطات المُهينة : (أيها النابوليون، أهلا بكم في إيطاليا)
وبقوة أكبر من أي وقت مضي كانت تدوي أغنيات هي ابنة الخوف وحفيدة العنصرية :»يا للرائحة الكريهة.. حتي الكلاب تهرب.. النابوليون قد وصلوا.. آه للملونين للمزلزلين.. لا يمكن حتي للصابون أن ينظفهم.. نابولي أيتها البراز.. نابولي أيتها الطاعون.. أنتِ عار علي إيطاليا كلها.»
>>>
»مارادونا رفع كرة القدم إلي مستوي التجريد الموسيقي الشفاف، رفعها إلي الطهارة المطلقة. لعب مارادونا من أجل اللعب، وحوّل كرة القدم إلي أغنية راقصة، مزيج من السامبا البرازيلية والتانغو الأرجنتيني.»*
>>>
في العام الماضي، منحت مقاطعة نابولي الجنسية الشرفية لمارادونا، بعد شهور من تسميته سفيرًا لها في العالم، مارادونا هو رقم 10 الأخير في تاريخ الفريق الجنوبي بعدما اتخذوا قرارًا بمنع أي لاعب من ارتداء الرقم من بعده، مارادونا بمثابة ملك لنابولي، قديس أو إله. ركب دييجو في ليلة تتويجه بالجنسية الشرفية علي سطح عربة ضخمة، وجاب أنحاء المدينة، طاف وهو يغني بأعلي صوته للفريق بينما تجمع حوله المشجعون الجنوبيون، كانوا ينشدون “من لا يغني معنا اليوم، فهو من مشجعي اليوفنتوس”.
بات مارادونا جزءًا من ذاكرة نابولي، تحتل رسوم الجرافيتي لوجهه البنايات، والحوائط والأسوار، يبدو في رسومهم مناضلا أو مقاتلا ذا نظرة حادة وملامح حاسمة. لا يمكن لأي من مشجعي نابولي أن ينسي المشهد الأشهر لفريقهم، الغريب أنه ليس لقطة لهدف أو لحظة تتويج ببطولة، ليس مراوغة ثعبانية كالتي أدمنها الأرجنتيني، ليس حتي جزءا من مباراة، بل دقائق من إحماء فريقهم قبيل بداية مباراة نصف نهائي البطولة الأوروبية، حيث وقف مارادونا في قلب الملعب الألماني قبيل مواجهة مع شتوتجارت علي ملعب الأخير، وهو يؤدي حركات الإحماء بشكل راقص علي أنغام أغنية Live is life غير عابئ بالجماهير الألمانية المتأهبة للمباراة الحاسمة. يقول منافسه كلينسمان “كنا متوترين، نتدرب في الجانب الآخر من الملعب بجدية تليق بنا كألمان، وفجأة لمحنا ما يفعله مارادونا وانتبهنا إليه، بدأنا ننظر إليه واحدا تلو الآخر، ثم توقفنا عن الإحماء لنشاهد ما يفعله هذا المجنون.” قاد المجنون فريقه للفوز بالمباراة ليلتها، ثم أضاف اللقب الأوروبي الوحيد إلي خزائنهم.
»مارادونا هو النجم الذي لا تزاحمه النجوم. دانت له بقدر ما دان، هو، لكرة القدم، التي صارت كرة قدمه، النجوم تبتعد عن منطقة جاذبيته لتفتتن بما تراه، لتراه من الجهات كلها، لتبهر في معجزة التكوين، لتصلي للخالق والمخلوق، لتحتفي بحرمانها المتحقق في غيرها، لتنشد نشيد المدائح لمن جعلها تُهزم بهذا الامتنان: فما أسعد من هزمته قدم مارادونا!.»*
>>>
بزغ نجم مارادونا لأول مرة عندما قاد بلاده للفوز بكأس العالم للشباب في1979 ولم يخفت أبدًا، أصبح نجمًا تحبه الأضواء ولا تلبث أن تظن أنه تواري وبعد عنها حتي تراه يتوسط الصورة مزيحًا عن طريقه نجومًا بارزين ليطغي هو بحضوره المميز وكاريزماته اللافتة، وأحيانًا بسلوكه المثير للجدل وربما المشين. رغم ما شاب مسيرته من إدمان ومافيا وكوكايين، لم يفقد مارادونا قلوب محبيه بل اكتسب مزيدًا من التعاطف، له نظرة تمتزج فيها براءة الأطفال باستهتار المراهقين، فلا تستطيع أمامها إلا أن تحبه.
