دنفر/ كلورادو في الثامن عشر من نيسان 2006
الأخ الفاضل محمّد
التحايا تأتيك مزنا هطالا ,,, تغشاك ومن معك ممن تحب وترضى
وصلني مكتوبك الذي تناولت فيه أمر المحافظين الجدد و اليمين الصهيوني. وتجدني في حاجة لتوضيح بعض الحقائق المتعلقة بكليهما حتى تتسّق الرؤية و يبين أصل الحكاية. أكتب لك هاتين الرسالتين ومن ثم نواصل ما أنقطع من حديث.
أصل الحكاية:
يخطىء العرب ويترجمون United States of America بالولايات المتحدة الأميركية والصحيح هو الدول المتحدة الأميركية , فكلمة State تعني دولة, وهي بحق كذلك فكل جزء في هذا الأتحاد الفيدرالي هو دولة قائمة بذاتها. والتجربة الأميركية فذة متمّيزة فيما يلي شؤون القوي العظمي والأمبراطوريات التي سادت الدنيا. فهذه الأمبراطورية الكبرى صغيرة السن (الثورة الأميركية كانت في العام 1776), ولكن توفر لها من الموارد والظروف التاريخية ما لم يتوفر لغيرها من الأمم وهي الاّن تتربع علي عرش الدنيا مثلما تربع الرومان والعرب من قبل. لا جديد تحت الشمس اذا .
لنفهم أصل الحكاية في وقتنا الراهن يجب أن نعود الي أربعينات القرن الماضي بولاية شيكاغو وتحديدا بجامعة شيكاغو التي كان يدّرس فيها فيلسوف سياسي يسمي "ليو شتراوس", هذا الرجل الغامض والذي كان ينفر من أجهزة الأعلام هو الأب المؤسس لحركة المحافظين الجدد Neoconservatives وهم الرجال المسيطرون علي ادارة الرئيس بوش الحالية. قصة صعود هؤلاء الي قمة الهرم السياسي وسيطرتهم علي الحزب الجمهوري سأحدثك عنها لاحقا وسأكتفي ها هنا بتلمس أفكارهم التي ستساعد كثيرا في فهم مسلك الأدارة الحالية.
كان شتراوس من أكثر الفلاسفة نفورا من الليبرالية , وكان يري أنّ كل المشاكل التي يعاني منها المجتمع الأميركي ترجع بالدرجة الأولي الي المذهب الفردي Individualism وهو المذهب المسئول عن التفكك والتفسخ الذي يصيب المجتمع وبالتالي فأن الليبرالية لا تمتلك حلولا لمشاكل المجتمع الأميركي( وكانت أميركا تعاني من أنشطارات عديدة بين مختلف الطبقات خصوصا بين السود والبيض) وأعتبر شتراوس أنّ الليبرالية تحمل بذور فنائها في جوفها.
للخروج من هذا المأزق وأعادة التماسك coherence للمجتمع قال شتراوس بضرورة وجود مثال أعلي وهدف بعيد ينبع من القيم والأخلاق ليوحّد كل الأميركان , واذا لم يوجد هذا المثال أو الأسطورة Myth فأنه يجب صنعه وأنّ الأمةNation أو الدين Religionهما المجالان الأنسب لخلق تلك الأسطورة. وشرع المحافظون الجدد في خلق أسطورة الأمة الأميركية قائدة الأنسانية وحاملة لواء الديمقراطية والمجسدة للخير Good , وهو الأمر الذي يتطلب بالضرورة خلق عدو ما ليكون مجسدا للشرEvil , ووجد المحافظون الجدد ضالتهم في الأتحاد السوفيتي بوصفه قائدا لمعسكر الأشرار. ومن هنا بدأوا معركتهم الكونية من خلال أدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان وأخذوا في التطبيق الفعلي لأفكارهم بجعل العالم مسرحا للقتال بين قوي الخير وقوي الشر( في هذا الأطار جاء دعمهم للمجاهدين الأفغان وفيه أيضا أشعلوا الحروب المدمّرة في أميركا اللاتينية واسيا وأفريقيا).
وبعد سقوط الأتحاد السوفيتي كان لا بد من خلق عدو وهمي أو شبحPhantom Enemy حتي تستمر المعركة بين قوي الخير وقوي الشر, ووجدوا ضالتهم هذه المرة في نظام صدام حسين أبان غزوه للكويت ولكن حكمة الرئيس بوش الأب حالت دون تحقيق أحلامهم بزحف قوات التحالف لأسقاط النظام العراقي بعد تحرير الكويت. ثم جاءتهم الفرصة الذهبية الثانية بأحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي جددت الأمل في غزو العراق ولذلك فأنّ ما تكشف من خلال مذكرات مستشار الرئيس بوش لمكافحة الارهاب "ريتشارد كلارك" يوضح أنّ أمر الغزو كان معدا سلفا وأن المحافظين الجدد وعلي رأسهم العقل المدبر والمخطط للغزو" بول وولفووتز" شرعوا في توريط العراق قبل أن تتكشف لهم تفاصيل أحداث سبتمبر.
لقد قاموا بغزو العراق في أطار الأسطورة التي خلقوها عن مثال الخير والشر وبدعوي نشر الرسالة الحضارية لأميركا (الديمقراطية) ولأسباب أخري حللها بعمق الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه عن الأمبراطورية الأميركية وهو كتاب لا غني عنه لكل باحث في هذا الشأن. هذه لمحة عابرة قصدت منها توضيح الخلفيات التي أدّت الي غزو العراق وبالطبع هناك الكثير من التفاصيل التي لا يتسع المجال لذكرها وسأحدثك عنها في بريد اخر.
هل أيران هي هدفهم التالي ؟
الكل يعلم أن الرئيس بوش قد عنى بمحور الشر Axis of Evil العراق وأيران وكوريا الشمالية. من المؤكد أنّ كوريا الشمالية تمتلك سلاحا نوويا ومن المؤكد كذلك أن الأدارة الحالية لا تنتوي مهاجمة كوريا لأنها تدرك المخاطر التي ستجّرها ليس علي امريكا وحدها ولكن علي المنطقة بأسرها , والملف الكوري به أكثر من لاعب في السياسة الدولية , وعلي رأس هؤلاء الصين التي لن تسمح بهكذا هجوم وكذلك الاتحاد السوفيتي دع عنك ما سيحدث لكوريا الجنوبية الحليف الأستراتيجي لأميركا في المنطقة. وكوريا الشمالية برعت في أبتزاز اميركا واستفزازها كثيرا بأعلان أمتلاكها للسلاح النووي وهي تعلم أن أميركا لن تقبل علي مهاجمتها للتعقيدات التي ذكرتها. وفي ظني أن هذا هو نفس السبب الذي جعل أيران تجاهر بالأستمرار في ملفها النووي وأخيرا بنجاحها في تخصيب اليورانيوم .
