(محكمة).
في اللحظة التي صرخ فيها الحاجب بصوت جهور بتلك الكلمة المقدسة; دخل القاضي إلى قاعة المحكمة; و جلس بوقار; و أخذ يقلب في أوراق القضية التي أمامه; بينما وقف ود المبارك ساهيا وأخذ يجول ببصره في القاعة المكتظة بالأنفاس. ذهنه كان شاردا من عقال عقله في الفضاء الزمني الممتد إلى تخوم القرية.
في ذلك الصباح الشتوي; خرج ود المبارك من بيته متوجها لفلاحة أرضه. وكانت هناك قمرية حنونة اتخذت من رأس البيت مسرحا; وشرعت في اظهار موهبتها الكبيرة بالغناء والرقص ويبدو أنها نجحت في لفت نظر ود المبارك فأرخى أذنيه و أخذ يستمع لهديلها الحلو بانتشاء. نسمات الصباح الباردة غسلت وجهه من بقايا النوم; فبدأ وجهه ناصعا برغم بقع الهم التي انتشرت بمياه عينيه وحولتهما الى بركة حزن ساكنة. خطوط الأسى كحّلت نظرته و رسمت خطوطا متعرجة فوق جبهته بدت مثل وشم منحوت بأصابع الزمن القاسية. شرع في سرج حماره على عجل. وضع اللبدة المنجدة بالصوف أولا ثم وضع عليها السرج. وحين شد حزام الوسط جيدا وربطه أسفل بطن الحمار; تململ الأخير ورفع حافره الأمامي الأيمن عن الأرض; وعض على أسنانه كالذي يكتم صرخات ريح داهمته بصورة فجائية; وشد بطنه ورفع صدره لأعلى كجندي يتأهب عند مرور قائده لتفتيش طابور الصباح. وحينما رفع ود المبارك ذيل الحمار لتمرير الحبل; تحرك الحمار للأمام وللوراء في حركة تنم عن عدم الرضاء..
(حاوو.. حاااو.. حاااو. المرض ال....).
عند حاو الثالثة أذعن الحمار للأمر وتوقف عن الحركة. كان ود المبارك قد أتم سرج حماره ووضع الخرج عليه. اعتلى جذع شجرة الدوم الذي جلبه عام أول لرفع سقف الغرفة الذي تهدم بفعل الهبوب; فما عادت سحب السماء تملك المعاول المائية التي كانت تنزل على بيوت القرية تهديما. منذ أن أتى بجذع الدوم بعد أن نحره الهدام من جذوره السفلية في أحدى غضبات النيل; ظل الجذع ممدا بمكانه أمام الفسحة الخارجية للبيت كتمساح عجوز نافق. شد اللجام بعزم; فدار الحمار نصف دورة مكّنت ود المبارك من تناول المخلاة التي يوجد بداخلها وجبة الفطور والغداء من يد ابنته إنصاف. لم يكترث الحمار ليد الطفلة الصغيرة وهي تنزل علي فخذه. فقد كان في تلك اللحظة يغالب ألم اللجام المشدود على حنكه السفلي وشوق اجتاحه حينما وقع بصره على حمارة ود الحسين. نهق الحمار نهيق مكتوم; ورفع ذيله متألما أو مغازلا لحمارة ود الحسين التي كانت تنظر بطرف ناعس لسرجها الموضوع فوق الحجر بالقرب من زريبة الأغنام. انطلق الحمار يحفر الدرب باتجاه النقطة التي أطلت منها الشمس بشكل مفاجئ من بين الأشجار وراحت تغازل بأشعتها الذهبية أكتاف النيل وهو يمضي بصمته القديم الذي ورثه من أسلافه حينما كان ينعم بالعيش في الفردوس الأعلى . في الطريق الى أرضه; مر ود المبارك على الخير الحداد لأخذ المنجل والمعول. قال الخير مؤكدا على جودة صنعته.
(يمكنك أن تحفر بالمعول رأس الجبل وتزرع الزول يقوم زول بي كريعاتو ماشي. أما المنجل فاذا لم تكن فاطر قراصة بي لبن رائب فلا تخاطر. فأنا لست مسئولا لو حشيت أصابع يدك بدلا عن سيقان البرسيم).
ابتسم ود المبارك ابتسامة متحدية.
(سمح يا الخير النشوف آخر كضبك دا حدو وين).