ولد الدييجو بعد عام واحد من صعود فيديل كاسترو ورفاقه إلي سدة الحكم ودخول كوبا وأمريكا الجنوبية إلي منعطف تاريخي جديد. كان الطبيب الأرجنتيني جيفارا قد تعرف بالثائر الكوبي فيدل كاسترو في المكسيك. كان كل منهما في مكسيكوسيتي لأسباب مختلفة عن الآخر، كاسترو في رحلة بحث عن سلاح من أجل ثورته الوليدة وجيفارا بصحبة زوجته بحثًا عن عمل. انجذب الشاب الأرجنتيني ذو الصدر المريض إلي صديقه الكوبي ذي الذقن غير المشذبة، وتزاملا في صداقة غيرت مجري التاريخ.
بعد حوالي خمسين عاما، كان كاسترو علي موعد مع نجم أرجنتيني مريض آخر، وذلك عندما وجه كاسترو دعوة لمارادونا أن يأتي إلي الهافانا برحلة استشفائية من إدمانه للكوكايين الذي لازمه علي مدار خمسة عشر عاما، حيث أوقفه عن اللعب في أوج عظمته عام 1991 قبل أن يبعده عن اللعبة برمتها ويهدد حياته مرتين، توقف قلبه في ثانيتهما، إلا أنه أبي أن يفارق الحياة.
بعد شفاء النجم الكبير وعودته للأرجنتين، وقبيل تنحي كاسترو وتولية أخيه راؤول، رد فيدل الزيارة لصديقه حيث استضافه مارادونا ببرنامجه التليفزيوني (ليلة الرقم 10). لم يلتق كاسترو بجيفارا منذ مقتل الأخير ببوليفيا علي يد بعض العملاء الأمريكيين، إلا علي جسد مارادونا حيث احتل وشم لوجه كاسترو ساقه اليسري، وتمدد جيفارا علي ذراعه اليمني.
>>>
بدأ اهتمام دييجو بالسياسة مع بداية حرب الفوكلاند، كان مارادونا حاضرًا باستعدادات الأرجنتين لكأس العالم 1982، وكان الجنود اللاتينيون يتجهزون بساحة القتال، كلاهما يعرق ولكن لعرقهم طعم مختلف. لم يشارك مارادونا بالحرب ولم ينضم للجيوش، وجاء بعد أربعة أعوام ليخوض حربًا من نوع خاص، النوع الذي يجيده ويبرع فيه، عندما راوغ نصف لاعبي الفريق الإنجليزي (العدو) محرزًا الهدف الأجمل تاريخيا، وتبعه بهدف آخر مد فيه ذراعه لتدفع يده بلده نحو كأس العالم ونحو انتصار علي المنتخب البريطاني. عندما سُئل دييجو إن كان قد أحرز الهدف برأسه أم بيده، أجاب “نصفه برأسي ونصفه بيد الله”، تبدو لي الجملة صالحة للاستخدام كأساس لفلسفة عامة، فكل ما نفعله، كل حياتنا، نصفها برأسنا ونصفها بيد الله. انتقم مارادونا من الدولة الغنية التي سلبت جزيرتهم، وقال إن المباراة كانت هزيمة دولة وليست مجرد هزيمة منتخب كرة “بالرغم من أننا أعلنا من قبل أن الكرة لا علاقة لها بالحرب، إلا أننا نعلم أنهم قتلوا العديد من أطفال الأرجنتين، قتلوهم كما تُقتل العصافير الصغيرة... وهذا هو انتقامنا.”
>>>
»إن هو لم يسدد ستموت الأرجنتين من البكاء.. وإن هو لم يصوّب سترفع الأرجنتين نصًبا لعارها في الفوكلاند.. سيتوقف الشعور القومي عن الرقص، وستربح إنجلترا المغرورة الحرب مرتين.
ولكن مارادونا يتقدم بالكرة من حيث تراجعت السلطة، مارادونا يعيد الجزيرة إلي الأرجنتين، وينبّه الإمبراطورية البريطانية إلي أنها تحيا في أفراح الماضي.. الماضي البعيد.» *
>>>
في مطلع العقد الأخير من القرن العشرين، كان مارادونا جزءًا من الحملة الانتخابية للرئيس والنجم اليميني اللامع كارلوس منعم، وهو ما لا يتفق مع توجهات مارادونا السياسية التي سيتبناها لاحقًا علي إثر العلاقة التي ستربطه بفيدل كاسترو، فقد عُرف صاحب أمهر قدم يسري بالتاريخ لاحقًا بميوله اليسارية وتأييده المستمر لصديقه كاسترو وكذلك الزعيم الفنزويلي الراحل هوجو شافيز، “أنا أؤمن بشافيز، أنا شافيزي، كل شئ يفعله فيدل، كل شئ يفعله شافيز، هو الأفضل بالنسبة لي”. ولذا لم يفوت شافيز فرصة استغلال شعبية النجم الأرجنتيني عندما دعاه لافتتاح بطولة كوبا أمريكا في فنزويلا في 2007.
لم يتوقف دور مارادونا عند حدود قارته بل امتد نفوذ الأرجنتيني وشهرته إلي النصف الآخر من العالم، فدعاه الحزب الشيوعي الهندي لزيارته بعد فقدانه عددا كبيرا من المقاعد البرلمانية عام 2009، تمت دعوته لمقابلة جيوتي باسو، رئيس الحزب الماركسي، وافتتاح عدد من الملاعب الكروية، كانت الدعوة مصحوبة بصورة تجمع جيوتي باسو بفيديل كاسترو من أجل اقناع مارادونا وتحفيزه لقبول الدعوة.
زاد اهتمام مارادونا بالقضايا السياسية في سنوات اعتزاله، فهاجم بابا الفاتيكان وقال جملته الشهيرة “لقد ذهبت إلي الفاتيكان وشاهدت السقف الذهبي، ثم سمعت البابا يتحدث عن اهتمام الكنيسة بالأطفال الفقراء، إذن، بع السقف، افعل شيئًا يا رجل.”
كما لم يترك مارادونا فرصة إلا وهاجم الولايات المتحدة وسياساتها اللاإنسانية، أيد إيران في عهد أحمدي نجاد ضد الهيمنة الأمريكية، وخرج في عام 2005 بمظاهرة رافضة لزيارة بوش للأرجنتين مرتديا تي شيرت كُتب علي صدره (أوقفوا بوش) واصفًا إياه بالمزبلة البشرية. ووقف ذات يوم مرتديا الكوفية الفلسطينية ورافعا علمها فوق رأسه، سمعته يقول “إحنا ولاد الكلب الشعب، إحنا بتوع الأجمل وطريقه الصعب، والضرب ببوز الجزمة وسن الكعب.” قلتها بالعربية وقالها بالإسبانية، ثم همس في أذني أنه يحب القصيدة، ولكنه لا يحب الأبنودي، كما لا يحب بيليه.