أيران تدرك جيدا المازق الذي وقعت فيه اميركا بغزوها للعراق, وتعلم المتاعب التي يواجهها بوش داخليا بعد ثلاث سنوات من دخوله بغداد, وأيران لاعب اساسي في الساحة العراقية وتمسك بالكثير من الخيوط التي ستستخدمها حال شروع اميركا في الهجوم عليها, وحتي أسرائيل التي سبق أن هاجمت المفاعل النووي العراقي لن تقبل علي هكذا خطوة لأنها تعلم ان أيران تمتلك صواريخا يصل مداها الي قلب دولتها وأنها تملك تحريك حزب الله في شمال أسرائيل ولذلك أعلن رئيس وزرائها المنتخب يهود أولمرت عن عدم مشاركة اسرائيل في اية هجوم علي ايران . اذا التوقيت الذي عمدت أيران فيه الاعلان عن برامجها النووية هو بلا شك توقيت يضع أميركا في حرج شديد ولا يسمح لها بأتخاذ اي أجراء عسكري ضدها , ويضاف الي ذلك ايضا موقف لاعبين أساسيين في الساحة الدولية( روسيا والصين) اللتين رفضتا أي حديث عن ضربة عسكرية توجه لأيران. لكل هذه الأسباب لا أعتقد أن أميركا ستهاجم أيران علي الأقل في الوقت الراهن.
هل الأسلام هو المستهدف ؟
شاعت في أدبيات علم السياسة والعلاقات الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي نظرية المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون عن صراع الحضارات, وحديثه عن أنّ الأسلام هو العدو القادم للغرب وأنّ الصدام بينهما قادم لا محالة . وقد عزز هذا الأتجاه في التفكير ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبه من تدخل اميركي في العراق وافغانستان بالأضافة لما هو قائم أصلا في فلسطين.
في ظني أنّ صراع الحضارات خدعة كبري أراد لها أصحابها أن تملأ فراغ القوي في الساحة الدولية عقب أنهيار الأتحاد السوفيتي. ومثلما تلاعب المحافظون الجدد بسياسة أميركا الخارجية في سبيل تطبيق أفكارهم ونظرياتهم السياسية, فأنّ الأسلام الجهادي أو السياسي أو سمّه ما شئت يحاول أن يصّور صراعه مع أميركا بأنه حرب بين الحق والباطل أو بين قوي الخير والشر . هما ( الأسلام الجهادي والمحافظون الجدد) في واقع الأمر وجهان لعملة واحدة . بالأمس تحالفوا ضد الأتحاد السوفيتي واليوم عندما تضاربت مصالحهم صاروا يتقاتلون ويحشدون الصفوف في صراع أسموه كذبا صراع الحضارات. أنه صراع المصالح في السياسة الدولية وهو صراع سياسي يستخدم فيه الدين كأداة للتعبئة والأستقطاب من قبل الأطراف المتصارعة. ليس من مصلحة البشرية جمعاء أن يقوم صراع بين الأسلام والغرب . والغرب ليس كتلة صمّاء, وليست أمريكا هى المحافظون الجدد الذين بدأ نجمهم في الأفول بعد الحرب العراقية وليس أدل علي ذلك من الكتاب الذي أصدره أحد غلاتهم مؤخرا وهو فرانسيس فوكوياما بعنوان أميركا في مفترق الطرق America at Crossroads حيث أعلن صراحة فشل مشروع المحافظين الجدد في توجيه أميركا لقيادة العالم.
تخريمة
جاءني بريدك وأنا منغمس في مقارنة كواكب البوصيري الدرية في مدح سيّد البرية بنهج بردة أمير الشعراء . وتجدني منحازا لشوقي فقصيدته أرقّ لغة وأبعد أثرا من قصيدة البوصيري . شاعرية شوقي متدفقة و أحساسها عال , بينما يجتهد البوصيري في صناعة أبياته. لا يترك شوقي للقارىء مجالا للتساؤل , بينما يعوز البوصيري الأقناع . تأمل بيت صاحب الكواكب وهو يستدعي الرمز للتعبير عن حب المصطفى (ص) :
يا لائمي في الهوى العذري معذرة = مني إليك ولو أنصفت لم تلم
ثم أنظر لقول شوقي في النهج :
يا لائمي في هواه، والهوى قدر = لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
الا ترى أنّ البوصيرى اعتذر عن هواه دون توضيح لسبب الاعتذار , بينما أوضح أمير الشعراء أنّ مدعاة اعتذاره هو القدر ( وهل هناك أقوى من القدر سببا للاعتذار ؟ ).
هذه خاطرة عجلى عسى أن نفصّل فيها في بريد قادم اذا مدّ الله في الاجال.
هذا وقد مضت قبل أيام ذكري مولد المصطفي (ص) أعادها الله علينا وعليكم بالخير وردّ غربتنا سالمين.
قفلة
كنت قد بعثت بمقالي الأخير عن شعراء الحقيبة الذي أرسلت لك نسخة منه للدكتور محمد عثمان الجعلي. وتعلم أنني أبديت في ذلك المقال أنحيازا لعبيد عبد الرحمن و قلت أنني ( كنت علي الدوام من أنصار عبيد عبد الرحمن, أجد في شعره دفئا وتصويرا لأحوال العشق والعشاق وتوصيفا دقيقا للمحبوب, وكيف لا وهو الذي كتب "جاهل وديع مغرور", وهو كذلك صاحب "سليم الذوق", هذه أغنية من النوع الذي يصيب "الكبد".).
وقد جاء رده على الرسالة في غاية الروعة والبيان كعادته, وأقتبس لك منه التالي :
( تقديمك لعبيد عبد الرحمن سّرني جدا فعبيد جاد علينا بالعديد من الدررالزاهية وله مفردات خاصة كما له مطالع حسان ..كل هذا يضعه ضمن ركب الرّواد ولكن لا يسلمه قياد الشعر الغنائي الحقيبي ! هذه عقد لوائها لصالح عبد السيد وغير بعيد عنه "المقل في شعره" ابراهيم العبادي .. إذا سألتني عن مراتب شعراء الحقيبة لما ترددت في أن أقول أنّ أبا صلاح هو المتنبيء والعبادي هو أبي تمام أما سيد عبد العزيز فهو الأقرب للبحتري ... وهناك أصحاب "الوحائد الجياد" ... أغنية "نعيم الدنيا" لعمر البنا هي معلقة الحقيبة المذهّبة وإذا سمعتها بصوت العبقري أبي داؤود فاعلم أنّ السعادة لديك قد اكتملت أركانها وكذلك الأمر مع "نسايم الليل" !!!. ) أنتهى.
