ألف ليلة و ليلة هادي حسن حمودي - "الف ليلة وليلة" تسترد مؤلفها وعمرها وبيئتها.. مؤلف واحد وضع "الليالي" بعدما خطط لها وقسمها على الحكايات (1 من 5)

قراءة متأنية في "ألف ليلة وليلة" تقودنا الى الاقتناع بأن هذا الكتاب الباقي على وجه الأيام له مؤلف واحد، وظهر في بيئة محددة المعالم واضحة القسمات.

وللبرهنة على ذلك، لا بد ان نعيد قراءة تلك الليالي ونقارن حكاياتها بعضها ببعض، ونتعمق في متونها لنصل الى قرار نراه صائباً في شأن اختلف فيه الأولون والآخرون كثيراً وأعلنوا عجزهم عن تحديد مؤلفه المبتكر له. وسنتخذ من أسلوب الكتاب، ومضامين حكاياته، وتكرر أشعاره وأمثاله، ورسم طرق التجارة والمواصلات فيه، وسيلة لتحقيق هدف هذه المقالات في تحديد صورة المؤلف والبيئة التي ظهر فيها.

هذا الكتاب جنت عليه الأيام كثيراً، فقد تداولته الأيدي، ايدي النساخ والقصّاص والرواة والحكواتية في المقاهي الشعبية والأعياد، بالتبديل والتعديل والاضافة والحذف كثيراً. ثم جاء العصر الحديث، بمطابعه ودور نشره، فزاد مسخ الكتاب كثيراً وصرنا نطالع كل حين طبعة له تختلف عن سابقاتها، وكل فئة تريد ان تنسب الكتاب اليها وتعده حكراً على تراثها الثقافي، فتعمد الى تحريفه وتغيير الفاظه وأسماء أماكنه وبقاعه، لتستطيع الزعم بأنه ملك صرف لها. حتى اذا قامت الشواهد والأدلة التي لا تقبل الجدل على انه ابن بيئة اخرى، ومن غير التفات الى ان الزمان قد تغير ولم تكن الأمور قديماً على ما هي عليه اليوم. فالبلاد العربية والاسلامية كانت واحدة ويستطيع أي فرد فيها ان يسافر من أي مكان الى أي مكان آخر من غير حاجة الى جواز سفر، أو وثيقة مرور أو تأشيرة دخول. ولذا فإن من البعيد عن روح العلم ان تزيف وقائع الكتاب ليصار الى التفاخر بأنه من مدن دولة كانت تمتد حدودها من مشرق الشمس الى مغربها، وكان الناس يتنقلون بين أرجائها من غير ان يشعر أحدهم بأن انتماءه الى مدينته التي ولد فيهها هو شرف له وان عليه ان يتباهى بذلك وان يفتخر به، فالفخر كان بكل البلاد وكل المدن ولم يكن ثمة تفاضل بين مدينة وأخرى.

ومن هنا فإن اعادة قراءة كتاب "الف ليلة وليلة" لاثبات اسم مؤلف ما زال مجهولاً، والوصول الى أول مدينة ظهر فيها، لا تعني أكثر من تحقيق أمر تاريخي لا بد من الوصول به الى نتيجة تضع الحق في نصابه.

ومن أجل الوصول الى قول فصل في الخلاف الناشب حول ليالي شهرزاد، ونظراً الى اختلاف الطبعات والنسخ وتباينها، ولكي نصل الى أقرب الأقوال للصحة والصواب كان لا بد من العودة الى أقدم نصوص الكتاب، واعادة قراءتها.

للكتاب نسخ عدة، تامة وناقصة. وهناك حكايات اخرى صيغت على منواله، والحقت به في الطبعة المصرية الأخيرة، ولكنها ليست منه بأي حال من الأحوال. كما ان هناك حكايات اخرى في مخطوطات منتشرة في مكتبة باريس الوطنية ولندن ودبلن وطهران وخراسان والقاهرة ودمشق وبغداد، بعضها مما نراه في "ألف ليلة وليلة" وبعضها لا نراه فيها، لأنه ليس منها، مثل "حكاية علي بابا والأربعين حرامي".

لعل أقدم نسخة كاملة من الكتاب هي نسخة مكتبة حيدر أباد الدكن، اذ يعود تاريخ نسخها الى سنة 442 للهجرة، بحسب ما جاء في آخرها: "هذا ما وقع الي من نسخة الف ليلة وليلة، انتسختها في ظاهر مدينة الكوفة في الثامن من شهر ربيع الأول، واتممت املاءها على طلاب القصص والاذكار في الخامس من رجب المرجب سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة للهجرة، على صاحبها وآله وصحبه السلام، وكتبه الفقير الى رحمة ربه محمد كريم الدين بن أحمد اللنكري".