>>>
بعد ساعات من وفاة كاسترو، نشر مارادونا علي صفحته الشخصية علي الفيسبوك صورة قديمة تجمعه بالرئيس الكوبي السابق وهو يرتدي بدلته العسكرية ويضع يده فوق كتف مارادونا الذي ينظر إليه بابتسامة يملؤها الإعجاب، أو ربما الانبهار... ليس سهلا أن تُبهر شخصًا خاض كل طرق الحياة مثل مارادونا، إلا أن كاسترو قد فعل، بأفكاره وأقواله الحكيمة ولحيته الخشنة البيضاء وسيجاره الشهير. كتب مارادونا بجانب الصورة “مات صديقي، المؤتمن علي أسراري، الرجل الذي طالما نصحني، الرجل الذي اعتاد أن يتصل بي في أي وقت لنتحدث عن السياسة، كرة القدم، والبيسبول، الرجل الذي قال لي عندما ذهب كلينتون أن القادم أسوأ، وقد كان بوش. كالعادة لم يخطئ أبدا. بالنسبة لي كان فيدل، ومازال وسيظل، باقيًا إلي الأبد، الوحيد، الأعظم. إن قلبي ينزف لفقدان العالم للرجل الأكثر حكمة علي الإطلاق.”
>>>
»يدخل الملعب كأنه داخل إلي كنيسة، يغربل الدفاع ويهدّف، نجم هذا العصر، لن يجد الأطباء دمًا في عروقه، سيجدون وقود الصواريخ، يمر كالهواء عبر المساحات الضيقة، ملك الكرّة المتوّج الذي قال: سجلت الهدف الأوّل في مرمي الإنجليز بيد الله ورأس مارادونا».*
>>>
في عام 2000، قررت الفيفا أن تخصص جائزة لأفضل لاعب كرة قدم في القرن العشرين، وقررت المؤسسة الدولية أن يتم اختياره عن طريق تصويت جماهيري واسع، فاز مارادونا في التصويت بنسبة 53.6 %، بينما أقرب منافسيه كان بيليه الذي حصل علي 18.5 % فقط من الأصوات.
انزعجت الفيفا من تلك النتيجة، فبيليه مساند دائم للفيفا ومسئوليها بعكس مارادونا المعارض علي طول الخط. طلبت الفيفا من مارادونا في ذلك الحين أن يتقاسم الجائزة مع جاره البرازيلي الأسمر، إلا أنه رفض وقال إن الناس صوتوا له، وأنه لن يتقاسم الجائزة مع أي شخص آخر.
قبيل الاحتفال بأيام قليلة، وبشكل مفاجئ أعلنت الفيفا عن استحداث جائزة أخري لأحسن لاعب يختاره المختصون عبر لجنة للتحكيم، فاز بتلك الجائزة بيليه بفارق شاسع عن مارادونا الذي حل خامسا بعد أن فصلهما كرويف، وبيكنباور ودي ستيفانو علي التوالي.
يبدو لي هذا المشهد معبرا عن الفارق الأساسي بين مارادونا وبيليه، مارادونا الصعلوك، صاحب النزوات، المثير للجدل، مشعث الشعر، سليط اللسان، البعيد عن المناصب، وبين بيليه ذي البدلة الكاملة ورابطة العنق الأنيقة، صديق الفيفا، وزير الرياضة السابق، والمتهم في قضايا فساد مالي.
مارادونا بطل شعبي يشبه الناس بكل عيوبهم وبكل تلقائيتهم، تكرهه الفيفا وتضطهده، والثاني يشبه السلطة، بكل ادعائها وصلفها. كان دييجو نصابا وطنيا في كأس العالم 86، وكان فيلسوفا متدينا عندما قال إنها يد الله، ومظلوما باكيا بكأس العالم 1990، وهو أيضا المنكسر والمقاوم والفنان الفردي المنتصر للموهبة، الذي يشحذ حماس الناس لتشجيع شخص يشبه ملامحهم وأخطاءهم وانفعالاتهم، فيدك حصون الفرق ويواجه سدودها منفردًا هادمًا نظرية أن الكثرة تغلب الشجاعة – أو الحرفنة-.