وددت لو أدليت بدلوك في هذا الأمر, وانا على وعدي بمناقشة أمر اليمين الصهيوني في الرسالة القادمة.
بابكر
***
بابكر فيصل بابكر
كلورادو - دنفر في عشر مضين من مايو 2006
الأخ العزيز محمّد
تحايا طيبة مباركة
وصلني مكتوبك الذي يتناول أمر معركة الأرماقدن وينتهي بتساؤلك عن السبب الذي دفع بوش لغزو العراق بعجلة وأصرار. ولعلك تذكر بريدي السابق اليك والذي تناول أمر المحافظين الجدد وسيطرتهم علي الأدارة الأميركية الحالية. والحقيقة المكملة لهذه السيطرة هي التحالف القائم بين المحافظين الجدد واليمين المسيحي الأفنجيلي.
الأفنجيليين
الجماعة الأفنجيلية هي جماعة مسيحية بروتستانتية تؤمن بما جاء في التوراة, ويعرف أصحاب هذه الجماعة بالذين أي الذين رجعوا الى طريق المسيح القويم بعد أن ضلوا. ونسبة هؤلاء في أميركا تبلغ Reborn" ولدوا من جديد"
حوالى 28 % من السكان, والمتشددين منهم يمثلون حوالى 13 % من تلك النسبة, وتؤمن أكثرية المتشددين بمعركة الأرماقدن.
من أشهر غلاتهم القس " بيلي غراهام" والقس " بات روبرتسون" الذى قال في يناير الماضي أنّ الجلطة الدماغية التي تعرض لها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون هي "عقاب من الله له على مساعيه لإعطاء مزيد من الأراضي للفلسطينيين".
تعتقد الجماعة الأفنجيلية أنّ معركة الأرماقدن ( موضع في سهل مجيدو بفلسطين) المنصوص عليها في سفر الرؤيا, ستكون معركة فاصلة بين اليهود وحلفائهم من جهة, وبين أعدائهم وحلفائهم من جهة أخرى, وأنها سوف تنتهي بابادة أغلب من على الأرض وأنبعاثها من جديد بنزول السيد المسيح الذي سوف يجلس على كرسي الاله لكي يكون الحكم الفصل فيقتل الأشرار و يحيي الأخيار و ينصر الدين و يذل أعداءه !!!
ويقول الأفنجيليون أنّ نزول المسيح وتحقق النبوءة لن يتم إلا بتجميع كل اليهود في فلسطين وأقامة دولة أسرائيل الكبرى ، بمساعدة من الدول العظمى, حيث يقول أحد غلاتهم وهو القس فولويل " أنّ الدليل الدراماتيكي على عودة المسيح هو اعادة ولادة شعب اسرائيل", وهذا ما يفسّر دعمهم اللامتناهي لطرد الفلسطينيين من أرضهم ولأقامة المستوطنات. وينظرون للمسلمين كمعطلين لرجعة المسيح بسبب وقوفهم حجرعثرة في طريق توحيد القدس كعاصمة لأسرائيل, ومنعهم اعادة بناء الهيكل, وهى المقدمات الضرورية لعودته.
وقد دعم اليمين الأفنجيلي المحافظين الجدد في حربهم على العراق من منظور ديني يعقد صلة أبدية ومتجددة بين
بابل وأورشليم. فبابل هى الظلام, وأورشليم هى النور. ودمار بابل يمثل شرطا لأنبعاث أورشليم. هكذا يقول العهد القديم الذي ورد فيه ذكر بابل حوالى ثلاثمائة مّرة بوصفها أرض الخطيئة, وبلد التجسّد الشيطاني الأول الممثل في نبوخذ نصر سابي اليهود, والوعد الأول بأرماقدن.
الملحمة الاسلامية الكبرى
هذا ما كان من شأن هذه الفرقة البروتستانتية , أما فيما يخص النبوءة الأسلامية بمعركة الأرماقدن , فهي في غالب الأمر من الأسرائيليات التي وجدت طريقها الي كتب التراث, فالعقيدة الأسلامية في أصولها لا تتحدث عن معركة فاصلة يقودها المسيح المنطلق من سهل مجيدو علي الرغم من الأشارة الي عودة المسيح في اخر الزمان, وعن معركة فاصلة هى الملحمة الكبرى التي يفسّرالبعض بتعسف واضح حديث الرسول (ص) عنها بأنه يعني الأرماقدن, حيث ينسب للرسول القول في حديث عن أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالإعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا: قالت الروم خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويُقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله ويفتتح الثالث، لا يفتنون أبداً فيفتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان، أن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف إذا أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم عليه السلام..." .
أما حديثك عن نبوءة نوستراداموس فليس لدىّ تعليق عليه.
لا يخفى عليك أن اللاهوت في أصله يستند الي أنظمة نفي متبادل كما يقول الدكتور محمد أركون. فكل دين يري في نفسه الحق وفي بقية الأديان غير ذلك وهذا أمر سيستمر الي قيام الساعة وفي هذه الأثناء وحتي قيام الساعة سيوظف كل دين عقيدته في سبيل السيطرة والسيادة وما موضوع الأرماقدن الاّ حلقة من حلقات الصراع اللاهوتي.
ما يهمنا في أمر هذا التوظيف الديني للعقائد هو أنعكاساتها السياسية التي تؤثر علي أحوال العالم الذي نعيشه. وما من شك في أن العالم في هذه اللحظات تتحكم فيه ظلال من الأساطير بحكم أنّ القوة العظمي فيه وأعني أمريكا يقودها مثل هذا الفكر, وعلي الضفة الأخرى من النهر نجد أن الرئيس الأيراني يدعو لأزالة أسرائيل من الوجود حتي يعود " المهدي المنتظر" والأشارة هنا للأمام الغائب "الحسن العسكري" الذي دخل السرداب قبل أكثر من الف عام وينتظر الشيعة أن يعجّل الله بفرجه حتي تقوم الساعة, وهو الأمر الذي لن يتم الاّ بزوال أسرائيل. ألم أقل لك أنّ الكل يوظف أسطورته بحسب ما يعتقد !!!
ليس مطلوبا أن تتوحد كل الأديان, فهذا مستحيل,ويسير عكس المشيئة الألهية, المطلوب هو أن نعلي من قيم التسامح والتحاور والتعايش الموجودة في كل دين, و في هذا الخصوص كنت دوما من المؤيدين لجهود حوار الأديان المختلفة وخصوصا تلك التي يضطلع بها الأزهر الشريف.
