لطيفة الزيات - على ضوء الشموع.. قصة قصيرة

وقفت خلف باب الشقة التي تقيم فيها تستعجل الرحيل ورغبة قديمة تلح عليها في الإفلات من الشقة العالية تطل على النيل, ومن دائرة نفوذ زوجها الذي يرقد في السرير إلى ساعة متأخرة من النهار كعادته.

وفي انتظار مرور المضيفة صاحبة البيت الريفي في قرية سنور وزوجها الكاتب المسرحي ليصحباها إلى محطة الأتوبيس المتجه إلى بني سويف, وقفت تستعجل الرحيل.

وفي اللحظة الأخيرة دست في حقيبة السفر الصغيرة مشروع روايتها الثانية, فلربما… ربما ماذا? على مدى سنتين وهي تهدم في يسار الدفتر الرملي اللون ما تبنيه في اليمين وخطوط المشروع لا تكتمل. تعليقات الإنسان السياسي فيها, حيا لم يزل, تتغلى في اليسار بتواريخ متلاحقة تمتد من سنة 1960 إلى 1962, ترفض محاولة تصوير تجربة فشل فردية كتجربة الإنسان الكلية, ترفض الخروج على الناس برسالة يأس من الحياة.

فهل يعقل أن تنفرج في يومين أزمة استطالت سنتين? سنتين أم عشرا? تساءلت في مرارة وهي ما تزال تقف خلف الباب المغلق. وغيبت السؤال كعادتها أخيرًا حين تطرق أرضًا محرمة. وانتوت أن تخلص بكليتها لتجربة المعيشة في قرية وهي تجربة جديدة عليها.

Report this ad

***

استقلت الأتوبيس المتجه إلى بني سويف, وقد انضمت إلى المجموعة صديقة ناقدة أدبية وشقيقتها الطبيبة, وزوجها أستاذ علم النفس. وشعرت بنوع من الانتماء والمجموعة التي تسافر معها أقرب إليها من المجموعات التي تتحرك في إطارها خلف زوجها, أكثر أصالة وأقل ادعاءً وأصدق. مع هذه المجموعة يستطيع الإنسان أن يسقط أقنعته وأن يتخفف من دروعه ويرتخي قليلاً, وهو لا يتوقي في كل لحظة الضربة المقبلة. ليست بالمجموعة التي تسهر في كافتريا سميراميس “الليل والنهار” ولا التي تتناول العشاء على ضوء الشموع في المطاعم الأنيقة, ولا تلك التي تزين الليالي الافتتاحية في المسارح ومعارض التصوير والندوات العامة.

تلتقي هي والمجموعة التي تسافر معها في الكثير من الاهتمامات, حتى في السياسة وإن لم تتماثل. تبقي بحكم ماضيها السياسي البطة السوداء في سرب البط الأبيض. الحمراء يقول الكثيرون, ولكن الأمر أصبح يختلط حتى عليها.

***

يتوغل الأتوبيس في طريق الصعيد الزراعي تميزه أشجار النخيل على الجانبين عن معظم الطرق الزراعية في دلتا النيل. تتكاثف أشجار النخيل كالغابات وتبدو التلال الصحراوية في الأفق وجهاز الراديو في الأتوبيس يذيع أغنية “مين قال إن الحب زي العسل والحب أحلي من العسل”. إيقاع الأغنية الرتيب يتكرر على نفس الوتيرة الخانقة والتلال الرملية تتقارب, تجثم على الوادي الأخضر, جاجارين, مترجمًا من الروسية إلى العربية, يتحدث عن أول رحلة للإنسان إلى الفضاء, والتلال تخنق الوادي. يصل الأُتوبيس إلى بني سويف وعبد الحليم حافظ يغني “عشانك يا قمر أطلع لك القمر”.

تحمل المجموعة سيارة أجرة إلى أقرب بقعة من قرية سنور التي تقع على حدود الصحراء الشرقية. تتوقف السيارة وقد عبرت الوادي ولم يعد التقدم ممكنًا.

تغوص هي والمجموعة في تلال الرمل, وتجلس على شط النيل في انتظار وصول المعدية. لم يتبق سوى عبور النيل للوصول أخيرًا إلى بيت ريفي قديم, ندر استخدامه في السنين العشر التي تلت تطبيق قانون الإصلاح الزراعي.

***

في انتظار المعدية افترشت رمال الشاطئ ترقب الضفة الشرقية للنيل. النيل يلتف في نصف دائرة يحجب الرؤية من الجانبين. الوجود يبدأ هنا وينتهي, عند هذا الشط من الرمال الصفراء الدقيقة الناعمة تلتمع كحقل من الكهرمان تحت أشعة الشمس, عند هذا السوار الأخضر الفيروزي من النخيل السامق يطوق الكهرمان والفيروز في سكينة أبدية.

