- يا سيد عشماوي؟
- نعم سعادتو.
وضع الضابط مدير السجن نظارته على سطح مكتبه الوثير ومسح عينيه بجماع أصابع يده اليمنى.
- يا سيد عشماوي.. أنت الآن اكملت خمسة عشر عاما في عملك هذا... وقبلها كان والدك رحمه الله هو من يقوم بهذه الوظيفة...
- نعم سعادتك..
- لقد كنت منضبطا تماما خلال تلك السنوات لكنك في الآونة الأخيرة بدأت تنفلت.. هل تعرف أن ما يحدث منك أمر خطير..
- مالذي يحدث مني با سيدي؟
- أنت تعرف ..
أشعل الضابط سجارة وتراجع بظهره الى الخلف ثم استرخى جسده على الكرسي الوثير مائلا قليلا إلى اليسار:
- لماذا قبل أن تكتمل الاجراءات المنصوص عليها قانونا تقوم بإعدامهم...أنا كمدير للسجن ووفقا للمادة أربعين من قانون تنظيم السجون مسؤول كامل المسؤولية عن تنفيذ أحكام الإعدام...مع ذلك وقبل اكتمال تلاوة الحكم تقوم أنت برفع مزلاج المشنقة.. لقد صمت على ذلك مرتين وثلاث وأربعة لكنني لن استطيع أن احميك أكثر من هذا...
- يا سعادتو المادة التاسعة والثلاثون من نفس القانون أوجبت عدم تأخير تنفيذ الاعدام.. أي أنني لم أخالف القانون بل على العكس أنا أطبق القانون...
- كأبيك تماما.. تحب المجادلة .. يا عزيزي هناك ضوابط للقيام بعملية الاعدام... لابد من استيفائها .. عندما تتجاهل هذه الشروط فأنت تسيء لنفسك ووظيفتك.. وهذا يتطلب توقيع جزاء عليك ... أنت تقتلهم قبل ميعاد موتهم.. حتى لو كان ذلك قبل ثوان فقط...
- سعادتو... إنهم ميتون حتما.. ثانية أو ثانيتين لن تفرق... دعني أعيد عليك بعض التفاصيل التي تعلمها أنت جيدا منذ تحويل المحكوم عليه بأورنيك واحد وثلاثين للانتظار .. هناك يتم ابلاغ المدان صباحا .. تخيل يا سيدي أن يوقظك شخص من نومك -إذا استطعت أن تنام أصلا- ويقول لك: استعد.. سيتم اعدامك بعد قليل...ثم تقوم انت كمدير للسجن بطرح موعظة ركيكة وبائسة عن مسائل الايمان والقضاء والقدر على مسامعه وهو أساسا لا يسمع مما تقوله حرفا واحدا ... يتم بعدها نقل المدان إلى غرفة اللحظات الأخيرة.. حيث الصمت المطبق .. الصمت يا سيدي الذي يجعلك تموت آلاف المرات .. بعدها تنقلون الرجل للفحص الطبي.. الفحص الذي ربما كان أول فحص مجاني حصل عليه من الحكومة الموقرة في حياته بغرض التأكد من موته بالشنق وليس سواه...يتم وزنه ليس حبا فيه بل للتأكد من أن الحبل الذي يلف حول رقبته سيتحمل جثته ولن ينقطع .. كل ذلك وهو يعرف أنه يتجه إلى الموت .. يحصل المدان على فرصة اللقاء بالأحبة من الأقارب للمرة الأخيرة ... حينما يرونه ينظرون الى كائن ميت وينظر لهم كما لو كانوا كائنات فضائية ... بعدها يتم اقتياده للمشنقة وقد احاط به مدير السجن والطبيب والقاضي الذي أصدر الحكم وبضعة عساكر...أنا أقف يا سيدي هناك وأراهم وهو يتجهون نحوي .. بعضهم يتبول على ملابسه وبعضهم يتغوط وهو ينظر للأرض بعين كسيرة بعضهم يصاب بلوثة وبعضهم تتجمد قدماه وبعضهم لا تقوى أقدامهم على حمل اجسادهم .. وبعضهم-وهؤلاء قلة- يتجهون نحوي بخطى ثابتة وجأش رابط وكأنهم يريدون الانتهاء من اجراء روتيني ممل...لكن..وبغض النظر عن هذه القلة الاستثنائية فإن إجراءات اعدام الشخص التي لا تشعرون بطولها هي بالنسبة لهذا المسكين تبدوا كمن يدخل في كابوس أبدي مرعب .. كابوس يبدأ منذ هزه من اصبع قدمه الكبرى فجرا .. واخباره ببرود أن اليوم هو ساعة موته ليتجهز ... يتجهز ؟ اللعنة .. ليتجهز .. إنني ارفع المزلاج بسرعة لاختصر كل هذه التفاهات .. التفاهات التي تدمرهم نفسيا قبل أن ينهار جسدهم بيولوجيا ... أخلصهم من الكابوس الذي يمتد لساعات ما قبل موتهم ..