كسرة
بالأمس شاهدت فيلم "شيفرة دافنشي" المأخوذ من الرواية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. وأكثر ما يلفت النظر في الرواية /الفيلم - وبغض النظر عن مدى الصحة التاريخية لما أدعّاه دان براون من زواج المسيح من مريم المجدلية – هو طرحها /ه لقضية التدخل المباشر للسلطة السياسية ممثلة في الامبراطور قسطنطين والسلطة الدينية ممثلة في الكنيسة في تشكيل التاريخ وصياغة العقيدة المسيحية بعد حوالي ثلاثة قرون من مجىء المسيح عليه السلام. وفي ظني أنّ هذا الأمر لا يقتصر علي المسيحية وحدها بل يشمل الأديان التوحيدية الأخري, أعني الأسلام واليهودية.
بين يدي الان كتاب للمفكر السوري الدكتور عبد الرزاق عيد يتناول فيه بالنقد العقل الفقهي المشيخي, وعنوان الكتاب مأخوذ من توصيف للأمام محمد عبده لممثلي تلك المدرسة من مدارس الفكر الأسلامي وهو " سدنة هياكل الوهم" , وعلي الرغم من أنّ الأسلام لا يعترف بسلطة دينية لأحد غير الرسول الكريم الاّ أنّ التاريخ الأسلامي يقول بغير ذلك, فالأسلام السني تمت صياغة كبري فرضياته ومدارسه الفقهية في ظل تدخل مباشر للسلطتين الأموية والعباسية وقد تم تدوين معظم أطروحاته بعد حوالى قرنين من وفاة الرسول الكريم (ص).
الشىء الثاني الملفت للنظر في أمر "شيفرة دافنشى" هو أنّ الرواية وزعّت أكثر من خمسة وعشرين مليون نسخة في الدول الغربية ( أوروبا وأمريكا) في الثلاثة أشهرالأولي لنشرها في حين تم منع نشر الرواية في لبنان بسبب النفوذ الكبير للكنيسة المارونية, الأمر الذي يعني أنّ المرجعية الثقافية لمسيحية الشرق تختلف أختلافا جوهريا عن المرجعية الثقافية للمسيحية الغربية التي لا تحظر النقد الذي يطال المقدّس وهو الأمر الذي يحيلنا الي شىْ قريب الشبه من رواية دان براون وهي رواية سلمان رشدي "اّيات شيطانية" التي تم منعها في كافة الدول الأسلامية وصدرت فتوي من الأمام الخميني بقتل صاحبها.
استعدال
عطفا على حديث التسامح أستعير قولا للشاعر الكبير نزار قباني في اجابته على سؤال لمحررة مجلة "المشاهد" اللندنية عن المشهد الشعري العربي حيث قال " أحدّق في كل الوجوه الشعرية ولا أكاد أري الاّ وجه محمود درويش". وأنا أقول : أحدّق في كل الوجوه الفنيّة ولا أكاد أرى الا وجهها معبّرا عن التسامح الديني والأنتماء الحضاري والتعايش السلمي : نيهاد حدّاد.
والدها وديع حداد, كاثوليكي سرياني الأصل كان قد هاجر للبنان من مدينة ماردين الواقعة في جنوب شرقي تركيا حاليا ( بالمناسبة ماردين هذه هى البلدة التي أصدر بن تيمية أشهر فتاواه حول أهلها و هى المعروفة بأسم " فتوى ماردين" والتي يستخدمها الأسلام الجهادي في تبرير حملاته العشوائية للقتل والذبح والتفجير), ووالدتها مارونية.
استمع اليها وهى تتغنى بمدح المصطفى (ص) :
أقول واّنست بالليل نارا لعلً سراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بالُ اُفق الدُجى كأنً سنا البرق فيه استطارا
وهذا نسيمُ شذا المسك قد أًعير أَم المسكُ منه استعارا
بشائر صبح السًرى اّذنت بأنً الحبيب تدانا مزارا
جرى ذكرُ طيبه ما بيننا فلا قَلبُ في الًركب إلا وطارا
حنينا إلى أحمدَ المُصطفى وشَوقا يهيّجُ الضُلوع استعارا
ولما حللنا فناءَ الرسول نزلنا بأكرم خلق جوارا
وقفنا بروضة دار السلام نعيد السلام عليها مرارا
لا. ليس هذا فحسب, بل اليك المزيد من الغناء الذي ينفذ الى القلب عن البقعة التي أحتوت بيت الهدى:
غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملؤ أضلعي عيدا
فرحوا فلألأ تحت كل سما بيت على بيت الهدى زيدا
وعلى اسم رب العالمين علا بنيانهم كالشهب ممدودا
يا قارئ القرآن صلي لهم أهلي هناك و طيّب البيدا
من راكع و يداه أنستا أن ليس يبقى الباب موصودا
أنا أينما صلى الأنام رأت عيني السماء تفتحت جودا
ثم زهرة المدائن, درب معراج المصطفى (ص) الى السموات العلى :
يا قدس يا مدينة الصلاة
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
و تمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الأسراء يا درب من مروا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم وانني أصلي.
( في تسامح يا اخوانا أكتر من كده ؟)
لو شئت لمنحتك المزيد, ولكنني في حضرة "فيروز" لا بد أن أعرّج على هذا المقطع من "شهرذاد القصيدة" ولو كلفني ذلك الخروج عن السياق :
طارت الدنيا بمن أهوى و بي
وافترقنا كيف يا ليل الرقاد
ساكن مابين قلبي المتعب
وجفوني وجهها رغم البعاد
ما اكتفينا بعد والدهراكتفى
فاقطف الأحزان مثلي واسهر
آه ياعينىّ لو يشرى الغفى
من عيون ما لكنت المشتري
قفلة
هذا ما كان من أمر البروتستانت الأفنجيليين ومن قبلهم المحافظين الجدد. كلاهما يسعى لتحقيق أهدافه بكل الوسائل, وهم في واقع الأمر – شأن كل من يعتقد أمتلاك الحقيقة المطلقة – يستبطنون شرا كثيرا. وما وجدت توصيفا لهذه الحالة مثل الذي أورده الكاتب السعودي تركي الحمد في ( شرق الوادي / أسفار من أيام الأنتظار) على لسان بطله سميح الذاهل الذي يقول : (عندما ترى أحدهم مهووسا بالحق مبالغا فيه, فاعلم أنّ الحق ليس معه, أو أنّه يخفي كل الباطل).
بابكر
الأخ الفاضل محمّد
التحايا تأتيك مزنا هطالا ,,, تغشاك ومن معك ممن تحب وترضى
وصلني مكتوبك الذي تناولت فيه أمر المحافظين الجدد و اليمين الصهيوني. وتجدني في حاجة لتوضيح بعض الحقائق المتعلقة بكليهما حتى تتسّق الرؤية و يبين أصل الحكاية. أكتب لك هاتين الرسالتين ومن ثم نواصل ما أنقطع من حديث.
أصل الحكاية:
يخطىء العرب ويترجمون United States of America بالولايات المتحدة الأميركية والصحيح هو الدول المتحدة الأميركية , فكلمة State تعني دولة, وهي بحق كذلك فكل جزء في هذا الأتحاد الفيدرالي هو دولة قائمة بذاتها. والتجربة الأميركية فذة متمّيزة فيما يلي شؤون القوي العظمي والأمبراطوريات التي سادت الدنيا. فهذه الأمبراطورية الكبرى صغيرة السن (الثورة الأميركية كانت في العام 1776), ولكن توفر لها من الموارد والظروف التاريخية ما لم يتوفر لغيرها من الأمم وهي الاّن تتربع علي عرش الدنيا مثلما تربع الرومان والعرب من قبل. لا جديد تحت الشمس اذا .
لنفهم أصل الحكاية في وقتنا الراهن يجب أن نعود الي أربعينات القرن الماضي بولاية شيكاغو وتحديدا بجامعة شيكاغو التي كان يدّرس فيها فيلسوف سياسي يسمي "ليو شتراوس", هذا الرجل الغامض والذي كان ينفر من أجهزة الأعلام هو الأب المؤسس لحركة المحافظين الجدد Neoconservatives وهم الرجال المسيطرون علي ادارة الرئيس بوش الحالية. قصة صعود هؤلاء الي قمة الهرم السياسي وسيطرتهم علي الحزب الجمهوري سأحدثك عنها لاحقا وسأكتفي ها هنا بتلمس أفكارهم التي ستساعد كثيرا في فهم مسلك الأدارة الحالية.
كان شتراوس من أكثر الفلاسفة نفورا من الليبرالية , وكان يري أنّ كل المشاكل التي يعاني منها المجتمع الأميركي ترجع بالدرجة الأولي الي المذهب الفردي Individualism وهو المذهب المسئول عن التفكك والتفسخ الذي يصيب المجتمع وبالتالي فأن الليبرالية لا تمتلك حلولا لمشاكل المجتمع الأميركي( وكانت أميركا تعاني من أنشطارات عديدة بين مختلف الطبقات خصوصا بين السود والبيض) وأعتبر شتراوس أنّ الليبرالية تحمل بذور فنائها في جوفها.
للخروج من هذا المأزق وأعادة التماسك coherence للمجتمع قال شتراوس بضرورة وجود مثال أعلي وهدف بعيد ينبع من القيم والأخلاق ليوحّد كل الأميركان , واذا لم يوجد هذا المثال أو الأسطورة Myth فأنه يجب صنعه وأنّ الأمةNation أو الدين Religionهما المجالان الأنسب لخلق تلك الأسطورة. وشرع المحافظون الجدد في خلق أسطورة الأمة الأميركية قائدة الأنسانية وحاملة لواء الديمقراطية والمجسدة للخير Good , وهو الأمر الذي يتطلب بالضرورة خلق عدو ما ليكون مجسدا للشرEvil , ووجد المحافظون الجدد ضالتهم في الأتحاد السوفيتي بوصفه قائدا لمعسكر الأشرار. ومن هنا بدأوا معركتهم الكونية من خلال أدارة الرئيس الأسبق رونالد ريغان وأخذوا في التطبيق الفعلي لأفكارهم بجعل العالم مسرحا للقتال بين قوي الخير وقوي الشر( في هذا الأطار جاء دعمهم للمجاهدين الأفغان وفيه أيضا أشعلوا الحروب المدمّرة في أميركا اللاتينية واسيا وأفريقيا).
وبعد سقوط الأتحاد السوفيتي كان لا بد من خلق عدو وهمي أو شبحPhantom Enemy حتي تستمر المعركة بين قوي الخير وقوي الشر, ووجدوا ضالتهم هذه المرة في نظام صدام حسين أبان غزوه للكويت ولكن حكمة الرئيس بوش الأب حالت دون تحقيق أحلامهم بزحف قوات التحالف لأسقاط النظام العراقي بعد تحرير الكويت. ثم جاءتهم الفرصة الذهبية الثانية بأحداث الحادي عشر من سبتمبر والتي جددت الأمل في غزو العراق ولذلك فأنّ ما تكشف من خلال مذكرات مستشار الرئيس بوش لمكافحة الارهاب "ريتشارد كلارك" يوضح أنّ أمر الغزو كان معدا سلفا وأن المحافظين الجدد وعلي رأسهم العقل المدبر والمخطط للغزو" بول وولفووتز" شرعوا في توريط العراق قبل أن تتكشف لهم تفاصيل أحداث سبتمبر.
لقد قاموا بغزو العراق في أطار الأسطورة التي خلقوها عن مثال الخير والشر وبدعوي نشر الرسالة الحضارية لأميركا (الديمقراطية) ولأسباب أخري حللها بعمق الكاتب المصري الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه عن الأمبراطورية الأميركية وهو كتاب لا غني عنه لكل باحث في هذا الشأن. هذه لمحة عابرة قصدت منها توضيح الخلفيات التي أدّت الي غزو العراق وبالطبع هناك الكثير من التفاصيل التي لا يتسع المجال لذكرها وسأحدثك عنها في بريد اخر.
هل أيران هي هدفهم التالي ؟
الكل يعلم أن الرئيس بوش قد عنى بمحور الشر Axis of Evil العراق وأيران وكوريا الشمالية. من المؤكد أنّ كوريا الشمالية تمتلك سلاحا نوويا ومن المؤكد كذلك أن الأدارة الحالية لا تنتوي مهاجمة كوريا لأنها تدرك المخاطر التي ستجّرها ليس علي امريكا وحدها ولكن علي المنطقة بأسرها , والملف الكوري به أكثر من لاعب في السياسة الدولية , وعلي رأس هؤلاء الصين التي لن تسمح بهكذا هجوم وكذلك الاتحاد السوفيتي دع عنك ما سيحدث لكوريا الجنوبية الحليف الأستراتيجي لأميركا في المنطقة. وكوريا الشمالية برعت في أبتزاز اميركا واستفزازها كثيرا بأعلان أمتلاكها للسلاح النووي وهي تعلم أن أميركا لن تقبل علي مهاجمتها للتعقيدات التي ذكرتها. وفي ظني أن هذا هو نفس السبب الذي جعل أيران تجاهر بالأستمرار في ملفها النووي وأخيرا بنجاحها في تخصيب اليورانيوم .
أيران تدرك جيدا المازق الذي وقعت فيه اميركا بغزوها للعراق, وتعلم المتاعب التي يواجهها بوش داخليا بعد ثلاث سنوات من دخوله بغداد, وأيران لاعب اساسي في الساحة العراقية وتمسك بالكثير من الخيوط التي ستستخدمها حال شروع اميركا في الهجوم عليها, وحتي أسرائيل التي سبق أن هاجمت المفاعل النووي العراقي لن تقبل علي هكذا خطوة لأنها تعلم ان أيران تمتلك صواريخا يصل مداها الي قلب دولتها وأنها تملك تحريك حزب الله في شمال أسرائيل ولذلك أعلن رئيس وزرائها المنتخب يهود أولمرت عن عدم مشاركة اسرائيل في اية هجوم علي ايران . اذا التوقيت الذي عمدت أيران فيه الاعلان عن برامجها النووية هو بلا شك توقيت يضع أميركا في حرج شديد ولا يسمح لها بأتخاذ اي أجراء عسكري ضدها , ويضاف الي ذلك ايضا موقف لاعبين أساسيين في الساحة الدولية( روسيا والصين) اللتين رفضتا أي حديث عن ضربة عسكرية توجه لأيران. لكل هذه الأسباب لا أعتقد أن أميركا ستهاجم أيران علي الأقل في الوقت الراهن.
هل الأسلام هو المستهدف ؟
شاعت في أدبيات علم السياسة والعلاقات الدولية بعد سقوط الاتحاد السوفيتي نظرية المفكر الأميركي صمويل هنتنغتون عن صراع الحضارات, وحديثه عن أنّ الأسلام هو العدو القادم للغرب وأنّ الصدام بينهما قادم لا محالة . وقد عزز هذا الأتجاه في التفكير ما حدث في الحادي عشر من سبتمبر وما أعقبه من تدخل اميركي في العراق وافغانستان بالأضافة لما هو قائم أصلا في فلسطين.
في ظني أنّ صراع الحضارات خدعة كبري أراد لها أصحابها أن تملأ فراغ القوي في الساحة الدولية عقب أنهيار الأتحاد السوفيتي. ومثلما تلاعب المحافظون الجدد بسياسة أميركا الخارجية في سبيل تطبيق أفكارهم ونظرياتهم السياسية, فأنّ الأسلام الجهادي أو السياسي أو سمّه ما شئت يحاول أن يصّور صراعه مع أميركا بأنه حرب بين الحق والباطل أو بين قوي الخير والشر . هما ( الأسلام الجهادي والمحافظون الجدد) في واقع الأمر وجهان لعملة واحدة . بالأمس تحالفوا ضد الأتحاد السوفيتي واليوم عندما تضاربت مصالحهم صاروا يتقاتلون ويحشدون الصفوف في صراع أسموه كذبا صراع الحضارات. أنه صراع المصالح في السياسة الدولية وهو صراع سياسي يستخدم فيه الدين كأداة للتعبئة والأستقطاب من قبل الأطراف المتصارعة. ليس من مصلحة البشرية جمعاء أن يقوم صراع بين الأسلام والغرب . والغرب ليس كتلة صمّاء, وليست أمريكا هى المحافظون الجدد الذين بدأ نجمهم في الأفول بعد الحرب العراقية وليس أدل علي ذلك من الكتاب الذي أصدره أحد غلاتهم مؤخرا وهو فرانسيس فوكوياما بعنوان أميركا في مفترق الطرق America at Crossroads حيث أعلن صراحة فشل مشروع المحافظين الجدد في توجيه أميركا لقيادة العالم.
تخريمة
جاءني بريدك وأنا منغمس في مقارنة كواكب البوصيري الدرية في مدح سيّد البرية بنهج بردة أمير الشعراء . وتجدني منحازا لشوقي فقصيدته أرقّ لغة وأبعد أثرا من قصيدة البوصيري . شاعرية شوقي متدفقة و أحساسها عال , بينما يجتهد البوصيري في صناعة أبياته. لا يترك شوقي للقارىء مجالا للتساؤل , بينما يعوز البوصيري الأقناع . تأمل بيت صاحب الكواكب وهو يستدعي الرمز للتعبير عن حب المصطفى (ص) :
يا لائمي في الهوى العذري معذرة = مني إليك ولو أنصفت لم تلم
ثم أنظر لقول شوقي في النهج :
يا لائمي في هواه، والهوى قدر = لو شفك الوجد لم تعذل ولم تلم
الا ترى أنّ البوصيرى اعتذر عن هواه دون توضيح لسبب الاعتذار , بينما أوضح أمير الشعراء أنّ مدعاة اعتذاره هو القدر ( وهل هناك أقوى من القدر سببا للاعتذار ؟ ).
هذه خاطرة عجلى عسى أن نفصّل فيها في بريد قادم اذا مدّ الله في الاجال.
هذا وقد مضت قبل أيام ذكري مولد المصطفي (ص) أعادها الله علينا وعليكم بالخير وردّ غربتنا سالمين.
قفلة
كنت قد بعثت بمقالي الأخير عن شعراء الحقيبة الذي أرسلت لك نسخة منه للدكتور محمد عثمان الجعلي. وتعلم أنني أبديت في ذلك المقال أنحيازا لعبيد عبد الرحمن و قلت أنني ( كنت علي الدوام من أنصار عبيد عبد الرحمن, أجد في شعره دفئا وتصويرا لأحوال العشق والعشاق وتوصيفا دقيقا للمحبوب, وكيف لا وهو الذي كتب "جاهل وديع مغرور", وهو كذلك صاحب "سليم الذوق", هذه أغنية من النوع الذي يصيب "الكبد".).
وقد جاء رده على الرسالة في غاية الروعة والبيان كعادته, وأقتبس لك منه التالي :
( تقديمك لعبيد عبد الرحمن سّرني جدا فعبيد جاد علينا بالعديد من الدررالزاهية وله مفردات خاصة كما له مطالع حسان ..كل هذا يضعه ضمن ركب الرّواد ولكن لا يسلمه قياد الشعر الغنائي الحقيبي ! هذه عقد لوائها لصالح عبد السيد وغير بعيد عنه "المقل في شعره" ابراهيم العبادي .. إذا سألتني عن مراتب شعراء الحقيبة لما ترددت في أن أقول أنّ أبا صلاح هو المتنبيء والعبادي هو أبي تمام أما سيد عبد العزيز فهو الأقرب للبحتري ... وهناك أصحاب "الوحائد الجياد" ... أغنية "نعيم الدنيا" لعمر البنا هي معلقة الحقيبة المذهّبة وإذا سمعتها بصوت العبقري أبي داؤود فاعلم أنّ السعادة لديك قد اكتملت أركانها وكذلك الأمر مع "نسايم الليل" !!!. ) أنتهى.
وددت لو أدليت بدلوك في هذا الأمر, وانا على وعدي بمناقشة أمر اليمين الصهيوني في الرسالة القادمة.
بابكر
***
بابكر فيصل بابكر
كلورادو - دنفر في عشر مضين من مايو 2006
الأخ العزيز محمّد
تحايا طيبة مباركة
وصلني مكتوبك الذي يتناول أمر معركة الأرماقدن وينتهي بتساؤلك عن السبب الذي دفع بوش لغزو العراق بعجلة وأصرار. ولعلك تذكر بريدي السابق اليك والذي تناول أمر المحافظين الجدد وسيطرتهم علي الأدارة الأميركية الحالية. والحقيقة المكملة لهذه السيطرة هي التحالف القائم بين المحافظين الجدد واليمين المسيحي الأفنجيلي.
الأفنجيليين
الجماعة الأفنجيلية هي جماعة مسيحية بروتستانتية تؤمن بما جاء في التوراة, ويعرف أصحاب هذه الجماعة بالذين أي الذين رجعوا الى طريق المسيح القويم بعد أن ضلوا. ونسبة هؤلاء في أميركا تبلغ Reborn" ولدوا من جديد"
حوالى 28 % من السكان, والمتشددين منهم يمثلون حوالى 13 % من تلك النسبة, وتؤمن أكثرية المتشددين بمعركة الأرماقدن.
من أشهر غلاتهم القس " بيلي غراهام" والقس " بات روبرتسون" الذى قال في يناير الماضي أنّ الجلطة الدماغية التي تعرض لها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق أرييل شارون هي "عقاب من الله له على مساعيه لإعطاء مزيد من الأراضي للفلسطينيين".
تعتقد الجماعة الأفنجيلية أنّ معركة الأرماقدن ( موضع في سهل مجيدو بفلسطين) المنصوص عليها في سفر الرؤيا, ستكون معركة فاصلة بين اليهود وحلفائهم من جهة, وبين أعدائهم وحلفائهم من جهة أخرى, وأنها سوف تنتهي بابادة أغلب من على الأرض وأنبعاثها من جديد بنزول السيد المسيح الذي سوف يجلس على كرسي الاله لكي يكون الحكم الفصل فيقتل الأشرار و يحيي الأخيار و ينصر الدين و يذل أعداءه !!!
ويقول الأفنجيليون أنّ نزول المسيح وتحقق النبوءة لن يتم إلا بتجميع كل اليهود في فلسطين وأقامة دولة أسرائيل الكبرى ، بمساعدة من الدول العظمى, حيث يقول أحد غلاتهم وهو القس فولويل " أنّ الدليل الدراماتيكي على عودة المسيح هو اعادة ولادة شعب اسرائيل", وهذا ما يفسّر دعمهم اللامتناهي لطرد الفلسطينيين من أرضهم ولأقامة المستوطنات. وينظرون للمسلمين كمعطلين لرجعة المسيح بسبب وقوفهم حجرعثرة في طريق توحيد القدس كعاصمة لأسرائيل, ومنعهم اعادة بناء الهيكل, وهى المقدمات الضرورية لعودته.
وقد دعم اليمين الأفنجيلي المحافظين الجدد في حربهم على العراق من منظور ديني يعقد صلة أبدية ومتجددة بين
بابل وأورشليم. فبابل هى الظلام, وأورشليم هى النور. ودمار بابل يمثل شرطا لأنبعاث أورشليم. هكذا يقول العهد القديم الذي ورد فيه ذكر بابل حوالى ثلاثمائة مّرة بوصفها أرض الخطيئة, وبلد التجسّد الشيطاني الأول الممثل في نبوخذ نصر سابي اليهود, والوعد الأول بأرماقدن.
الملحمة الاسلامية الكبرى
هذا ما كان من شأن هذه الفرقة البروتستانتية , أما فيما يخص النبوءة الأسلامية بمعركة الأرماقدن , فهي في غالب الأمر من الأسرائيليات التي وجدت طريقها الي كتب التراث, فالعقيدة الأسلامية في أصولها لا تتحدث عن معركة فاصلة يقودها المسيح المنطلق من سهل مجيدو علي الرغم من الأشارة الي عودة المسيح في اخر الزمان, وعن معركة فاصلة هى الملحمة الكبرى التي يفسّرالبعض بتعسف واضح حديث الرسول (ص) عنها بأنه يعني الأرماقدن, حيث ينسب للرسول القول في حديث عن أبي هريرة " لا تقوم الساعة حتى ينزل الروم بالإعماق أو بدابق، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ، فإذا تصافوا: قالت الروم خلو بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم، فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا، فيقاتلونهم، فينهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبدا، ويُقتل ثلثهم أفضل الشهداء عند الله ويفتتح الثالث، لا يفتنون أبداً فيفتحون قسطنطينية، فبينما هم يقتسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان، أن المسيح قد خلفكم في أهليكم، فيخرجون وذلك باطل، فإذا جاءوا الشام خرج، فبينما هم يعدون للقتال، يسوون الصفوف إذا أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم عليه السلام..." .
أما حديثك عن نبوءة نوستراداموس فليس لدىّ تعليق عليه.
لا يخفى عليك أن اللاهوت في أصله يستند الي أنظمة نفي متبادل كما يقول الدكتور محمد أركون. فكل دين يري في نفسه الحق وفي بقية الأديان غير ذلك وهذا أمر سيستمر الي قيام الساعة وفي هذه الأثناء وحتي قيام الساعة سيوظف كل دين عقيدته في سبيل السيطرة والسيادة وما موضوع الأرماقدن الاّ حلقة من حلقات الصراع اللاهوتي.
ما يهمنا في أمر هذا التوظيف الديني للعقائد هو أنعكاساتها السياسية التي تؤثر علي أحوال العالم الذي نعيشه. وما من شك في أن العالم في هذه اللحظات تتحكم فيه ظلال من الأساطير بحكم أنّ القوة العظمي فيه وأعني أمريكا يقودها مثل هذا الفكر, وعلي الضفة الأخرى من النهر نجد أن الرئيس الأيراني يدعو لأزالة أسرائيل من الوجود حتي يعود " المهدي المنتظر" والأشارة هنا للأمام الغائب "الحسن العسكري" الذي دخل السرداب قبل أكثر من الف عام وينتظر الشيعة أن يعجّل الله بفرجه حتي تقوم الساعة, وهو الأمر الذي لن يتم الاّ بزوال أسرائيل. ألم أقل لك أنّ الكل يوظف أسطورته بحسب ما يعتقد !!!
ليس مطلوبا أن تتوحد كل الأديان, فهذا مستحيل,ويسير عكس المشيئة الألهية, المطلوب هو أن نعلي من قيم التسامح والتحاور والتعايش الموجودة في كل دين, و في هذا الخصوص كنت دوما من المؤيدين لجهود حوار الأديان المختلفة وخصوصا تلك التي يضطلع بها الأزهر الشريف.
كسرة
بالأمس شاهدت فيلم "شيفرة دافنشي" المأخوذ من الرواية التي ملأت الدنيا وشغلت الناس. وأكثر ما يلفت النظر في الرواية /الفيلم - وبغض النظر عن مدى الصحة التاريخية لما أدعّاه دان براون من زواج المسيح من مريم المجدلية – هو طرحها /ه لقضية التدخل المباشر للسلطة السياسية ممثلة في الامبراطور قسطنطين والسلطة الدينية ممثلة في الكنيسة في تشكيل التاريخ وصياغة العقيدة المسيحية بعد حوالي ثلاثة قرون من مجىء المسيح عليه السلام. وفي ظني أنّ هذا الأمر لا يقتصر علي المسيحية وحدها بل يشمل الأديان التوحيدية الأخري, أعني الأسلام واليهودية.
بين يدي الان كتاب للمفكر السوري الدكتور عبد الرزاق عيد يتناول فيه بالنقد العقل الفقهي المشيخي, وعنوان الكتاب مأخوذ من توصيف للأمام محمد عبده لممثلي تلك المدرسة من مدارس الفكر الأسلامي وهو " سدنة هياكل الوهم" , وعلي الرغم من أنّ الأسلام لا يعترف بسلطة دينية لأحد غير الرسول الكريم الاّ أنّ التاريخ الأسلامي يقول بغير ذلك, فالأسلام السني تمت صياغة كبري فرضياته ومدارسه الفقهية في ظل تدخل مباشر للسلطتين الأموية والعباسية وقد تم تدوين معظم أطروحاته بعد حوالى قرنين من وفاة الرسول الكريم (ص).
الشىء الثاني الملفت للنظر في أمر "شيفرة دافنشى" هو أنّ الرواية وزعّت أكثر من خمسة وعشرين مليون نسخة في الدول الغربية ( أوروبا وأمريكا) في الثلاثة أشهرالأولي لنشرها في حين تم منع نشر الرواية في لبنان بسبب النفوذ الكبير للكنيسة المارونية, الأمر الذي يعني أنّ المرجعية الثقافية لمسيحية الشرق تختلف أختلافا جوهريا عن المرجعية الثقافية للمسيحية الغربية التي لا تحظر النقد الذي يطال المقدّس وهو الأمر الذي يحيلنا الي شىْ قريب الشبه من رواية دان براون وهي رواية سلمان رشدي "اّيات شيطانية" التي تم منعها في كافة الدول الأسلامية وصدرت فتوي من الأمام الخميني بقتل صاحبها.
استعدال
عطفا على حديث التسامح أستعير قولا للشاعر الكبير نزار قباني في اجابته على سؤال لمحررة مجلة "المشاهد" اللندنية عن المشهد الشعري العربي حيث قال " أحدّق في كل الوجوه الشعرية ولا أكاد أري الاّ وجه محمود درويش". وأنا أقول : أحدّق في كل الوجوه الفنيّة ولا أكاد أرى الا وجهها معبّرا عن التسامح الديني والأنتماء الحضاري والتعايش السلمي : نيهاد حدّاد.
والدها وديع حداد, كاثوليكي سرياني الأصل كان قد هاجر للبنان من مدينة ماردين الواقعة في جنوب شرقي تركيا حاليا ( بالمناسبة ماردين هذه هى البلدة التي أصدر بن تيمية أشهر فتاواه حول أهلها و هى المعروفة بأسم " فتوى ماردين" والتي يستخدمها الأسلام الجهادي في تبرير حملاته العشوائية للقتل والذبح والتفجير), ووالدتها مارونية.
استمع اليها وهى تتغنى بمدح المصطفى (ص) :
أقول واّنست بالليل نارا لعلً سراج الهدى قد أنارا
وإلا فما بالُ اُفق الدُجى كأنً سنا البرق فيه استطارا
وهذا نسيمُ شذا المسك قد أًعير أَم المسكُ منه استعارا
بشائر صبح السًرى اّذنت بأنً الحبيب تدانا مزارا
جرى ذكرُ طيبه ما بيننا فلا قَلبُ في الًركب إلا وطارا
حنينا إلى أحمدَ المُصطفى وشَوقا يهيّجُ الضُلوع استعارا
ولما حللنا فناءَ الرسول نزلنا بأكرم خلق جوارا
وقفنا بروضة دار السلام نعيد السلام عليها مرارا
لا. ليس هذا فحسب, بل اليك المزيد من الغناء الذي ينفذ الى القلب عن البقعة التي أحتوت بيت الهدى:
غنيت مكة أهلها الصيدا والعيد يملؤ أضلعي عيدا
فرحوا فلألأ تحت كل سما بيت على بيت الهدى زيدا
وعلى اسم رب العالمين علا بنيانهم كالشهب ممدودا
يا قارئ القرآن صلي لهم أهلي هناك و طيّب البيدا
من راكع و يداه أنستا أن ليس يبقى الباب موصودا
أنا أينما صلى الأنام رأت عيني السماء تفتحت جودا
ثم زهرة المدائن, درب معراج المصطفى (ص) الى السموات العلى :
يا قدس يا مدينة الصلاة
عيوننا إليك ترحل كل يوم
تدور في أروقة المعابد
تعانق الكنائس القديمة
و تمسح الحزن عن المساجد
يا ليلة الأسراء يا درب من مروا إلى السماء
عيوننا إليك ترحل كل يوم وانني أصلي.
( في تسامح يا اخوانا أكتر من كده ؟)
لو شئت لمنحتك المزيد, ولكنني في حضرة "فيروز" لا بد أن أعرّج على هذا المقطع من "شهرذاد القصيدة" ولو كلفني ذلك الخروج عن السياق :
طارت الدنيا بمن أهوى و بي
وافترقنا كيف يا ليل الرقاد
ساكن مابين قلبي المتعب
وجفوني وجهها رغم البعاد
ما اكتفينا بعد والدهراكتفى
فاقطف الأحزان مثلي واسهر
آه ياعينىّ لو يشرى الغفى
من عيون ما لكنت المشتري
قفلة
هذا ما كان من أمر البروتستانت الأفنجيليين ومن قبلهم المحافظين الجدد. كلاهما يسعى لتحقيق أهدافه بكل الوسائل, وهم في واقع الأمر – شأن كل من يعتقد أمتلاك الحقيقة المطلقة – يستبطنون شرا كثيرا. وما وجدت توصيفا لهذه الحالة مثل الذي أورده الكاتب السعودي تركي الحمد في ( شرق الوادي / أسفار من أيام الأنتظار) على لسان بطله سميح الذاهل الذي يقول : (عندما ترى أحدهم مهووسا بالحق مبالغا فيه, فاعلم أنّ الحق ليس معه, أو أنّه يخفي كل الباطل).
بابكر