عبّر مارادونا عما يميزه عن بيليه عندما قال “بيليه هو صديق من يديرون كرة القدم، أنا لست صديقهم، أنا مع اللاعبين.” وكما يليق ببطل شعبي فهو خفيف الظل، سليط اللسان، شتّام، وحاضر البديهة. عاني بيليه كثيرًا من التلاسن مع مارادونا عند تعليق الأخير علي آراء الأول، ففي مرة قال “علي بيليه أن يعود إلي المتحف.” وفي أخري قال “يبدو أن بيليه قد تعاطي دواءً خاطئا. أنصحه أن ينتظم بأدويته قبل أن يبدي أي آراء أخري.”، ولم يتوقف عن مهاجمته إلا بعد صلح تأخر لعقود.
عندما استضاف الممثل أحمد فهمي مارادونا في لقاء قصير بأحد البرامج قبيل كأس العالم الماضي، أخرج له الممثل صورة أحمد عدوية من جيبه وقال له إن البعض في مصر يعتقد أنه يشبه هذا المغني، نظر مارادونا إلي الصورة متعجبًا وقال “لا... بالطبع لا.” إلا أن بالتأكيد شيئًا ما يجمع بين ملامح مارادونا وملامح عدوية، شيئا بسيطًا ومحببًا إلي النفس، شعبويًا ربما، ولكنه جذاب.
كان دييجو قصيرًا وممتلئًا بجسد لا يشبه أجساد بيليه أو بيكنباور، أقرب إلي جسد عدوية أيضًا، لا يخضع مارادونا لقواعد القوام الرياضي، لا يخضع لأية قواعد، ولا يصلح للعمل كمدرب أو إداري، فهو يكره النظام والالتزام، يميل إلي التمرد، الفردية، وكسر القواعد، بل تحطيمها. ظلت تلك الصورة التي رسمها مارادونا للشخصية الأرجنتينيه مثارًا للجدل حتي يومنا هذا. كتب عبد الكريم الشطي ضمن ما كتب عن زيارته للأرجنتين في 2014 في مجلة العربي، أن عليك توخي الحذر قبل التعبير عن رأيك في ثلاث شخصيات عندما تكون في الأرجنتين، مارادونا، وايفيتا، ومغني التانجو كارلوس كارديل، حيث إن الخلاف بشأنهم حاد وعنيف. فأغلب الطبقة الأعلي والأغني أو ذات التوجه اليميني تكره مارادونا والصورة التي يمثلها، في حين أنه بطل خارق وربما قديس عند عامة الشعب، الفقراء، والطبقات الشعبية.
>>>
»مارادونا لا يسأل غريزته. سقراط البرازيلي هو المفكّر المشغول بتأملات ميتافيزيقية حول الضربة الركنية. وزيكو يلاحق كابوس ضربة الجزاء، التي طارت من الملعب فطارت البرازيل من الحلم. وبلاتيني يُحسّن شروط التقاعد. وبيليه الخبيث يُجاهد لإخفاء الشماتة التي تصيب الملوك المخلوعين، ولكن مارادونا يعرف شيئا واحدًا هو أن كرة القدم حياته وأهله وحلمه ووطنه وكونه. *
>>>
تغيرت كرة القدم، تبدلت طرقها، وتراجعت المهارة أمام القوة، وظهر ميسي وبزغ نجمه. يقول البعض إن الانحياز لميسي ضد رونالدو، مثله مثل الانحياز لفيدرير ضد نادال، هو انحياز للجمال في مواجهة القوة، للموهبة في مقابل الفتوة، للمتعة في مواجهة القبح... قد أتفق مع منطق هذه النظرة، تحديدًا فيما يخص فيدرير ونادال، إلا أنني لا أستغرب من مؤيدي الفريق الآخر، فالنموذج الذي يقدمه نادال أو رونالدو، المعتمد علي موهبة عادية، لا ليست عادية، فالموهبة بطبيعتها غير عادية، ولكننا قد نقول موهبة متكررة أو من طراز منتشر، غير فذة، مدعومة بإصرار وقوة لافتين، هو نموذج جذاب للبشر العاديين الذين يريدون التصديق بأنهم قادرون علي الوصول إلي القمة ومقارعة أكثر الموهوبين رغم عاديتهم... إنهم يشجعون في ذلك النموذج أنفسهم، فهو نموذج قادر علي بث الأمل في نفوسهم، عكس ما يمثله مارادونا وميسي من هبة إلهية خارقة، وربما غير إنسانية.
إلا أن ميسي يستحق نظرة من زاوية أخري، فهو لا يمثل الموهبة فقط، بل إنه يقدم نموذجًا أكثر تعقيدًا. فشل ميسي في كل المناسبات التي مثّل فيها بلاده، لم يقدم مع الأرجنتين نصف ما قدمه لبرشلونة، لا أتكلم هنا عن النتائج، ولكني أتكلم عن الأداء والحماس والعرق. أو كما قال مارادونا “عندما أشاهد ميسي مع منتخب الأرجنتين، أعتقد أنه سويدي جاء ليلعب معنا.”
ميسي يلعب في المنتخب بلا روح، ليس قائدا في الملعب وغير قادر علي بث الحماسة في فريقه. حاول بعض اللاعبين تأدية دور القائد نيابة عن ميسي، ماسكيرانو مثلا، لكن واقع الحال الذي يجعل من ميسي في أعين الجميع المتحكم الأول في أداء المنتخب، يقلل من قيمة حماسة ماسكيرانو أمام برودة ميسي.
مازلت لا أري لمارادونا منافسا كأفضل من لمس الكرة، سواء فاز ميسي بكأس العالم أو لا.. ربما مايزيد الفارق ويوسع الهوة هو شخصية مارادونا، روحه وقتاله. ورغم أن مارادونا يعتبر من أول اللاعبين المحترفين في العالم، إلا أن سلوكه لم يكن احترافيا قط، كان متمردًا، لم يلتزم بالقواعد، ولم يلعب لأغني الأندية، وظل يقدم لمنتخبه كل شئ، لا يخشي علي قدمه التي تساوي الملايين، ويظهر في أحسن حالاته بفانلتهم... أما ميسي فهو نموذج للاداء التجاري، الذي يرفع من قيمة النادي، ولي النعمة، صاحب رأس المال، ويقدم له كل شئ، مهمشا المنتخب. من هذه الزاوية قد نري ميسي نموذجًا للانتماء لرأس المال، نموذجًا للاحتراف الكامل، للخضوع لهذا العالم المادي، الفاقد لأي قيمة عاطفية منسحقًا أمام الشهرة والمال، للموهوب الذي يوظف مهاراته لمن يدفع أكثر، يلعب بجمود، فيقوم بالمهمة الموكلة إليه كموظف متمكن، ببرود، دون شغف، دون حماس، دون قلب، دون أن يصبح أبدًا مارادونا.
>>>
» فراغ الأمسيات يتقدّم منّا كطبل من حديد، فنحن لا ننتظر أحدًا.. سنجر الخطي الثقيلة في اتجاه بيروقراطية النفس والوقت، وسنضطر إلي قبول مواعيد أخري، نستعيد فيها الثرثرة اليومية حول المناخ، والعنصرية، والحروب الأهلية.
وسنتذكّر، لنسهر أكثر، عصرًا ذهبيًا عاصرناه: العصر الذي حلّ فيه مارادونا ضيفا علي لهفتنا، فأقلعنا عن كل شيء لنتفرغ لما مسّنا من طقس: محبة مارادونا، وتسييج قدميه بفضاء الرحمة، والقفز علي الشاشة لفك الحصار الألماني الثقيل، الذي يسد الهواء علي توتر عضلاته، وهجاء الحكم البرازيلي، الذي كسر قلب مارادونا، كما يكسر الرجل الغليظ القلب قلب طفل بريء.. لا لشيء إلا لأنه يغار من عبقرية الطفولة.»
* عن:
مارادونا يد تثور وقدم تكتب الشـعر