- أفهم ذلك يا عشماوي.. أفهم أن عملك هذا مرهق عصبيا .. ولكن لو كنت تتأثر بهذا العمل فيمكنني نقلك إلى عمل آخر.. لقد أعدم والدك المئات دون أن يطرف له جفن .. لقد كان يقول إنهم في كل الأحوال نالوا كفايتهم من المحاكمة العادلة وثبت جرمهم ... وهذا وحده كاف لعدم التعاطف معهم على نحو يقلل من تعاطفنا مع ضحاياهم .. من اغتصب وقتل وذبح لم يمنح ضحاياه حق الدفاع عن أنفسهم أمام محكمة عادلة...ومع ذلك فالمجتمع تكفل له بمحاكمة عادلة للتثبت من جريرته..وكفل له أيضا حق الاستئناف والنقض ... وهكذا يصبح حكم الاعدام معبرا عن الحقيقة التي رسخت في ضمير المحكمة باستحقاق الجاني للموت... أما بالنسبة لإجراءات ما قبل الاعدام بل وما بعدها فهي لازمة للتأكد من عملية نظيفة سريعة وخالية من التعذيب.. لابد من وزن المدان ثم بعد موته يستمر الطبيب في قياس نبضات القلب لأن القلب يستمر كما تعلم في العمل جراء الانفعال والخوف الذي يصيب المحكوم عليه قبل الاعدام مما يجعل القلب يستمر في ضخ الدم بعد الشنق لثوان...بعد أن يتأكد الطبيب من الوفاة .. يصدر تقريره ويتم دفن الجثة على حساب الدولة أو تسليمها لذويه إن أرادو ذلك... إذن يا عشماوي.. لا يوجد هناك إجراء تافه وغير مبرر ... علينا جميعنا وأنت واحد منا بل وأهم عضو في تلك اللحظات السوداء أن نعمل بقلب ثابت وجسارة وأن نتحدى مشاعرنا كبشر أسوياء.. والدك كان ينفذ حكم الإعدام ثم يذهب لتناول وجبة الغداء... لكنني أراك هشا جدا ...
صمت الرجلان واكتسى الحزن وجهيهما.. قال عشماوي:
- اسمي ليس عشماوي ولا حتى والدي.. هذا الاسم مصري في الأصل .. لماذا يطلقونه علينا..انه اسم مقيت... اسمي هو فرح .. فرح العجب نوري.. والدي العجب نوري ... وليس عشماوي... تخيل أن كل من بالحي الذي تقطن فيه ...
يقطع كلامه ويقول:
- هل استطيع ان ادخن أمامك يا سعادتو؟
يكتفي الضابط بهز رأسه.
- تخيل إنهم حينما يمرون بمنزلنا الطيني المتواضع يحملقون فيه بجزع.. ثم يهمسون.. هذه عائلة عشماوي.. القتلة ... وحين يرونني اتجه إلى العمل صباحا يعلمون أنني ذاهب لأنفذ حكم إعدام انسان... وحين أذهب للصلاة يدفعون بي للصف الأول لأستطيع غسل يدي من الدماء أمام الله...مشاعرهم الغريبة هذه والتي لا يفهمونها ولا افهمها تجعل سلوكهم تجاه أسرتي غريبة.. إنهم يوقروننا كقديسين.. نحن من نمارس مهنة قتل الانسان بشكل مشروع .. امرأة شاب .. كهل لم يبلغ السبعين ..نقبض على أرواحهم .. فكأننا وكلاء عزرائيل في الأرض... ودعني أصدقك القول يا سيدي أنني لست كأبي .. أنا اتعب بشدة بعد كل عملية اعدام أقوم بها ... فبعدها ينفجر عقلي بالتساؤلات .. تساؤلات عن معنى الحياة وقيمتها .. وهل هي تافهة ... وهل من اعدمته كان حقا مذنبا.. لقد أعدمنا سياسيين وأنا لا اعتقد أن هؤلاء مذنبين ...اعدمنا في جرائم ليس من ضمنها القتل... هل تعتقد أن هذا صواب؟
رمش الضابط بعينيه وسها نظره في الأفق قليلا ثم ابتلع ريقه وقال بصوت خفيض:
- لا .. لا أعتقد أنه صواب يا فرح..
سحب نفسا طويلا من سجارته فاحمرت جمرتها قبل أن يطفأها على المنفضة ببطء:
- لا أعتقد أنه صواب .. حقيقة .. هناك أحكام بدت لي ظالمة جدا .. وأحكام بالاعدام غير منطقية...
ضغط زر جرس على طاولته ؛ وصمت حتى دخل رجل خمسيني نحيل فقال:
- فنجان قهوة لي وشاي لفرح أعلم انه يحب الشاي بالنعناع والمحلى بكمية هائلة من السكر.
خرج الرجل فقال الضابط:
- هل تذكر ذلك الشاب الذي أعدمناه قبل عدة أشهر... ذلك الشاب شديد سواد البشرة قوي البنية ناعم الجلد ..
- نعم.. خالد..
- هو كذلك... لقد اسقط شابا نحيفا على الأرض فارتطمت رأس الاخير بالأسفلت ومات...رغم ذلك حكموا عليه بالاعدام ... بدا لي ذلك شديد السخف .. المحكمة العليا بنفسها أيدت الحكم .. ماذا لو طلب المحامي أن يعاقب خالد بمثل ما قتل به الجاني .. أي أن يتم القاؤه على الأسفلت؟ هل كانت المحكمة ستستجيب لطلبه؟ بالتأكيد لا .. لأن النتيجة قد لا تسفر عن موت خالد .. وهذا في حد ذاته ينفي رجحان حدوث الموت كنتيجة للفعل والتي يشترطها القانون للحكم بالقتل العمد...خلال سنوات عملي الثلاث والعشرين شاهدت الكثير من حالات الاعدام التي لا تستحق... مع ذلك فأنا لست القانون أنا أنفذ القانون فقط .. أؤدي عملي... حتى لو كان حكم الإعدام غير مرض لي.. فأنا لست مسؤولا عن كفاية عدالته...لا أمام القانون ولا حتى أمام الله...
دخل الخمسيني النحيل ووضع فنجان القهوة والشاي أمام الرجلين وغادر ، لكن الرجلين لم يقربا شرابهما بل ظلا صامتين.
لفهما صمت طويل .. صمت متكثف بالضجيج .. كان شرابهما يفقد سخونته ببطء ، وكانا ينظران إليه دون أن يرونه .. وفي دماغي الرجلين المختلفين ، كان صوت جملة واحدة مزعج يتردد بقلق وشحوب ..
-....ولا حتى أمام الله...ولا حتى أمام الله ... ولا حتى أمام الله...
- نعم سعادتو.
وضع الضابط مدير السجن نظارته على سطح مكتبه الوثير ومسح عينيه بجماع أصابع يده اليمنى.
- يا سيد عشماوي.. أنت الآن اكملت خمسة عشر عاما في عملك هذا... وقبلها كان والدك رحمه الله هو من يقوم بهذه الوظيفة...
- نعم سعادتك..
- لقد كنت منضبطا تماما خلال تلك السنوات لكنك في الآونة الأخيرة بدأت تنفلت.. هل تعرف أن ما يحدث منك أمر خطير..
- مالذي يحدث مني با سيدي؟
- أنت تعرف ..
أشعل الضابط سجارة وتراجع بظهره الى الخلف ثم استرخى جسده على الكرسي الوثير مائلا قليلا إلى اليسار:
- لماذا قبل أن تكتمل الاجراءات المنصوص عليها قانونا تقوم بإعدامهم...أنا كمدير للسجن ووفقا للمادة أربعين من قانون تنظيم السجون مسؤول كامل المسؤولية عن تنفيذ أحكام الإعدام...مع ذلك وقبل اكتمال تلاوة الحكم تقوم أنت برفع مزلاج المشنقة.. لقد صمت على ذلك مرتين وثلاث وأربعة لكنني لن استطيع أن احميك أكثر من هذا...
- يا سعادتو المادة التاسعة والثلاثون من نفس القانون أوجبت عدم تأخير تنفيذ الاعدام.. أي أنني لم أخالف القانون بل على العكس أنا أطبق القانون...
- كأبيك تماما.. تحب المجادلة .. يا عزيزي هناك ضوابط للقيام بعملية الاعدام... لابد من استيفائها .. عندما تتجاهل هذه الشروط فأنت تسيء لنفسك ووظيفتك.. وهذا يتطلب توقيع جزاء عليك ... أنت تقتلهم قبل ميعاد موتهم.. حتى لو كان ذلك قبل ثوان فقط...
- سعادتو... إنهم ميتون حتما.. ثانية أو ثانيتين لن تفرق... دعني أعيد عليك بعض التفاصيل التي تعلمها أنت جيدا منذ تحويل المحكوم عليه بأورنيك واحد وثلاثين للانتظار .. هناك يتم ابلاغ المدان صباحا .. تخيل يا سيدي أن يوقظك شخص من نومك -إذا استطعت أن تنام أصلا- ويقول لك: استعد.. سيتم اعدامك بعد قليل...ثم تقوم انت كمدير للسجن بطرح موعظة ركيكة وبائسة عن مسائل الايمان والقضاء والقدر على مسامعه وهو أساسا لا يسمع مما تقوله حرفا واحدا ... يتم بعدها نقل المدان إلى غرفة اللحظات الأخيرة.. حيث الصمت المطبق .. الصمت يا سيدي الذي يجعلك تموت آلاف المرات .. بعدها تنقلون الرجل للفحص الطبي.. الفحص الذي ربما كان أول فحص مجاني حصل عليه من الحكومة الموقرة في حياته بغرض التأكد من موته بالشنق وليس سواه...يتم وزنه ليس حبا فيه بل للتأكد من أن الحبل الذي يلف حول رقبته سيتحمل جثته ولن ينقطع .. كل ذلك وهو يعرف أنه يتجه إلى الموت .. يحصل المدان على فرصة اللقاء بالأحبة من الأقارب للمرة الأخيرة ... حينما يرونه ينظرون الى كائن ميت وينظر لهم كما لو كانوا كائنات فضائية ... بعدها يتم اقتياده للمشنقة وقد احاط به مدير السجن والطبيب والقاضي الذي أصدر الحكم وبضعة عساكر...أنا أقف يا سيدي هناك وأراهم وهو يتجهون نحوي .. بعضهم يتبول على ملابسه وبعضهم يتغوط وهو ينظر للأرض بعين كسيرة بعضهم يصاب بلوثة وبعضهم تتجمد قدماه وبعضهم لا تقوى أقدامهم على حمل اجسادهم .. وبعضهم-وهؤلاء قلة- يتجهون نحوي بخطى ثابتة وجأش رابط وكأنهم يريدون الانتهاء من اجراء روتيني ممل...لكن..وبغض النظر عن هذه القلة الاستثنائية فإن إجراءات اعدام الشخص التي لا تشعرون بطولها هي بالنسبة لهذا المسكين تبدوا كمن يدخل في كابوس أبدي مرعب .. كابوس يبدأ منذ هزه من اصبع قدمه الكبرى فجرا .. واخباره ببرود أن اليوم هو ساعة موته ليتجهز ... يتجهز ؟ اللعنة .. ليتجهز .. إنني ارفع المزلاج بسرعة لاختصر كل هذه التفاهات .. التفاهات التي تدمرهم نفسيا قبل أن ينهار جسدهم بيولوجيا ... أخلصهم من الكابوس الذي يمتد لساعات ما قبل موتهم ..
- أفهم ذلك يا عشماوي.. أفهم أن عملك هذا مرهق عصبيا .. ولكن لو كنت تتأثر بهذا العمل فيمكنني نقلك إلى عمل آخر.. لقد أعدم والدك المئات دون أن يطرف له جفن .. لقد كان يقول إنهم في كل الأحوال نالوا كفايتهم من المحاكمة العادلة وثبت جرمهم ... وهذا وحده كاف لعدم التعاطف معهم على نحو يقلل من تعاطفنا مع ضحاياهم .. من اغتصب وقتل وذبح لم يمنح ضحاياه حق الدفاع عن أنفسهم أمام محكمة عادلة...ومع ذلك فالمجتمع تكفل له بمحاكمة عادلة للتثبت من جريرته..وكفل له أيضا حق الاستئناف والنقض ... وهكذا يصبح حكم الاعدام معبرا عن الحقيقة التي رسخت في ضمير المحكمة باستحقاق الجاني للموت... أما بالنسبة لإجراءات ما قبل الاعدام بل وما بعدها فهي لازمة للتأكد من عملية نظيفة سريعة وخالية من التعذيب.. لابد من وزن المدان ثم بعد موته يستمر الطبيب في قياس نبضات القلب لأن القلب يستمر كما تعلم في العمل جراء الانفعال والخوف الذي يصيب المحكوم عليه قبل الاعدام مما يجعل القلب يستمر في ضخ الدم بعد الشنق لثوان...بعد أن يتأكد الطبيب من الوفاة .. يصدر تقريره ويتم دفن الجثة على حساب الدولة أو تسليمها لذويه إن أرادو ذلك... إذن يا عشماوي.. لا يوجد هناك إجراء تافه وغير مبرر ... علينا جميعنا وأنت واحد منا بل وأهم عضو في تلك اللحظات السوداء أن نعمل بقلب ثابت وجسارة وأن نتحدى مشاعرنا كبشر أسوياء.. والدك كان ينفذ حكم الإعدام ثم يذهب لتناول وجبة الغداء... لكنني أراك هشا جدا ...
صمت الرجلان واكتسى الحزن وجهيهما.. قال عشماوي:
- اسمي ليس عشماوي ولا حتى والدي.. هذا الاسم مصري في الأصل .. لماذا يطلقونه علينا..انه اسم مقيت... اسمي هو فرح .. فرح العجب نوري.. والدي العجب نوري ... وليس عشماوي... تخيل أن كل من بالحي الذي تقطن فيه ...
يقطع كلامه ويقول:
- هل استطيع ان ادخن أمامك يا سعادتو؟
يكتفي الضابط بهز رأسه.
- تخيل إنهم حينما يمرون بمنزلنا الطيني المتواضع يحملقون فيه بجزع.. ثم يهمسون.. هذه عائلة عشماوي.. القتلة ... وحين يرونني اتجه إلى العمل صباحا يعلمون أنني ذاهب لأنفذ حكم إعدام انسان... وحين أذهب للصلاة يدفعون بي للصف الأول لأستطيع غسل يدي من الدماء أمام الله...مشاعرهم الغريبة هذه والتي لا يفهمونها ولا افهمها تجعل سلوكهم تجاه أسرتي غريبة.. إنهم يوقروننا كقديسين.. نحن من نمارس مهنة قتل الانسان بشكل مشروع .. امرأة شاب .. كهل لم يبلغ السبعين ..نقبض على أرواحهم .. فكأننا وكلاء عزرائيل في الأرض... ودعني أصدقك القول يا سيدي أنني لست كأبي .. أنا اتعب بشدة بعد كل عملية اعدام أقوم بها ... فبعدها ينفجر عقلي بالتساؤلات .. تساؤلات عن معنى الحياة وقيمتها .. وهل هي تافهة ... وهل من اعدمته كان حقا مذنبا.. لقد أعدمنا سياسيين وأنا لا اعتقد أن هؤلاء مذنبين ...اعدمنا في جرائم ليس من ضمنها القتل... هل تعتقد أن هذا صواب؟
رمش الضابط بعينيه وسها نظره في الأفق قليلا ثم ابتلع ريقه وقال بصوت خفيض:
- لا .. لا أعتقد أنه صواب يا فرح..
سحب نفسا طويلا من سجارته فاحمرت جمرتها قبل أن يطفأها على المنفضة ببطء:
- لا أعتقد أنه صواب .. حقيقة .. هناك أحكام بدت لي ظالمة جدا .. وأحكام بالاعدام غير منطقية...
ضغط زر جرس على طاولته ؛ وصمت حتى دخل رجل خمسيني نحيل فقال:
- فنجان قهوة لي وشاي لفرح أعلم انه يحب الشاي بالنعناع والمحلى بكمية هائلة من السكر.
خرج الرجل فقال الضابط:
- هل تذكر ذلك الشاب الذي أعدمناه قبل عدة أشهر... ذلك الشاب شديد سواد البشرة قوي البنية ناعم الجلد ..
- نعم.. خالد..
- هو كذلك... لقد اسقط شابا نحيفا على الأرض فارتطمت رأس الاخير بالأسفلت ومات...رغم ذلك حكموا عليه بالاعدام ... بدا لي ذلك شديد السخف .. المحكمة العليا بنفسها أيدت الحكم .. ماذا لو طلب المحامي أن يعاقب خالد بمثل ما قتل به الجاني .. أي أن يتم القاؤه على الأسفلت؟ هل كانت المحكمة ستستجيب لطلبه؟ بالتأكيد لا .. لأن النتيجة قد لا تسفر عن موت خالد .. وهذا في حد ذاته ينفي رجحان حدوث الموت كنتيجة للفعل والتي يشترطها القانون للحكم بالقتل العمد...خلال سنوات عملي الثلاث والعشرين شاهدت الكثير من حالات الاعدام التي لا تستحق... مع ذلك فأنا لست القانون أنا أنفذ القانون فقط .. أؤدي عملي... حتى لو كان حكم الإعدام غير مرض لي.. فأنا لست مسؤولا عن كفاية عدالته...لا أمام القانون ولا حتى أمام الله...
دخل الخمسيني النحيل ووضع فنجان القهوة والشاي أمام الرجلين وغادر ، لكن الرجلين لم يقربا شرابهما بل ظلا صامتين.
لفهما صمت طويل .. صمت متكثف بالضجيج .. كان شرابهما يفقد سخونته ببطء ، وكانا ينظران إليه دون أن يرونه .. وفي دماغي الرجلين المختلفين ، كان صوت جملة واحدة مزعج يتردد بقلق وشحوب ..
-....ولا حتى أمام الله...ولا حتى أمام الله ... ولا حتى أمام الله...