وكز ود المبارك حماره تجاه قرص الشمس الخارج من خضرة الحقول. كان ذهنه منشغلا بتوفير مصروف السفر لولده البكر; فقد تم قبوله بالكلية الحربية. وبرغم احرازه لدرجات تؤهله للدخول لأحدى الكليات العلمية في احدى الجامعات المرموقة; الا أن الابن البار فضّل الالتحاق بالكلية الحربية لتقليل المنصرفات على أبيه. قال وهو يربت على كتف أبيه.
(كلها سنتان يا أبوي; واتخرج ضابط وأساعدك في مصروف البيت و تعليم أخوتي الصغار). حينما شاهد الابن البار الدموع ترقرقت في عين أبيه; ابتسم بسخرية و أضاف.
(ثم انها الكلية الوحيدة التي توظفك على الفور وبمرتب ثابت من أول يوم).
( خير يا ولدي الله يعدل خطوتك).
فكّر ود المبارك في بيع حوضين من البرسيم وبثمنهما يستطيع ابنه السفر. تذكّر الحديث الذي سمعه في نشرة الساعة السادسة والنصف صباحا بالاذاعة. هو في العادة لا يلتفت لأخبار الحكومة. الحكومة تبيعهم الوهم و تسلب أموالهم; كان كل همه الاستماع الى أخبار الوفيات وبرنامج نفحات الصباح. هذا في الصباح وفي المساء بعد نشرة الثامنة يستمع الى برنامج من ربوع السودان ثم يتعشى وينام. ولو لا ذلك لما اقتنى راديو من الأساس. حتى هذه الهواية المسلية; تبددت كحلم قديم مع ظهور برامج جديدة واذاعات جديدة يقول عنها ود المبارك: ليس لها طعم ولا نكهة و لا لون. ويقول أيضا أن جميع الاذاعات سطا عليها أناس بليل; لا هم لهم سوى الكلام الفارغ من أي مضمون. جميع من تسميهم الاذاعات خبراء اقتصاد يلوكون الهواء ليل نهار عن حال الاقتصاد المتدهور وان الحل الوحيد يكمن في الاتجاه للزراعة. ليل نهار يستمع ود المبارك لهذا الهراء. ولم يزره واحد من هؤلا الخبراء الخراء بالحقل خلال سنينه التي جاوزت الخمسين والتي قضاها جميعها في فلاحة الأرض. هو يعشق أرضه كما يعشق زوجته ميمونة. كلتاهما أتته بدون أن يطلب. ميمونة هدية عمه و الأرض هدية أبيه يوم عقد قرانه على ميمونه. وظل ود المبارك طوال هذه السنوات يحفر بطن الأرض بالنهار ويزرع رحم ميمونة بالليل; فانبتت الأرض الخير الوفير وأنجبت ميمونة من رحمها الخصب أبناء وبنات. بلغ عددهم عشرة غير الذين اسقطهم القدر. وفي كل مرة يرزق بطفل كان ود المبارك يحفر عميقا في باطن الأرض. فقد سمع أمام المسجد ذات جمعة يقول أن كل طفل يولد برزقه وهو يعلم أن زرقه ورزق أطفاله في باطن الأرض فكان ينزل بالمعول مع حمماته المتقطعة. هة.. هة.. هة...على صدر الأرض التي كانت المستلقية تستقبل معوله بشبق.
عام أول حصد محصول وفير. البصل والبطاطس والفول. وعندما ذهب بمحصوله للسوق لم يسدد ثمن المحصول أجرة الشاحنة التي حملته و محصوله لسوق السماسرة القذر. لم يشتر شيئا من السوق; ولا قارورة جلسرين ليدهن بها يديه المشققتين. و العام الذي قبله ترك محصوله بالحقل حصاد للبهائم بعد أن فشل في تسويقه فشلا ذريعا. انتهى من ربط حزم البرسيم بسعف النخيل. تمم على وزنها. رفعها لأعلى عدة مرات. ستة حزم كبيرة كل واحدة باربعين جنيه ذلك يعني مئتان و أربعون جنيها. يعطي ولده نصفها للسفر والباقي يتركه مصروفا للبيت; فالأمر لا يخلو من بعض المفاجأت. شعر بسعادة كبيرة وشعور بالفرحة غمره وجعله يقرر غمر حوضي البرسيم بالماء أيضا. فليس من الانصاف أن يغمره الفرح ويترك حوضي البرسيم بلا ماء و بعد أن فعل منجله المسنن فعله بهما. سمع صوت هدير ماكينة عربة يشق بساط الحقول الأخضر. رفع رأسه وبطرف كمه مسح حبات العرق المتفصد على جبينه. رأى العربة تقترب منه شيئا فشيئا مخلفة ورائها غبار كثيف تلوى بالجو بلا هدى وبالأخير انحشر بين الحقول وفروع الأشجار وظل عالقا بالجو يرقب. توقفت العربة الفارهة وترجل منها ثلاث رجال. ود المبارك يعرف منهم جابر رئيس اللجنة الشعبية. بعد السلام والترحاب. قال جابر وابتسامة ماكرة تغطي شفتيه وتسيل على لحيته المشذبة باتقان.
(أظنك سمعت بزيارة الرئيس للمنطقة) .
تشاغل ود المبارك بفتح الأبقة. ضرب المعول الأول فانفرجت شفة الأبقة المشققة لدى سماعها صوت خرير المياه القادم من الجدول. واصل جابر حديثة بعد ان نفض الغبار عن جلبابة الابيض بواسطة ورقة مسطرة ومكتوب عليها بعض الأسماء المرقمة.
(طبعا قررنا نحن في لجنة الاستقبال على كل مزارع مبلغ مائتي جنيه نقدا).
ابتسم بخبث واضاف.
(في حال تعذر النقد يمكننا القبول بحزم البرسيم هذه).
حمم ود المبارك. (هة) بالمعول الثاني ففغرت اللبقة فمها وابتعلت الماء الجاري بزبده في جوف حوض البرسيم المتعطش للمياه.
وهو ينظر لحزم البرسيم المصفوفة على جانب قال جابر بتهكم وازدراء واضحين.
(ستة حزم كافية).
ضحك مرافقاه بصوت عالي أعلي من صوت الوابور الذي كان يصخ المياه في بطن الجدول الذي امتلأ فمه بالزبد.
حمم ود المبارك..( هة.. هة.. هة). ورفع المعول للمرة الثالثة وهوى به على رأس جابر. سقط جابر على حافة الجدول وتدفق الدم واختلط بالماء والزبد سقى حوض البرسيم.
رفع القاضي رأسه و خلع نظارته; فاذا به يتخيلها معول مرفوع بيد ود المبارك.. خط توقيعه بالقلم الأحمر ثم أغلق ملف القضية. صرخ الحاجب.
محكمة....
.........
الأبقة ( اللبقة). قفل صغير من الطين يضعه المزارع ليسد به فتحة الحوض ليمنع خروج الماء منه.
في اللحظة التي صرخ فيها الحاجب بصوت جهور بتلك الكلمة المقدسة; دخل القاضي إلى قاعة المحكمة; و جلس بوقار; و أخذ يقلب في أوراق القضية التي أمامه; بينما وقف ود المبارك ساهيا وأخذ يجول ببصره في القاعة المكتظة بالأنفاس. ذهنه كان شاردا من عقال عقله في الفضاء الزمني الممتد إلى تخوم القرية.
في ذلك الصباح الشتوي; خرج ود المبارك من بيته متوجها لفلاحة أرضه. وكانت هناك قمرية حنونة اتخذت من رأس البيت مسرحا; وشرعت في اظهار موهبتها الكبيرة بالغناء والرقص ويبدو أنها نجحت في لفت نظر ود المبارك فأرخى أذنيه و أخذ يستمع لهديلها الحلو بانتشاء. نسمات الصباح الباردة غسلت وجهه من بقايا النوم; فبدأ وجهه ناصعا برغم بقع الهم التي انتشرت بمياه عينيه وحولتهما الى بركة حزن ساكنة. خطوط الأسى كحّلت نظرته و رسمت خطوطا متعرجة فوق جبهته بدت مثل وشم منحوت بأصابع الزمن القاسية. شرع في سرج حماره على عجل. وضع اللبدة المنجدة بالصوف أولا ثم وضع عليها السرج. وحين شد حزام الوسط جيدا وربطه أسفل بطن الحمار; تململ الأخير ورفع حافره الأمامي الأيمن عن الأرض; وعض على أسنانه كالذي يكتم صرخات ريح داهمته بصورة فجائية; وشد بطنه ورفع صدره لأعلى كجندي يتأهب عند مرور قائده لتفتيش طابور الصباح. وحينما رفع ود المبارك ذيل الحمار لتمرير الحبل; تحرك الحمار للأمام وللوراء في حركة تنم عن عدم الرضاء..
(حاوو.. حاااو.. حاااو. المرض ال....).
عند حاو الثالثة أذعن الحمار للأمر وتوقف عن الحركة. كان ود المبارك قد أتم سرج حماره ووضع الخرج عليه. اعتلى جذع شجرة الدوم الذي جلبه عام أول لرفع سقف الغرفة الذي تهدم بفعل الهبوب; فما عادت سحب السماء تملك المعاول المائية التي كانت تنزل على بيوت القرية تهديما. منذ أن أتى بجذع الدوم بعد أن نحره الهدام من جذوره السفلية في أحدى غضبات النيل; ظل الجذع ممدا بمكانه أمام الفسحة الخارجية للبيت كتمساح عجوز نافق. شد اللجام بعزم; فدار الحمار نصف دورة مكّنت ود المبارك من تناول المخلاة التي يوجد بداخلها وجبة الفطور والغداء من يد ابنته إنصاف. لم يكترث الحمار ليد الطفلة الصغيرة وهي تنزل علي فخذه. فقد كان في تلك اللحظة يغالب ألم اللجام المشدود على حنكه السفلي وشوق اجتاحه حينما وقع بصره على حمارة ود الحسين. نهق الحمار نهيق مكتوم; ورفع ذيله متألما أو مغازلا لحمارة ود الحسين التي كانت تنظر بطرف ناعس لسرجها الموضوع فوق الحجر بالقرب من زريبة الأغنام. انطلق الحمار يحفر الدرب باتجاه النقطة التي أطلت منها الشمس بشكل مفاجئ من بين الأشجار وراحت تغازل بأشعتها الذهبية أكتاف النيل وهو يمضي بصمته القديم الذي ورثه من أسلافه حينما كان ينعم بالعيش في الفردوس الأعلى . في الطريق الى أرضه; مر ود المبارك على الخير الحداد لأخذ المنجل والمعول. قال الخير مؤكدا على جودة صنعته.
(يمكنك أن تحفر بالمعول رأس الجبل وتزرع الزول يقوم زول بي كريعاتو ماشي. أما المنجل فاذا لم تكن فاطر قراصة بي لبن رائب فلا تخاطر. فأنا لست مسئولا لو حشيت أصابع يدك بدلا عن سيقان البرسيم).
ابتسم ود المبارك ابتسامة متحدية.
(سمح يا الخير النشوف آخر كضبك دا حدو وين).
وكز ود المبارك حماره تجاه قرص الشمس الخارج من خضرة الحقول. كان ذهنه منشغلا بتوفير مصروف السفر لولده البكر; فقد تم قبوله بالكلية الحربية. وبرغم احرازه لدرجات تؤهله للدخول لأحدى الكليات العلمية في احدى الجامعات المرموقة; الا أن الابن البار فضّل الالتحاق بالكلية الحربية لتقليل المنصرفات على أبيه. قال وهو يربت على كتف أبيه.
(كلها سنتان يا أبوي; واتخرج ضابط وأساعدك في مصروف البيت و تعليم أخوتي الصغار). حينما شاهد الابن البار الدموع ترقرقت في عين أبيه; ابتسم بسخرية و أضاف.
(ثم انها الكلية الوحيدة التي توظفك على الفور وبمرتب ثابت من أول يوم).
( خير يا ولدي الله يعدل خطوتك).
فكّر ود المبارك في بيع حوضين من البرسيم وبثمنهما يستطيع ابنه السفر. تذكّر الحديث الذي سمعه في نشرة الساعة السادسة والنصف صباحا بالاذاعة. هو في العادة لا يلتفت لأخبار الحكومة. الحكومة تبيعهم الوهم و تسلب أموالهم; كان كل همه الاستماع الى أخبار الوفيات وبرنامج نفحات الصباح. هذا في الصباح وفي المساء بعد نشرة الثامنة يستمع الى برنامج من ربوع السودان ثم يتعشى وينام. ولو لا ذلك لما اقتنى راديو من الأساس. حتى هذه الهواية المسلية; تبددت كحلم قديم مع ظهور برامج جديدة واذاعات جديدة يقول عنها ود المبارك: ليس لها طعم ولا نكهة و لا لون. ويقول أيضا أن جميع الاذاعات سطا عليها أناس بليل; لا هم لهم سوى الكلام الفارغ من أي مضمون. جميع من تسميهم الاذاعات خبراء اقتصاد يلوكون الهواء ليل نهار عن حال الاقتصاد المتدهور وان الحل الوحيد يكمن في الاتجاه للزراعة. ليل نهار يستمع ود المبارك لهذا الهراء. ولم يزره واحد من هؤلا الخبراء الخراء بالحقل خلال سنينه التي جاوزت الخمسين والتي قضاها جميعها في فلاحة الأرض. هو يعشق أرضه كما يعشق زوجته ميمونة. كلتاهما أتته بدون أن يطلب. ميمونة هدية عمه و الأرض هدية أبيه يوم عقد قرانه على ميمونه. وظل ود المبارك طوال هذه السنوات يحفر بطن الأرض بالنهار ويزرع رحم ميمونة بالليل; فانبتت الأرض الخير الوفير وأنجبت ميمونة من رحمها الخصب أبناء وبنات. بلغ عددهم عشرة غير الذين اسقطهم القدر. وفي كل مرة يرزق بطفل كان ود المبارك يحفر عميقا في باطن الأرض. فقد سمع أمام المسجد ذات جمعة يقول أن كل طفل يولد برزقه وهو يعلم أن زرقه ورزق أطفاله في باطن الأرض فكان ينزل بالمعول مع حمماته المتقطعة. هة.. هة.. هة...على صدر الأرض التي كانت المستلقية تستقبل معوله بشبق.
عام أول حصد محصول وفير. البصل والبطاطس والفول. وعندما ذهب بمحصوله للسوق لم يسدد ثمن المحصول أجرة الشاحنة التي حملته و محصوله لسوق السماسرة القذر. لم يشتر شيئا من السوق; ولا قارورة جلسرين ليدهن بها يديه المشققتين. و العام الذي قبله ترك محصوله بالحقل حصاد للبهائم بعد أن فشل في تسويقه فشلا ذريعا. انتهى من ربط حزم البرسيم بسعف النخيل. تمم على وزنها. رفعها لأعلى عدة مرات. ستة حزم كبيرة كل واحدة باربعين جنيه ذلك يعني مئتان و أربعون جنيها. يعطي ولده نصفها للسفر والباقي يتركه مصروفا للبيت; فالأمر لا يخلو من بعض المفاجأت. شعر بسعادة كبيرة وشعور بالفرحة غمره وجعله يقرر غمر حوضي البرسيم بالماء أيضا. فليس من الانصاف أن يغمره الفرح ويترك حوضي البرسيم بلا ماء و بعد أن فعل منجله المسنن فعله بهما. سمع صوت هدير ماكينة عربة يشق بساط الحقول الأخضر. رفع رأسه وبطرف كمه مسح حبات العرق المتفصد على جبينه. رأى العربة تقترب منه شيئا فشيئا مخلفة ورائها غبار كثيف تلوى بالجو بلا هدى وبالأخير انحشر بين الحقول وفروع الأشجار وظل عالقا بالجو يرقب. توقفت العربة الفارهة وترجل منها ثلاث رجال. ود المبارك يعرف منهم جابر رئيس اللجنة الشعبية. بعد السلام والترحاب. قال جابر وابتسامة ماكرة تغطي شفتيه وتسيل على لحيته المشذبة باتقان.
(أظنك سمعت بزيارة الرئيس للمنطقة) .
تشاغل ود المبارك بفتح الأبقة. ضرب المعول الأول فانفرجت شفة الأبقة المشققة لدى سماعها صوت خرير المياه القادم من الجدول. واصل جابر حديثة بعد ان نفض الغبار عن جلبابة الابيض بواسطة ورقة مسطرة ومكتوب عليها بعض الأسماء المرقمة.
(طبعا قررنا نحن في لجنة الاستقبال على كل مزارع مبلغ مائتي جنيه نقدا).
ابتسم بخبث واضاف.
(في حال تعذر النقد يمكننا القبول بحزم البرسيم هذه).
حمم ود المبارك. (هة) بالمعول الثاني ففغرت اللبقة فمها وابتعلت الماء الجاري بزبده في جوف حوض البرسيم المتعطش للمياه.
وهو ينظر لحزم البرسيم المصفوفة على جانب قال جابر بتهكم وازدراء واضحين.
(ستة حزم كافية).
ضحك مرافقاه بصوت عالي أعلي من صوت الوابور الذي كان يصخ المياه في بطن الجدول الذي امتلأ فمه بالزبد.
حمم ود المبارك..( هة.. هة.. هة). ورفع المعول للمرة الثالثة وهوى به على رأس جابر. سقط جابر على حافة الجدول وتدفق الدم واختلط بالماء والزبد سقى حوض البرسيم.
رفع القاضي رأسه و خلع نظارته; فاذا به يتخيلها معول مرفوع بيد ود المبارك.. خط توقيعه بالقلم الأحمر ثم أغلق ملف القضية. صرخ الحاجب.
محكمة....
.........
الأبقة ( اللبقة). قفل صغير من الطين يضعه المزارع ليسد به فتحة الحوض ليمنع خروج الماء منه.