وودت لو بدأ الوجود هنا وانتهى والسكينة أبدية. وفي الأفق لمحت التلال الرملية تطوق النيل والشط والنخيل, وتطوقها. وقلبت صفحات دفترها الرملي بحثًا عن فقرة في مشروع روايتها تصف الاختيارات المفتوحة أمام بطلتها, وما من اختيار:

“طريق من الطريقين مفتوح أمامها, وقد تلفت بلا أمل في البرء, إما أن تستسلم وتعيش بقية حياتها بطعم المرارة في فمها, وإما أن تتقبل الحقيقة في شجاعة”.

وما من طريقين, وإنما طريق واحد, وما بين الموت والموت موت والحقيقة المطلوب تقبلها في “شجاعة” موت. وانتفضت واقفة تلملم أشياءها وقد وصلت المعدية.

***

ازدحمت المعدية بفلاحين يعودون بملابس الأعياد بعد رحلة لا مفر منها إلى المدينة, وبفلاحين يعملون في المدينة جاءوا بعد غيبة في زيارة قصيرة للأهل, وبمجموعة المثقفين القاهريين وبحمارين وماعزة. وساد المعدية جو احتفائي ودود, والفلاحون يتبادلون التحيات بعد غيبة, يسألون عن الأهل ويحملون الأشواق للأحباب توزعوا في شطري النيل بحثًا عن الرزق.

وجلست هي تستمع إلى الحديث يدور بين ريس المعدية يربط القرية المعزولة بالعالم الخارجي, وبين الفلاحين. ويحكي الريس عن النبوءة التي روجت لها صحف القاهرة منذ أسبوع عن قرب حلول يوم القيامة, وينهق الحمار الأبيض نهيقًا مستطيلاً, وتضحك فلاحة عائدة بماعزتها من المستشفى البيطري وتقول:

– والنبي ياريس لما الموت يجي ما تعديه, عشان ما يجيش حدانا.

تبقي مشكلات البقاء حقيقة الحقائق التي تتضاءل إلى جانبها كل حقيقة, ما دام في الدنيا بشر يكافحون من أجل البقاء. الوجود والعدم لا يؤرق الفلاحة كما يؤرق كير كجارد, “ولا غثيان” سارتر يؤرقها ولا عبثية كامي. ليست الفلاحة من المرفهين. الفلاحة تتعامل ببساطة وبخفة مذهلة مع الموت, أو حقيقة الحقائق, كما يسميه كاتب مصري. تحيل الموت إنسانًا تعايشه وتعانده, تقر بوجوده وتتجاوز هذا الإقرار فيما تتجاوز وهي تكافح من أجل البقاء.

تشتد الريح وتميل المعدية إلى جانب, يستوي سطحها وسطح الماء. تتبادل هي ومجموعتها نظرات التساؤل وبسمات التجلد, مصنوعة في وجه غرق محتمل في النيل, والفلاحون والريس يواصلون الحديث في جو احتفائي ودود وسطح الماء يستوي وسطح المعدية, وكأن الفاصل بين الحياة والموت قد انتفي وتصالحت الأضداد في لحظة احتفائية ودود.

تصل المعدية إلى الشاطئ وتغمرها فرحة الحياة والريس يطلب “السجادة”. تتطلع لرجال يتقدمون نحو المعدية يحملون فيما بينهم شيئًا خشبيًّا. وبدلاً من “السجادة” تتعرف على نعش لطفل صغير. وفي لحظة مكثفة تتصادم الحياة بالموت, وتلتقي عيناها بعيني الفلاحة ذات الوجه البشوش وهي تفسر الوضع بصيغة تقريرية خالية من الانفعال.

– أصل ما حدناش قرافة… بندفن موتانا في البر التاني.

وتراقب الفلاحة تسحب ماعزتها الهزيلة, وتنزل على “السجادة” إلى الشط الرملي بخطى ثاتبة. وتشعر بالخجل لأنها في عزلتها الطويلة عن الناس انزلقت إلى التفكير في عبثة الوجود, وحتمية فشل السعي الإنساني.

***

تأتّي أن يسير كل شيء وفقًا لبرنامج مسبق في إجازة آخر الأسبوع القصيرة, وأرست صاحبة البيت البرنامج. يخصص عصر اليوم لجولة حرة حول البيت والحقول التي يشرف عليها, وكذلك صباح اليوم التالي الذي يتوج مساؤه بالاستماع إلى مغني الأغاني الشعبية ذات اللون المحلي الفريد في هذه المنطقة. وما بين عصر ومساء اليوم التالي يتعين على صاحبة البيت وزوجها زيارة منزل خولي العزبة سابقًا, والمشرف حاليًا على توريد إيجار ما تبقي من أرض للأسرة. وهذه الفقرة من البرنامج اختيارية وعلى من يرغب في الخلود للراحة أن يبقي في البيت, وإن كان من الملائم أن تشارك الطبيبة في زيارة الخولي, وخاصة أن زوجته مريضة وما في المنطقة بأكملها طبيب, وإن تبقي الاختيار في نهاية الأمر اختيارها.

Report this ad

وتساءلت هي وقد انتهت صاحبة البيت من إرساء البرنامج:

– أين القرية?

وما من شيء يبدو من شرفات البيت سوى خضرة تنتهي بالرمال. وأكدت صاحبة البيت أن القرية ليست ببعيدة, وسيمر بها بالضرورة من يختار زيارة منزل الخولي مغرب اليوم التالي.

وما كادت صاحبة البيت تنتهي من كلامها حتى دخلت البيت فلاحة من القرية تحمل للطبيبة الزائرة طفلها الرضيع يحتضر.

***

بدأت بحديقة البيت التي استحالت بعد إهمال عشر سنوات إلى مرتع للأعشاب… حتى الأعشاب جفت. وخطر ببالها وهي تتجول أنها كفت من زمان طويل عن التجوال والتأمل. وارتسم في خيالها الدمع ينسحب بلا صوت على خدين معروقين لأم ريفية, وتساءلت هل بلغت بها التعاسة حد الخوف من التفكير? ما بين تفكير مخطط لمحاضرة, لندوة, لمقال, لحديث إذاعي أو تلفزيوني تقرأ, كل شيء وأي شيء حتى لا تفكر. إن لم تجد ما تقرؤه أسعفتها نشرة طبية للدواء ملقاة هنا أو هناك. هل أصبحت كالقطار يفقد توازنه ويتحطم إن خرج عن شريط السكة الحديد?

– المهم هو الرحلة وليس ما تتمخض عنه الرحلة, مواصلة الإنسان للسعي, وليس ما يتمخض عنه السعي الإنساني. ما من واحة خضراء في مكان ما أو زمان ما يتوصل إليها الإنسان. يلمح الإنسان الواحة الخضراء ويعيشها وهو يسعي. الرحلة هي الواحة الخضراء.

قالت هي تلخص “التيمة” المحورية في مشروع روايتها الثانية, يوم كانت تأمل في استكمال الرواية, وقال الصديق أستاذ علم النفس يعلق على المشروع:

– مشروع هذه الرواية يفلسف للفشل, يعمم ما لا يجوز تعميمه, والأكيد أن السعي الإنساني ليس مرصودًا بالفشل.

وأضاف بعد فترة صمت:

– هل تحاولين تبرير وضع لا تطيقينه?

وتأملت لأول مرة صدق تعقيبه, وأدركت أنها أسقطت هذا التعقيب فيما أسقطت من كلام الناس حتى لا يفقد القطار توازنه وينقلب. وقال زميل لزوجها يقف سياسيًّا على طرف النقيض منه:

– الناس مندهشة لأنك كتبت هذه الرواية الممتازه, رغم كل شيء.

ويومها استبعدت كلام زميل زوجها ككلام فارغ, ففيم الاندهاش وهي, رغم زيجتها, نفس الإنسان, إيمانها القديم لم يتغير ولا إرادة التغيير, سعت شابة إلى التغيير الاجتماعي بالفعل وتسعي إليه امرأة بالكتابة.

Report this ad

وفي حومة نجاح روايتها الأولى نسيت عهدًا قطعته على نفسها ورهانا عقدته: لو ملكت القدرة على استكمال هذه الرواية لواتتني القدرة على التحرر من زوجي, ومن هذا البيت, ومن هذا الأسلوب من الحياة.

وأكملت الرواية ونسيت العهد والرهان اللذين تتذكرهما الآن.

وتتبعت ممرات الحديقة مرصوفة بالحصى المدبب, وتساءلت: هل استوي الحصى على مر السنين أم تبلدت مشاعرها ولم تعد تشعر بالوخز يواتيها كل حين? وهل هي حقًا نفس الإنسانة بعد زيجة استطالت عشر سنين? هربت من الطفل نحلت ساقاه وانتفخت بطنه, تركته خلفها في البيت يموت وخرجت في جولة حرة. ربما اختنقت بالليل على وسادتها وبكت الطفل قليلاً وانتظم تنفسها وقد تمت عملية التطهير. وإن اختنقت من جديد وهذا المظهر من مظاهر البؤس والحرمان والقهر يلح عليها أو ذاك, ففي الروايات والمسرحيات والأفلام متسع للجميع. وبدلاً من أن تشارك بقدر ما تستطيع في تغيير الأوضاع ستبكي في ظلمة المسرح والسينما والسرير. ستظل تلعب لعبة البكاء لتوهم نفسها أنها لم تمت وما زالت تعيش. أدموع التكفير عن الذنب هذا السيل من الدموع أم دموع التطهير? وتمتمت وهي تستشعر وخز الحصى:

– شيء ما خطأ في بنياني.

وأضافت تطلب النجدة من ناس لم يعد لهم وجود يومي حي في كيانها:

– بالله عليكم دلوني أين موطن الخطإ.

– الناس تقول إنك تحلمين على الورق, تناضلين على الورق, تحققين على الورق ما لا تستطيعين تحقيقه على مستوى الحياة.

قالت لها ممثلة تكن لها الاحترام معلقة على روايتها الأولى, وهما تجلسان في كافيتيريا الإذاعة, ووصلتها الوخزة هذه المرة, وبدلاً من الإقرار بالحقيقة أجابت يومها في حدة واعتداد:

– فليحلم من يستطيع رواية مماثلة في الجودة.

وما كاد التعليق الساخن والرد السريع ينتهيان حتى انصرفت كل منهما إلى أداء دورها على الوجه الأكمل, الممثلة لدور من الأدوار التي تتغير كل يوم, وهي: إلى أي دور انصرفت? دور الكاتب الذي بزغ فجأة من المجهول إلى المعلوم وهو يملك مفاتيح لعبة الكتابة, الفنان القادرعلى أن يمنح من يريد أن يلعب مفاتيح اللعبة.

وأسوأ ما في الأمر أن اللعبة ليست بلعبة على الإطلاق. وأنها أصبحت وقد انتهت روايتها الأولى أشبه ما يكون بجحا ضاع صندوقه, وإن تبقت معه مفاتيح الصندوق. مفاتيح حرفة الكتابة مكتملة لا تملك أن تصنع هذا الوله الخالص بالحياة الذي هو مادة الفن. فأين هي الآن من هذا الوله الخالص الذي يتحول بدونه الفن إلى مادة للتسلية أو لعبة زخرفية?

– أردت أن أمسك برؤيتي للحقيقة كشابة, قبل أن تفلت مني هذه الرؤية نهائيّا.

داهمتها العبارة التي قالتها لمذيع محطة أجنبية, سأل:

– لماذا هذه الرواية بالذات وفي سنة 1960 بالذات?

ودهشت يومها وهي تستمع إلى نفسها تقر بحقيقة غيبتها طويلاً, ولا شك في أنها عادت وغيبتها, فها هي ذي العبارة تداهمها وهي تسير في حديقة جفت أعشابها وكأنها جديدة وقديمة, عرفتها وغيبتها. وأقرت أن الرؤية في روايتها الأولى ليست برؤية عمر معيش, وإنما عمر انقضي وسقط عن هذه الإنسانة التي تلعب لعبة البكاء.

وصعدت درجات السلالم المتآكلة تقسم الحديقة إلى مرتفعات ومنخفضات وهبطتها… لا شك في أن هذه المرتفعات والمنخفضات عنت الكثير والزهور تتفتح للشمس والهواء والأشجار سامقة, جذورها في الأرض وفروعها في السماء, ولم تعد تعني شيئًا. يستوي الصعود والهبوط الآن وقد جفت الحديقة.

حين نقلتها روايتها الأولى إلى قلوب الناس عني الوصول الكثير ولم يعن شيئًا, وكأن التي وصلت إنسانة أخرى غيرها, مخلوقة انتحلت ولهها الخاص بالحياة. في عيون البنات رأت بريق التعرف عليها وعلى الذات وفي شدّة يد ممتنة لشاب يصافحها على استحياء… وحلمت ذات ليلة أنها مدعوة إلى حفل. على درجة من درجات السلم المؤدي إلى قاعة الاحتفال وقفت مع بقية المدعوين, يسبقها ناس ويلحق بها آخرون, تعرفت بينهم على بعض كتاب مصر المعروفين, ونقلها مس كهربي وهي تقف في الصف على درجة من درجات السلم إلى حالة اليقظة تتساءل: هل أصاب الوخز بقية المدعوين أم انفردت هي بالشعور بالوخز?

ويومها شعرت أنها غشت قليلاً لكي تصل إلى قلوب الناس وأن الوخز قد أصابها لأنها فعلت, ومن يومها لاحقها الشعور بالفشل وهي تتحرك في دائرة النجوم التي تعبر في خطوة واثقة وابتسامة مدروسة مصنوعة, ممرات مبني الإذاعة والتليفزيون لتنتهي بالقول: (في الواقع…). وما من واقع فيما تقول.

وتهالكت جالسة على مقعد صخري وقد وجدت نفسها في كشك خشبي آيل للسقوط. وأقرت بأن لون التخشيبة قد تحول من الأخضر إلى الترابي. وألح عليها تعليق في يسار الدفتر الرملي يهدم مشروع رواية لا تكتمل في يمينه. ووجدت نفسها بلا وعي تردد كلماته: “الهروب من المواجهة لا يشكل حلاّ, يساوي الإقدام على الانتحار كبديل لانتظار استكمال عملية القتل”.

وأقرت بأن حبل خداع الذات طويل, وإن التف في نهاية الأمر على عنق الإنسان. وأخافها الإقرار فهربت إلى فسحة حقل قريب.

***

حاولت أن تتعرف على النبات الأخضر في الحقل. بدا لها من الضروري أن تفعل. ومدت يدًا مرتجفة وقطعت ورقة من أوراق النبات وقربتها إلى أنفها, وتركزت كل حواسها في حاسة الشم. ولم تتعرف على النبات. قطعت الورقة نصفين وذاقتها, مضغت جزءًا منها واستحلبته وهي تتذوق لتعرف ولم تزدد علمًا. بصقت الرحيق ومضت تتدحرج في الحقل.

تذكرت أنها أكلت, شابة, كوسة خضراء نيئة من الحقل وأحبتها في حومة الوله بالحياة الذي يعطي لكل شيء مهما صغر وتباين, مذاقًا خاصّا وفريدًا. حلمت صبية أن تجري هي وحبيبها حافية القدمين في حقل فول أخضر. أن تتمدد هي وحبيبها تضمهما الخضرة ورائحة الأرض الخصبة. أن تأكل هي وحبيبها الفول بشوكه مع الجبن القريش. وانتهت هي وزوجها يتناولان العشاء على ضوء الشموع كالعاشقين, وما من عشق تبقي بينهما. وأرادت كل مرة وهو يسحبها إلى هذه الدائرة اللامعة أو تلك أن تصرخ: كذبة هذه الشموع, كذبة زيجتنا, كذبة كل دائرة ندور فيها. وبدلاً من أن تصرخ تبدد الكذبة, عاشتها. وتساءلت هل أصبحت بدورها كذبة, جزءًا لا يتجزأ من مؤسسة تدمن المسكنات وتتحاشي الاصطدام وتقنّع الكلمات حتى لا يتفجر صراع الحياة الحي الصاخب?

بدلاً من أن تصرخ قرأت على زوجها ذات صباح قصيدة عن زيف المثقفين الساهرين في كافيتريا “الليل والنهار” نشرها صلاح عبد الصبور في أهرام الجمعة. لا تذكر الآن من القصيدة سوى بيت واحد وربما المعنَى دون الكلمات, المرأة تقول للرجل يسهر معها في الكافيتيريا:

قم بنا يا حبيبي قبل أن يطلع الصبح وتزول مساحيقي ولكنها تذكر أن عينيها غصت بالدموع وهي تقرأ القصيدة وتطهرت, واستمرت تعيش الكذبة.

Report this ad

وتذكر أنها لم تنس وهي في حومة الانفعال, أن تقرأ القصيدة كما ينبغي أن يقرأ الشعر الجيد المتذوق الجيد. وما بين الانفعال وضروريات اللياقة عاشت الكذبة.

في المطعم الأنيق تجلس وجهًا لوجه مع زوجها, تفصل بينهما الشموع وأنصاف الحقائق ومرارة الحقيقة وقسوة الخديعة والرفض المتبادل لماهية الآخر, والخوف من الاصطدام, والحرص على الصورة الاجتماعية والتظاهر بنجاح مشروع أفلس من زمن طويل, وكلمات قلم الحب أظافرها, وبعد الحب الجبن الاجتماعي أو تمدين المثقفين كما يسمي, كلمات لا تفصح أبدًا, تهرب كالزئبق, تلف وتدور متقنعة في المسالك الجبانة. تود لو تصرخ ولا تصرخ. وفيم الصراخ وجلسة الشموع ليست سوى طقس آخر من مجموعة الطقوس التي تشكل حياتهما معًا, حركتهما معًا ومع الآخرين, طقس من هذه الطقوس التي تدمرها, ولا تكف عن أن تساهم في صنعها.

حديثهما الليلي معًا طقس من الطقوس, إن جاز أن يسمي حديثًا. كان يومًا ولم يعد. على مر الأيام تحولت إلى أذن تستمع بعقل يثقله ركام الأكاذيب وأنصاف الحقائق يتكاثر يومًا بعد يوم وهو لا يكف يتكلم, ينسج المزيد من الأكاذيب وأنصاف الحقائق, وعقلها يشت يومًا بعد يوم دون أن تدري حتى أنه يشت…

تحت وطأة الركام يشت عقلها الآن وهي تتكلم, في حضور زوجها وفي غيابه. في جمع من الناس تتكلم كما يتكلم الناس, وفجأة ترتد إليها نظرة الاستغراب في عين مستمع إلى كلامها, وتدرك أن عقلها يضيع, وبدلاً من أن تهب صارخة: كفي, تلتزم الصمت معقودة اللسان.

طقس الطقوس الليلي وهي تستمع, إن كانت نائمة أيقظها, لا يكتمل اليوم دون طقس الطقوس. يعد لها طعام العشاء على صينية ويجلس على طرف سريرها يحكي عن نجاحاته اليومية التي لا نهاية لها. عند النجاحات الغرامية ترد في الحكاية أنصاف الحقائق: تصوري أن الناس تقول إني على علاقة بفلانة? وصعب عليها في يوم من الأيام أن تتصور, لأن فلانه فعلاً في موقع الابنة منه, حتى إذا ما وصلتها الحكاية قال: ألم أقل لك? وخرج بريئًا كالذئب من دم الحمل. ومن سنين صاحت فيه:

– توقف عن الكذب أرجوك, لجوءك المستمر إلى الكذب شيء مهين لك ولي, وهو إهانة مجانية لكلينا, لم أطالبك بالتفسير ولن أطالبك.

ولكنه لم يتوقف, استحال عليه أن يعيش دون مستمع ليلى لنجاحاته اليومية التي لا نهاية لها ولمراراته اليومية من جحود الناس والدنيا التي لا نهاية لها أيضًا. وعلى مر الأيام تحولت هي إلى أذن تستمع وفم معقود اللسان. يتأتي أن تنام لتذهب إلى عملها مبكرة وقادرة على أداء هذا العمل. لو اختلفت سيبقيها الليل ساهرة حتى تقتنع, أو وهذا هو الأسوأ, حتى تتظاهر بالاقتناع لتنام. على أمل اللقاء الفكري سهرت سنين تتناقش, ثم كان أن تحولت إلى أذن تستمع بفم معقود اللسان بعد أن اكتشفت أن لا أرضية بينهما للقاء. حتى اللقاء بينهما في السرير استحال, تحول بدوره إلى طقس مدمر.

الزوجي” وينام. يوم لم يكن لقاؤهما في السرير طقسًا صرخ فيها:

– أنت تحتقرينني.

وتطلعت إليه في اندهاش مستفسرة, وأضاف موضحًا:

– جسدك يرفضني, يحتقرني.

ولم تكن تعرف أن الجسد يكون أحيانًا أذكي من العقل, وأفصح تعبيرًا, ولم تكن تعرف أن خداع الذات الذي يجوز على العقل لا يجوز على الجسد, ما من شيء يخدع الجسد عن أحاسيه. وعرفت ولم تزْدد علمًا وقد عرفت. توقعت أن يكف عن العملية الجنسية ولم يكف. تعمدت أن تباعد المدة وإن لم تكف. وتحولت العملية إلى طقس مدمر. حولها إلى أداة إشباع وبدلاً من أن تهب صائحة كفى, مضت متورمة العينين من السهر العقيم في سريرها المنفرد بهذا الشعور الذي لا يريم بالغثيان والإخفاق.

– ولكن شخصيتك ليست بشخصية المحارب.

قال لها منذ أيام زميل في العمل وقد استدعت الأوضاع الفاسدة تجميع الجهود في معركة مفتوحة وطاحنة مع الإدارة, وأجابت هي ربما في تسويغ وربما في اعتذار:

– فلنجرب. أنا أشتري راحة البال بكثير من التنازلات الصغيرة.

ولكن عندما تصبح المسألة مسألة مبدإ تجدني عنيدة كما الحمار.

وأقرت وهي تتمدد وسط خضرة لا تعرف لها مسمي أن سفح الجبل هو نفس السفح. وأن لا قرار للتنازل, وتنازل صغير يسلم الإنسان إلى تنازل أكبر, والتنازل اللامبدئي يختلط على الإنسان بالتنازل المبدئي على مر الأيام, ويفيق الإنسان ذات يوم ليجد نفسه في الهوة بلا قرار. وأقرت بأنها لم تصرخ في زوجها لأنها استحالت بدورها إلى أكذوبة, تلعب نفس اللعبة وتلتزم بنفس قواعد اللعبة, وأن زوجها أفضل منها لأنه لا يتظاهر بغير ما يفعل….

وأقرت بأن الغضب لم يعد من حقها. الغضب حق القادر على أن يبتر ويصل.

***

غني المغني ليلة السفر بعد عودة المجموعة واجمة ومتوترة من المرور بالقرية وزيارة منزل الخولي. حكي حكاية قرية تخنقها تلال رملية وصخرية, وناس عاشوا في القرية يحيلون على مر السنين الصخر خضرة. وبددت آهات الناس وضحكاتهم عبر السنين حالة الوجوم والتوتر التي استبدت بالمجموعة لحظة عادت إلى البيت. وجلست هي جافة العينين تستمع إلى حكايات الزرع والحصاد, الأمل والجوع, العشق والموت. لم تعد لعبة البكاء تجدي.

لم تشارك هي في لحظات الوجوم ولا التوتر الذي تلا الوجوم, بعد المرور بالقرية وزيارة منزل الخولي. تجاوزت مرحلة الشعور بالذنب, ومرحلة التخفف من الشعور بالذنب بمحاولة إسقاط المسؤولية على قوي مجهولة أو على الآخرين. انعزلت عن المجموعة مع إدراك جديد بأن عالمها في شقة تطل على النيل قد انتهى.

شيء في ما حدث في مغرب اليوم ومسائه أنهي هذا العالم بلا رجعة. ولم تعرف على وجه التحديد, هل انتهى وهي تمر بمسالك القرية الطينية, تقاوم وتنتصر على رغبتها في الوقوع في حالة الإغماء? أم انتهى في منزل الخولي لحظة صرخت مخنوقة “أخرجوني من هنا”? ولكن الأكيد أنه انتهى. لم يعد اجترار التعاسة على ضوء الشموع ممكنًا ولا ممارسة الحلم على الورق.

ووضعها الشعور بحتمية النهاية أمام ضرورة وضع القرار موضع التنفيذ. وانعزلت عن المجموعة تسأل: هل أستطيع? هل تبقّي من الشابة التي كنتها بقية تعينني على بتر ما هو قائم ووصل ما انقطع?

لم يكن من الصعب عليها التكهن بما حدث في البيت في أعقاب مرور المجموعة بالقرية وزيارتها بيت الخولي, عاشت لحظات مماثلة من قبل عشرات المرات, وإن لم تعرف لقسوة اللحظات التي عاشتها الليلة مثيلاً. جلس أفراد المجموعة في الصالة في مواجهة بعضهم البعض أغرابًا, يتحاشي الواحد منهم النظر إلى الآخر خشية أن تفضح النظرة المستور. ولم يلبث الوجوم أن تحول, كما توقعت, إلى توتر, وكل يحاول أن يتخفف من المسؤولية يلقيها على قوي غير مرئية أو على الآخر…

الإقرار بالمسؤولية يعني انهيار القوقعة البراقة بارعة الجمال التي بناها كل لنفسه في القاهرة ليعيش, الذي يحتمي فيها كل ليعيش. والسؤال: ماذا فعلت لأغير الأوضاع? سؤال يتأتي تجاوزه بأي ثمن لأن الكثير في الميزان.

وحل التوتر, كما توقعت, محل الوجوم, واتهم كل الآخر أنه تعامل مع الحدث كالسائح جاء يتفرج على تعاسة الفلاحين, وضاقت دائرة الاتهام في النهاية وانصبت على الطبيبة التي لم تتفرج كالآخرين. وصلت ما بينها وبين الفلاحين وهي تتبادل الحديث, تعالج أطفالاً في مرحلة الخطر وأطفالاً يحتضرون, ترسل إلى بني سويف لشراء الأدوية والحقن الطبية, توصي بعلاج طويل يستمر بعد مغادرتها القرية, تتمزق وهي تدرك أن أحدًا من أهل المرضي لا يملك من المال ما من شأنه أن يضمن العلاج الطويل, تصرخ في طوب الأرض احتجاجًا على انعدام الرعاية الصحية في القرية وفي المنطقة بأجمعها.

قيل إن الطبيبة طرحت, كالسيّاح, أسئلة ما كان ينبغي أن تطرح على الفلاحين.

***

في لون واحد ثابت لا يريم بدت القرية في عتمة المغرب, في لون الطين. واستبد بها الدوار وبيوت الطين تغيب أبعادها في عتمة المغرب, وناس من طين يجلسون على عتبات البيوت, وبطون منتفخة وشفاه جافة, ودم في لون الطين يسيل من أفواه أطفال يحتضرون. وناس يختفون في مسالك القرية كدمي من الطين, وأعناق قلقة نحيلة متصلبة لحيوانات كلعب الأطفال. ولا شيء يقطع الصمت سوى سعال دموي, وامرأة تنعي وليدها بصوت خافت لا يكاد يبين.

Report this ad

وترنحت كالمخمورة بالألم, وأدركت أن هامشًا دقيقًا يفصل بينها وبين فقدان الوعي وأن خلاصها يتوقف على تجاوز هذا الهامش والبقاء واعية, وبدلاً من أن تهرب هذه المرة أيضًا, تمهلت تترنح بدوارها. وبدلاً من أن تغمض عينيها لكي لا يطعنها الألم كالسكين فتحتها على اتساعها لتري. ورأت وسمعت واستوعبت, وتوقفت تجتر في ذاكرتها ووجدانها تفصيلاً بعد تفصيل لكيلا تنسي, لكي لا تغضب.

لا لم تفر من القرية هذه المرة ولا من الناس من الطين. إليهم عادت بعد طول غيبة. من بيت الخولي هربت.

شيء ما زائف ومصنوع في بيت الخولي. من البيت الطيني أراد الرجل أن ينسلخ إلى بيت من الطوب الأحمر, ولم تساعده فيما يبدو إمكانياته. بقي معلقًا بلا بيت كمن رقص على السلم, لا هو ينتمي إلى حيث ينتمي الفلاحون ولا هو ينتمي إلى أصحاب البيوت من الطوب الأحمر. بيت الخولي ليس ببيت على الإطلاق. بيت الخولي حجرة في الدور الثاني معلقة في الهواء بسلم بلا سور. ولا شيء في الدور الأرضي على الإطلاق, لا غرف للأولاد من مختلف الأعمار ولا زريبة للحيوانات, لا فرن لخبز العيش وطهي الطعام ولا دورة ماء. مجرد حجرة معلقة في الهواء على سلم بلا سور كديكور تمثيلية لن يلبث أن يزال.

لم يكن الصعود إلى الحجرة المعلقة صعبًا, تبقت في الغروب بقية من ضوء جعلت الصعود هينًا. الخروج من الغرفة المعلقة هو الصعب وقد تبددت البقية الباقية من ضوء النهار. ووجب الخروج أيًّا كانت الظلمة وأيًّا كانت الصعوبة. لا بديل للخروج إلا الموت اختناقًا.

وتساءلت وهي تستمع إلى مغني القرية يحكي حكاية الزرع والحصاد, الأمل والجوع والعشق والموت: هل حملوا المرأة المريضة قسرًا, أم ساهمت هي راضية في الاستعراض الذي أعد كديكور لحساب ضيوف قادمين من القاهرة? ورجحت الاحتمال الأخير, فما من أحد ينقل أحدًا قسرًا على ما لا يرتضيه.

كم بدت غريبة ومنبتة تلك المرأة المريضة وهي ممددة على السرير المعدني الأسود في حجرة معلقة في الهواء ما زالت بقايا الجير تعلق ببلاطها. كم بدت غريبة ومنبتة وهي تنام ربما لأول مرة على سرير, نومة غير نومتها. وتساءلت: هل يتأتي للمرأة المريضة أن تعود الآن إلى حيث تنتمي وقد انتهت اللعبة?

***

لم تدر هي على وجه التحديد ماذا حدث للمرأة بعد أن انهار السرير المعدني الأسود. على العتبة وقف الرجال من الضيوف وأصحاب البيت, وفي الحجرة المعلقة وقفت هي وبقية الضيوف من النساء لصق الحائط ليفسحوا مجالاً للطبيبة. بعد تبادل السلامات والتحيات بدأ الكشف الطبي.

عرت الطبيبة المرأة من ملابسها وما كادت تميل تضع السماعة على قلبها حتى انهار السرير بالمرأة عارية, وخرجت هي من الغرفة مختنقة بخزيها تهمس للصديق أستاذ علم النفس:

– أخرجوني من هنا.

وفي الهواء الطلق خارج منزل الخولي وقفت ترتجف بخزيها, تتحسس جسدها, تستشعر عمق الجراح التي أصابتها لحظة انهار السرير بها عارية.

***

وتساءلت هي والمغني قد رحل, وصاحبة البيت تدس شرائط تسجيل الأغاني في حقيبة السفر استعدادًا للعودة إلى القاهرة, هل تملك المرأة القدرة على بتر ما هو قائم ووصل ما انقطع? ورعت غضبها كما ترعي الحامل الجنين, وهي تدرك أن طلب النجدة لم يعد يجدي. يتأتي على المرأة, وقد انتهت اللعبة, أن تقف على قدميها, أن تؤوب إلى نفسها إلى أهلها وناسها, إلى بيتها بعد غيبة عشر سنين .

كتبت سنة 1985






تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى