أستاذى الكبير الدكتور طه حسين
تحية حب كبير واقتناع بك
قرأت فى «روز اليوسف» كلمة عتاب وجهتها لى؛ لأنى لا أرسل لك كتبى.. وهو عتاب شرفنى وأفرحنى.. والواقع أنه لم يصدر لى كتاب جديد منذ أكثر من عامين.. وقصتى الأخيرة التى تحمل اسم «أنف وثلاث عيون» رفضت الدولة التصريح بنشرها فى كتاب إلا بعد أن أحذف منها وأعدل فيها ورفضت أنا الحذف والتعديل، وبالتالى لم ينشر الكتاب.. ولكن ليست هذه هى المشكلة.. مشكلتى الحقيقية أننى منذ عامين وقد فقدت ثقتى فى نفسى إلى حد أنى لم أعد مقتنعا بأن لى إنتاجا أدبيا يستحق أن يقرأه أستاذى الكبير طه حسين.. ووجدت نفسى صريع أزمة نفسية قاسية أبعدتنى عن كل الناس، وكل مراكز الحركة، وكل من أحبهم.. واكتشفت فى نفسى أنى إنسان ضعيف.. غاية الضعف، بل اقتنعت أنى كنت دائما ومنذ أن ولدت، هذا الإنسان الضعيف.. أحمل ضعفى فى داخلى، وأحاول أن أخفيه تحت ستار من العناد الكاذب، والغرور المفتعل.. و لم أكن طول عمرى أستطيع أن أهرب من هذا الإحساس بالضعف، إلا عندما أمسك بقلمى وأكتب.. وقد كنت دائما أتحمل معاناة هائلة حتى أستطيع أن أهرب من ضعفى وأكتب.. ولكن فى السنتين الأخيرتين أصبحت هذه المعاناة أكبر من أن تحتمل.. وأكبر من أن أتغلب عليها.. فاستسلمت لضعفى، و لم أكتب خلال هذه الفترة سوى عدد قليل من القصص القصيرة.
> لماذا؟
> ماذا حدث لى؟
ربما كانت هذه الحملة المجهولة الظالمة التى وجهت ضدى وأنا أنشر قصة «أنف وثلاث عيون» مسلسلة فى مجلة روز اليوسف.. و لم تكن حملة أدبية ولم يقم بها أدباء، ولا حتى أنصاف أدباء، إنما قام بها بعض كتاب الصحف المشوهين، فى وقت كانت حالة الصحافة تبيح فيه لمثل هذه الأقلام أن تكتب فيه ما تشاء.. وكانت الحملة كما هى العادة تقوم على اتهامى بالإثارة الجنسية.. واحترت ماذا أفعل إزاءها، فالذين يكتبون ليسوا من الشخصيات المحترمة الذين يستحقون الرد عليهم.. وما يكتبونه ليس مناقشة موضوعية تستحق أن أشترك فيها. إنما هى حملة موجهة إلى شخصى.. فلم أجد إلا أن أسكت.. ولكن هذا السكوت أطمع فيّ صغار الكتاب، فاشتدت الحملة.. ثم أحاطتها ظروف كثيرة انتهت بأن قدم أحد أعضاء مجلس الأمة سؤالا عن القصة إلى الوزير المختص.. ولم يكن حضرة النائب أديبا بل إنه اعترف لى بأنه لم يقرأ القصة أصلا، ولكن قدمت له بعض فقرات منها.. إنه نائب كان يسعى لنشر اسمه فى الصحف.. فقط.
وفى هذا الوقت ذهبت إلى الأستاذ توفيق الحكيم وهو مجتمع بأعضاء لجنة القصة التابعة للمجلس الأعلى للفنون والآداب، وعرضت عليه الموضوع كله.. وقلت له: إن القضية قضية أدبية، وأن لجنة القصة هى صاحبة الحق فى أن تبدى رأيها فى هذا الاتجاه الأدبى، فإذا وجدت أنه اتجاه ليس من الأدب فى شىء، و أن نشره يعارض المصلحة العامة، توقفت عن السير فيه، رغم إيمانى به. ولأن الرأى هنا سيكون رأى لجنة من المختصين.. ثم لأنى لا أكتب فى هذا الاتجاه فحسب، ولكن معظم قصصى بعيدة كل البعد عن هذا الاتجاه، ورغم هذا فلو كان هذا الاتجاه صالحا للنشر فإن من حقى أن أسير فيه.. و.. و..
تكلمت كثيرا.. وتفضل أعضاء اللجنة والأستاذ توفيق الحكيم، وأيدوا هذا الاتجاه بل وهنأونى إليه فى حماس كبير.. فطلبت منهم أن يسجلوا رأيهم هذا فى محضر الجلسة، لا للنشر فى الصحف، ولكن فقط لألجأ إليه فى حالة تقديمى للمحاكمة إذا حدث وقدمت. وهنا تراجع الأستاذ توفيق الحكيم، وفهمت منه أنه لا يستطيع أن يسجل هذا الرأى الأدبى المحض، إلا بعد استشارة الأستاذ يوسف السباعى.. وكان يقصد استشارة الحكومة وخرجت من اجتماع اللجنة.. لست غاضبا، ولكن يائسا.. وأرسلت خطابا إلى الأستاذ توفيق الحكيم أعتذر له عن التجائى للجنة.
ولعل سيادتكم تذكر أن مثل هذه الضجة أثيرت عندما كتبت قصة «لا أنام»، والتجأت يومها إليك عندما كنت مجتمعا بأعضاء نادى القصة، وتفضلت أيامها وأيدت موقفى وشجعتنى عليه.. وكان التأييد الأدبى أيامها يكفى، ولكن فى هذه الحملة الأخيرة لم يكن التأييد الأدبى يكفى؛ لأن الحملة خرجت عن النشر فى الصحف إلى العرض فى ساحة مجلس الأمة.
إحسان عبدالقدوس
4/3/1966
تحية حب كبير واقتناع بك
قرأت فى «روز اليوسف» كلمة عتاب وجهتها لى؛ لأنى لا أرسل لك كتبى.. وهو عتاب شرفنى وأفرحنى.. والواقع أنه لم يصدر لى كتاب جديد منذ أكثر من عامين.. وقصتى الأخيرة التى تحمل اسم «أنف وثلاث عيون» رفضت الدولة التصريح بنشرها فى كتاب إلا بعد أن أحذف منها وأعدل فيها ورفضت أنا الحذف والتعديل، وبالتالى لم ينشر الكتاب.. ولكن ليست هذه هى المشكلة.. مشكلتى الحقيقية أننى منذ عامين وقد فقدت ثقتى فى نفسى إلى حد أنى لم أعد مقتنعا بأن لى إنتاجا أدبيا يستحق أن يقرأه أستاذى الكبير طه حسين.. ووجدت نفسى صريع أزمة نفسية قاسية أبعدتنى عن كل الناس، وكل مراكز الحركة، وكل من أحبهم.. واكتشفت فى نفسى أنى إنسان ضعيف.. غاية الضعف، بل اقتنعت أنى كنت دائما ومنذ أن ولدت، هذا الإنسان الضعيف.. أحمل ضعفى فى داخلى، وأحاول أن أخفيه تحت ستار من العناد الكاذب، والغرور المفتعل.. و لم أكن طول عمرى أستطيع أن أهرب من هذا الإحساس بالضعف، إلا عندما أمسك بقلمى وأكتب.. وقد كنت دائما أتحمل معاناة هائلة حتى أستطيع أن أهرب من ضعفى وأكتب.. ولكن فى السنتين الأخيرتين أصبحت هذه المعاناة أكبر من أن تحتمل.. وأكبر من أن أتغلب عليها.. فاستسلمت لضعفى، و لم أكتب خلال هذه الفترة سوى عدد قليل من القصص القصيرة.
> لماذا؟
> ماذا حدث لى؟
ربما كانت هذه الحملة المجهولة الظالمة التى وجهت ضدى وأنا أنشر قصة «أنف وثلاث عيون» مسلسلة فى مجلة روز اليوسف.. و لم تكن حملة أدبية ولم يقم بها أدباء، ولا حتى أنصاف أدباء، إنما قام بها بعض كتاب الصحف المشوهين، فى وقت كانت حالة الصحافة تبيح فيه لمثل هذه الأقلام أن تكتب فيه ما تشاء.. وكانت الحملة كما هى العادة تقوم على اتهامى بالإثارة الجنسية.. واحترت ماذا أفعل إزاءها، فالذين يكتبون ليسوا من الشخصيات المحترمة الذين يستحقون الرد عليهم.. وما يكتبونه ليس مناقشة موضوعية تستحق أن أشترك فيها. إنما هى حملة موجهة إلى شخصى.. فلم أجد إلا أن أسكت.. ولكن هذا السكوت أطمع فيّ صغار الكتاب، فاشتدت الحملة.. ثم أحاطتها ظروف كثيرة انتهت بأن قدم أحد أعضاء مجلس الأمة سؤالا عن القصة إلى الوزير المختص.. ولم يكن حضرة النائب أديبا بل إنه اعترف لى بأنه لم يقرأ القصة أصلا، ولكن قدمت له بعض فقرات منها.. إنه نائب كان يسعى لنشر اسمه فى الصحف.. فقط.
وفى هذا الوقت ذهبت إلى الأستاذ توفيق الحكيم وهو مجتمع بأعضاء لجنة القصة التابعة للمجلس الأعلى للفنون والآداب، وعرضت عليه الموضوع كله.. وقلت له: إن القضية قضية أدبية، وأن لجنة القصة هى صاحبة الحق فى أن تبدى رأيها فى هذا الاتجاه الأدبى، فإذا وجدت أنه اتجاه ليس من الأدب فى شىء، و أن نشره يعارض المصلحة العامة، توقفت عن السير فيه، رغم إيمانى به. ولأن الرأى هنا سيكون رأى لجنة من المختصين.. ثم لأنى لا أكتب فى هذا الاتجاه فحسب، ولكن معظم قصصى بعيدة كل البعد عن هذا الاتجاه، ورغم هذا فلو كان هذا الاتجاه صالحا للنشر فإن من حقى أن أسير فيه.. و.. و..
تكلمت كثيرا.. وتفضل أعضاء اللجنة والأستاذ توفيق الحكيم، وأيدوا هذا الاتجاه بل وهنأونى إليه فى حماس كبير.. فطلبت منهم أن يسجلوا رأيهم هذا فى محضر الجلسة، لا للنشر فى الصحف، ولكن فقط لألجأ إليه فى حالة تقديمى للمحاكمة إذا حدث وقدمت. وهنا تراجع الأستاذ توفيق الحكيم، وفهمت منه أنه لا يستطيع أن يسجل هذا الرأى الأدبى المحض، إلا بعد استشارة الأستاذ يوسف السباعى.. وكان يقصد استشارة الحكومة وخرجت من اجتماع اللجنة.. لست غاضبا، ولكن يائسا.. وأرسلت خطابا إلى الأستاذ توفيق الحكيم أعتذر له عن التجائى للجنة.
ولعل سيادتكم تذكر أن مثل هذه الضجة أثيرت عندما كتبت قصة «لا أنام»، والتجأت يومها إليك عندما كنت مجتمعا بأعضاء نادى القصة، وتفضلت أيامها وأيدت موقفى وشجعتنى عليه.. وكان التأييد الأدبى أيامها يكفى، ولكن فى هذه الحملة الأخيرة لم يكن التأييد الأدبى يكفى؛ لأن الحملة خرجت عن النشر فى الصحف إلى العرض فى ساحة مجلس الأمة.
إحسان عبدالقدوس
4/3/1966