فالنسخة اذن منقولة عن نسخة سابقة لها. لا نستطيع تخمين تاريخها بشكل دقيق، ولكنها بالتأكيد سابقة على القرن الخامس الذي نسخت فيه نسخة حيدر أباد. وتلك النسخة الأصلية كانت موجودة في مدينة الكوفة، في العراق، والكوفة ذات تاريخ عريق في العلم والعلماء والعناية بالكتب والمكتبات. فاما القطعة الموجودة من الكتاب في المعهد الشرقي في جامعة شيكاغو، فيعود تاريخها الى القرن الرابع لا القرن الثالث كما ذكر كوركيس عواد في كتابه "أقدم المخطوطات العربية في مكتبات العالم". ولما كانت هذه النسخة قطعة صغيرة من الكتاب فوجب علينا ان نجعل نسخة حيدر أباد الأساس الذي نعتمده في الوصول الى ما نروم الوصول اليه، ولو كانت النسخة المشار اليها قد احتوت على اسم المؤلف لكفتنا مؤونة البحث والتحليل والمقارنة.

نلاحظ ان الكتاب أساساً منظّم على الليالي، وعددها مذكور في عنوانه، وكذلك ما ذكره الناسخ في آخره. فلا بد، اذن، ان يكون ثمة كاتب واحد، خطط لحكاياته وقسمها على عدد معين من الليالي، منطلقاً من فكرة واحدة وهي ان ملكاً من الملوك وهو شهريار اكتشف خيانة زوجه، فصم على قتل أية فتاة يتزوجها، حتى تظهر شهرزاد فتقص عليه تلك الحكايات، وتجعله يقلع عن تصميمه ذلك. ولو كان للكتاب أكثر من مؤلف لاختفت الفكرة الرئيسية من الكتاب، وأصبح كل كاتب جديد يضيف ما شاء من الحكايات، ولن يكون هناك حد معين لليالي، ولا للفكرة الرئيسية فيه، ولا للخاتمة التي وصل اليها الكتاب. أسلوب التعبير في جميع الحكايات متماثل، ولا ننسى اننا نقرأ الآن نسخة واحدة منه، لا نسخاً متعددة تتعدد أساليبها وتتغير باسم التنقيح والذوق والمحافظة على الحياء العام، ما أدى الى وقوع اختلافات جمة في الأساليب. وعلى رغم تلك المتغيرات الا انك تجد في كل نسخة حافظت ولو على شيء قليل من أصل الكتاب تشابهاً كبيراً في الأساليب المستخدمة في حكايات الكتاب المختلفة.

فنقرأ: "وكل واحد منهما حاكم عادل في رعيته مدة عشرين سنة" التي وردت في أولى الحكايات وهي المتعلقة بشهريار وأخيه وامرأتيهما. اذ ترددت هذه الجملة في أكثر من حكاية، منها "حكاية عمر النعمان" و"حكاية أنيس الجليس".

ونقرأ: "فحمل عنده غم زائد واصفر لونه وضعف جسمه" المذكورة في الحكاية نفسها، ثم في حكاية "شاه زمان" وحكاية "شركان وأخيه ضوء المكان" وحكاية "أيوب وقوت القلوب".

ويبدو لنا ان المؤلف لديه ذخيرة من التعابير والجمل التي تشكل أساساً للكتابة، بحيث يعيدها كلما سنحت له الفرصة، بدءاً من أولى الحكايات والى آخر ليلة من الليالي. ويمكن احصاء جانب منها، هنا:

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 200 و250 مرة موزعة على الكتاب كله، وقد يتكرر بعضها في ليلة واحدة، وخصوصاً اذا كانت الليلة طويلة بعض الشيء:

فسلما على بعضهما بعضاً. واذا بالجواري وسيدتهم دخلوا مع العبيد وفعلوا كما قال أخوه واستمروا كذلك الى العصر. فلما رأى الملك شهريار ذلك الأمر طار عقله من رأسه. فلما رأى الوزير دندان طار عقله من رأسه. فلما رأى الحكيم حالة قوت القلب طار عقله من رأسه. وجاء الأحدب الى عروسه، فرأى الجني جالساً عندها، فطار عقله من رأسه. فلما نظر في البئر وطالعه وجه الغولة، طار عقله من رأسه، لا تخاطري بنفسك، وقضى أيوب جميع تعلقاته. وقضى علاء الدين أبو الشامات جميع تعلقاته من بلاد الشام. فانتحب ذلك التاجر وبكى، وأعلن الثلاثة الشيوخ بالبكاء والعويل والنحيب. واجتمع قمر الزمان على الدراويش السبعة، وأعلن بالبكاء والنحيب، فبكى لبكائه الدراويش السبعة وأعلنوا بالدموع. وأنا سكران من غير مدام من كثرة الفرح والسرور الذي حصل لي الى ان أتيت داره. وسار اصلان بين العساكر وهو سكران من فرط الغرام، وما به شيء من شرب المدام، ولكن من كثرة الفرح والسرور الذي حصل له. الى ان أتى قدام الملك. قومي فاعملي سحراً واسحري من سحرته الجنية. فلما سمعت كلامي أخذت طاسة ملأتها ماء، ثم انها عزمت عليها ورشت بها العجل.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 150 الى 200 مرة:

فإن روحي وصلت الى قدمي. فان روحي نزلت الى ساقي. فان قلبي نزل الى قدمي هذا على العكس مما شاع في ما بعد حيث اخذت الروح توصف بالطلوع والصعود لا بالنزول الى القدمين. ان كنت نائماً فاستيقظ وتعاد هذه الجملة في جميع المواضع التي فيها تحذير أو تنبيه من غفلة، أو تهديد أمن، أو التخويف. ثم أخذ السمك ودخل به منزله وأتى بماجور ثم ملأه ماء وحط فيه السمك. ثم أخذ اللحم الضاني ودخل به منزله وقال لامرأته هاتي الماجور وحطي فيه اللحم الضاني واملئيه ماء وضعيه على النار. ثم ان الشاطر حسن قام الى الفرس فذبحها وأمر بماجور فوضع فيه اللحم والماء والملح والبزور والتوابل ووضعه على النار. وجاء ابن عمي ومعه طاسة فيها ماء وكيس فيه جبس وقدوم، ثم انه أخذ القدوم وجاء الى قبر في وسط التربة ففكه ونقض الحجارة الى ناحية التربة ثم حفر بالقدوم في الأرض حتى كشف عن طابق قدر الباب الصغير.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 100 و150 مرة:

يا أبت كانت عندي وأنا صغيرة عجوز ماكرة ساحرة علمتني السحر وقد حفظته واتقنته وعرفت مئة وسبعين باباً من أبوابه أقل باب منها أنقل حجارة مدينتك خلف جبل قاف، واجعلها لجة بحر واجعل أهلها سمكاً في وسطه. ونظر عبدالرحمن الى البحيرة فوجد سمكها ألواناً وهم مسحورون. ولطم على وجهه وشق ثيابه. ثم ان بنت الملك أخذت بيدها سكيناً مكتوباً عليها أسماء عبرانية وخطت دائرة في الوسط وكتبت أسماء وطلاسم. فأولاً عدمت ابنتي التي كانت تساوي مئة رجل، وثانياً جرى لي من الحريق ما جرى، وعدمت اضراسي ومات خادمي. فعدمته العافية. فلما رأت تودد الجارية ان سيدها قد عدمته العافية قامت ونهضت اليه: وقلت بعيني لا بروحي، فأردت ان أتفرج على الجزائر فترات في عشرة مراكب وأخذت معي مؤونة شهر وسافرت. ابشروا بهلاكنا جميعاً ولن يسلم منا أحد واستعمال البشرى في مثل هذا المورد غريب جداً، وبرغم ذلك فقد تكرر كثيراً، ومن الواضح انه استعمال خاص لكاتب محدد، لأنه ليس من الأساليب الشائعة ولا من الاستعمالات اللغوية المعروفة. أبشر بهلاك ابنك وهتك حرمة ابنتك. ابشر بزوال ملكك وقتلنا جميعاً. ويروح كل مسمار في المركب الى جبل المغناطيس ويلتصق به، لأن الله وضع في حجر المغناطيس سراً. وحاولت الطلوع على الجبل وصرت اتمسك بالنقر التي فيه. يا جماعة الى أين تذهبون. ان لي حديثاً لو كتب بالإبر على آماق البصر لكان عبرة لمن اعتبر. ثم ان الخليفة طلع الى قصره. ثم ان الوزير طلع الى مرتبته. ثم ان حسن بدرالدين طلع الى الديوان، والذي سلمني في الأول يسلمني في الثاني.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 50 - 100 مرة:

فجاءت موجة كالقلعة العظيمة فحملتني وقذفتني قذفة صرت بها فوق البر، فطلعت وعصرت ثيابي ونشفتها على الأرض. وبت، فلما أصبحت فبت ولبست ثيابي. واذا بصبية خرجت من الناموسية، فإن الرجل الجيد قليل في هذا الزمان، قمت وهيأت حالي. فقمت وأخذت جواري معي وسرت حتى اتينا الى زقاق، هب النسيم فيه وراق. وفي داخلها قصر قد قام من التراب وتعلق في السحاب. قاعة مفروشة. فوجدنا دهليزاً مفروشاً بالبسط مضاء بقناديل موقدة وشموع مضيئة وفيه الجواهر والمعادن أشكالاً، فمشينا في الدهليز الى ان دخلنا قاعة مفروشة وفي صدرها سرير من المرمر مرصع بالدر والجوهر، وعليه ناموسية من الأطلسي واذا بصبية خرجت من الناموسية مثل القمر ليلة أربعة عشر. فخرج شاب أزهر مثل القمر ليلة أربعة عشر.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 25 الى 50 مرة:

وقدموا لنا السماط فأكلمنا حتى اكتفينا. وعملهم حجاباً عنده. سلامتك من هذه الوقعة يا سيد الأمراء وكهف الفقراء. والله ما بقيت أخرج من بيتي ثلاثة أيام. قصدي ان أتفرج خارج المدينة. ولكن أنت تريد ان تعمل معي على رأي الذي قال ان أردت ان ترده اجعل الثمن غالياً. يا ولدي لا تطاوع النفس فترميك في الهلاك، فإن البلدان خراب وأنا أخاف عليك من عواقب الزمان. ثم انه أمر بوضع الخرج على البغلة والبساط والسجادة. فجعلت اني أشربه مثل عادتي ودلقته. فقمت وتبعتها الى ان خرجت من القصر وشققت في أسواق المدينة. ولولا اني أخاف خاطرك لكنت قد جعلت المدينة خراباً، ثم رمت نفسها في تلك البحيرة، وتارة بصيغة المذكر. احذر من هذه الفعال القبيحة التي لم يفعلها أحد من قبلك ولا يفعلها أحد بعدك، وإلا نبقى بين الملوك بالعار والنقصان الى الممات وتشيع اخبارنا مع الركبان.

< بعض من الأساليب التي وردت في ما بين 10 الى 25 مرة:

وقرأت القرآن على سبع روايات وتارة بسبع روايات أو سبع قراءات، وقرأت الكتب على أربابها من مشايخ العلم وقرأت علم النجوم وكلام الشعراء واجتهدت في سائر العلوم حتى فقت أهل زماني. ثم سرت منها حتى وصلت الى مدينة عامرة بالخبر. قد ولى عنها الشتاء ببرده، وأقبل عليها الربيع بورده. فزاد له الجوامك والجرابات. فلما توفي الوزير اخرجه خرجة عظيمة. والقصد انك تأخذ درجاً من الورق وتكتب ما أمليه عليك. فاحضر قرطاساً وصار يكتب. هل في الأمر مهلة حتى أدخل فآخذ معي شيئاً من الدنيا لاستعين به على الغربة. غطى رأسه بذيله وخرج هارباً. وقبض الثمن على سبيل التعجيل. كيف يخطب مثلي من مثلك بنتاً فتمنعها عنه وتحتج بحجة باردة. وحياة رأسي. وحطه على مصطبة. وأريد ان أعمل معك شيئاً لله. فما هذا بحولك وقوتك ولكنه بحول الله وقوته. فأمر الجواري ان يطرحنه فطرحنه ونزل عليه بالضرب الوجيع. فحزن على روحه وصار يتفكر في نفسه. فحدثه بحديثه وما جرى له ولأخيه من المبتدى الى المنتهى.

هذه نماذج دالة عما وراءها من شواهد أسلوبية عدة تؤكد ان مؤلف الليالي كاتب واحد لأن من المستحيل ان يستعمل أكثر من كاتب الذخيرة اللغوية الواحدة. فلكل كاتب قديماً وحديثاً معجمه اللغوي، وأسلوبه الذي يمتاز به عن غيره. كما ان من المستحيل ان تكون هذه الحكايات أساطير وخرافات شعبية لملمها ذلك الكاتب. بل العكس هو الصحيح، حيث ان كاتباً ما ألف تلك الحكايات بقضها وقضيضها، وكتبها، وأذاعها بين الناس فانتشرت وأصبحت بمثابة الذاكرة الشعبية.

* باحث وجامعي عراقي - لندن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى