في كل مرة تمر علي دار القابلة " أم عفيفي "في مدخل العمار ، تحتك بحائطها ، وتبصق ثم تلعن " سنسفيل " أبيها لأنهما لن تلتقيا مطلقا . "وقف … اثبت مكانك …. البندقية معمرة …. أي حركة قول علي روحك يا رحمن يا رحيم " ولم يتوقف المتحرك عن الحركة ، ولم يثبت مكانه !! ، ومع هذا لم يكلفه ذلك حياته ، وبقيت الطلقات نائمة في أجزاء البندقية. " انت لساك ماشية … الله يكون في عونهم ….أنا عارف مستحملينك إزاي ؟؟ " كانت الحركة بطيئة ، والأرجل الحافية المشققة تضغط الأرض في وهن ، والجلباب الأسود المرقع بتدلي فيمسح خلفها الطريق ، وبرقع الحياء يلتف حول مؤخرة الرأس والكتفين ويمتد حتى أسفل الخصر ، ومشنة من أفرع الحناء المشقوقة تعلو حواية صنعت خصيصا لتخفيف حمل المشنة علي الرأس . " يا خالة فهيما … " ما ناداها أحد بخالة قط ، ودائما ما يقترن اسمها بالسباب ، رفعت يدها النحيلة وأدخلت سبابتها عبر صوان الأذن ومنه إلي القناة السمعية ، ونفضت يدها في حركة سريعة لتخرج ما بها من إفرازات ، هي تعلم أن طعم الإفرازات مر ، هي لن تضع يدها في فمها بعد ذلك ، إنما ستتف علي إصبعها وتحكه جيدا بصدر جلبابها الخشن . " عمتك زمزم عايزاك … بسرعة شوية " هي تكره عمتها زمزم كثيرا ، وهي تعلم أنها لن تحتاجها أبدا إلا في حالة احتجاز الكلب لأحد لصوص الخيار والجرجير . السيناريو معروف جيدا ؛ ابن الدهشوري نزل يسرق خيارا ، فشم الكلب رائحته ، فاحتجزه قريبا من الظرب الشائك ، وظل ينبح تجاهه لا يفترسه ولا يتركه يذهب لحال سبيله ، وابن الدهشوري لا يجرؤ علي الحركة ، ويظل الوضع معلقا كما هو عليه حتى تذهب إليه وتربت علي ظهره " خلاص … معلهش … سيب الحرامي … هنوديه للعمدة " فيحن ويزوم ، ثم يتراجع ، والولد مازالت دموع الخديعة في عينيه ، " معلهش يا خالة فهيمة .. .. مش هاعملها تاني " الظهيرة مدعاة لأن يترك القرد ابنه في بؤونة الحجر بالقرب من قنطرة أبي الحسن ، غير أن الأرجل النحيلة ليست عابئة بالتراب الساخن وبقايا روث البهائم ، والأحجار الملقاة في وسط الطريق . استدارت برأسها إلي الخلف واستدارت معها مشنة أفرع الحناء المشقوقة ، فلم تر صريخ ابن يومين في الطريق ، فاطمأنت أنها مازالت تسير في مسارها الصحيح . " فهيمة يا مكورة يابنت الباشاوات … جوزك يافهيمة بعت لك سلامات " لقد غاب كثيرا ، هي تعلم أنه لن يعود ، رغم كل الوعود التي تركها ، ورغم ارتباطهما العميق منذ ركبت حماره في وسية أبيها ، صغيرة كانت وكان يكبرها ويقبلها ، أرسل لها سلامات كثيرة ، وضاق الناس بوعوده ، ونسي الناس المستخدم الذي خطب بنت سيده وسافر فابتلعته بلاد الله . والأطفال مازالوا يذكرونه وسلاماته إليها وهي قاربت النسيان ، لولا عمتها زمزم – التي لا تمت لأبيها بصلة – لأكلتها الكلاب . مالت في سيرها إلي شاطئ الترعة تحتمي بشيء من ظل أشجار الصفصاف ، ولم يكن فيضان النيل قد منعه بناء السد العالي بعد . ارتفعت أصوات الحمير حين شموا ريحها عند مدخل زقاق القصالة ، وتحركت أفراخ الغيط مبتعدة ، واستعد غرابان لالتقاط الأرغفة من فوق رأسها ، أحكمت الغطاء وتشبثت بأحرف المشنة ، واستعدت لإطلاق صرخة مدوية عند اقتراب الغرابان منها . لم يثر انتباهها حركة كتلة سوداء جرت بجانبها ولم تتعثر في كومة أوراق مشمش جافة قشت لإحماء الأفران ، وعندما تعدد مرور الكتل السوداء أحست بالانقباض . كان عليها أن تجتاز العقبة قبل الأخيرة : ذكر بط أم محمود الذي دأب علي اصطيادها كلما مرت ، الجمع الغفير من الناس جعلها تمشى مطمئنة ، تضع في بطنها "بطيخة صيفي" من ناحيته وتخرج له لسانها مكيدة ، بينما هو يبطبط في الماء . استعدت بصدر رحب لاستقبال سباب عمتها زمزم . حين ستأخذ ما تحمله من فوق رأسها ، وتدفعها دفعة لا تتحملها قدماها فتسقط ويتناثر الطين حولها ، فتفتعل شيئا من البكاء ، وترتكن إلي الحائط حتى تنتهي عمتها زمزم من الغداء وتنصرف لا ترفع بقايا الطعام ، ولا تأمرها برفعه ، فتقوم تغمس رأسها بالمنديل في حوض الطلمبة " ربنا يا خدك يا فهيمة … وتستريحي " وتنفض رأسها من الماء المتناثر ، وتمد يدها تلتقط الرغيف المتبقي من عمتها زمزم لتأكل مع تساقط قطرات الماء عليه . قابلنها النساء : الكتل السوداء ،تجاهلنها تماما ومنعنها من الدخول ، وجوه لم ترها من قبل ، ولا تعرف درجة قرابتها لعمتها زمزم ،تلفتت يمينا ويسارا فلم تجد غير الكلب منكسرة عينه ورأسه منكس . أنزلت حمولتها علي الأرض أمامه فلم يهتم بها ، ورائحة الطعام لا تثيره ، وأذناه مرتخيتان إلي الأرض ، أقعت بجانبه ، زام حين اقتربت يدها منه ، بلعت ريقها ، ونظرت إلي الوجوه التي لا تعرفها ، وصوتها مخنوق بالبكاء سألت : " فين عمتي زمزم ؟"