عبد القادر رشيد الناصري - علي محمود طه في شرقياته - 1 -

لا أريد أن أتحدث في هذا المقال عن شاعر مصر الكبير المرحوم علي محمود طه كسيد شعراء الغناء العربي منذ أمرؤ القيس حتى الآن، ولا أريد أن أُبين مواطن الجمال والإبداع في دواوينه النفيسة التي أصدرها والتي تضمنت الشيء الكثير عن شعره في وصف الطبيعة والمرأة، ولكنني أود أن أُقصر كلمتي هذه على شعره السياسي الذي قاله في مناسبات عديدة، والتي أوحت به إليه أحداث الشرق العربي المتطلع إلى الحرية والثائر على ظلم الظالمين، لأبدد تلك الفكرة التي تطغى على الأذهان وهي أن المرحوم شاعر الجندول لا يجيد غير وصف الطبيعة والغزل بدليل قوله:

حياتي قصة بدأت بكأس لها غنيت وأمرأة جميلة، وأنه لم يشارك الشعب آلامه وأحزانه، ولا العربية جمعاء في ثورتها التحرريةالكبرى، وأنه لم يكن في جمال هذه المشاركة كأميره شوقي بك الذي يقول:

كان شعري الغناء في فرح الشر = ق وكان البكاء في أحزانه

وأن ما قاله في هذا المضمار لا يتعدى الأبيات التي مجد بها مصر، أما الشرق فقد تركه وراء ظهره..

هذا ما يقوله عندنا بعض المغرورين الجاهلين الذين لم يقرءوا للشاعر غير ديوان واحد أو ديوانين، ولو كانوا من المتتبعين لقراءة نفائس الشعر العربي الحديث لعلمواأن لصاحب (أرواح شاردة) ديواناً فخماً يضم طائفة صالحة مختارة من شعر الملاحم والحروب، والدم والثورة، والجهاد والاستقلال، وهو (شرق وغرب) الذي أصدره المرحومسنة 1947 إلى الوجود، وبصدوره أضاف إلى ذخيرة الشعر العربي الحديث ذخيرة أُخرى جديرة بالدراسة والحفظ والإعجاب.

يقع هذا الديوان في 182 ص ويقسم إلى قسمين: القسم الأول باسم (أصداء من الغرب) والقسم الآخر باسم (أصوات من الشرق) ونحن نترك الغرب لعشاق الغناء والمرأة والألحان، لنأخذ بالتحدث عن الشرقيات وخصوصاً في هذه الظروف التي يمر بها الشرق؛ وبعد نكبة العرب بالديار المقدسة على رغم أنف الجامعة العربية ذلك المخلوق الكسيح الهزيل.

وأول قصيدة من شرقيات شاعر زهر وخمر هي (إلى أبناء الشرق) ومطلها هذا

دعوها منى، وإتركوه خيالاً = فما عرف الحق إلا النضالا

ينبيك بنصيحة الشاعر المخلصة المرجوة إلى أبناء الشرق الإسلامي الذين كانوا يتطلعون إلى قضية فلسطين تطلع الخائف، مرتقبين مصيرها في حذر وفرق، وهل يعرف الحق إلا الكفاح؛ إذن إلى حمل السلاح على لسان الشاعر

بني الشرق ماذا وراء الوعود = تطل يميناً وترنو شمالا
وما حكمة الصمت في عالم = تصيح المطامع فية إقتتالا
زمانكمو جارح لايعف = رأيت الضعيف فيه لايوالى
ويمومكمو نهزة العاملين = ومضيعة الخاملين الكسالى

ولكن أبناء الشرق الذين فتحوا العالم، وأدبوا الغرب وكسروا شوكة الصلبيين؛ لايلبون النداء الحار، فيهتف الشاعر مذكراً

ألسنا بني الشرق من يعرب = أصولاً سمت وجباهاً تعالى
أجئنا نسائل عطف الحليف = ونرقب منه الندى والنوالا؟

ولكن الشرقيين كما عهدناهم في هذا العصر لا يغضبون لأن الحاكمين تحت إمرة الأجنبي علمهم الخنوع والكسل، ولكن الشاعر يذكرهم ويذكر الحلفاء

فلسطين مالي أرى جرحها = يسيل ويأبى الغداة إندمالا
وأفريقيا ما لإسلامها = يسام عبودية وإحتالا
على تونس وبمراكش = تروح السيوف وتغدو إختيالا

ويسترسل الشاعر في وصفه حتى يختم تلك الملحمة الرائعة بهذا الدعاء المضطرم بالإخاء والإيمان

بني الشرق كونوا لأوطانكم = قوى تتحدى الهوى والضلالا
أقيموا طدوركمو للخطوب = فما شط طالب حق وغالى

وقد كان الشاعر في سرير مرضه عندما بدأ بإثارة شعور إخوانه العرب عامة والمصريين خاصة في سبيل طردهم المستعمر الغاشم ورد حقهم السليب، فقال في الختام

فزعت لكم من وراء السقام = وقد جلل الشيب رأسي إشتعالا
وما أن بكيت الهوى والشباب = ولكن ذكرت العلى والرجالا

نعم لقد بكيت الرجال، وحق لك أن تبكي الرجال في مواطن خلت إلا من أشباه الرجال. .

وفي (يوم فلسطين) وهي القصيدة الثانية من الشرقيات؛ يصور الشاعر غضب الأمة العربية في إضرابها العام الذي صدر في اليوم الثاني من نوفمبر سنة1954 حداداًوإحتجاجاً على وعد بلفور المشئوم. ويكبر البطرلة والشجاعة في الفلسطينيين الأحرار الذين إستشهدوا في سبيل بلادهم وبمجد الشعب الفلسطيني المناضل، في جهاده الطويل وصبره على الشدائد، وإبائه وعدم خنوعه إلى الآجنبي طيلة أيام الثورة، فيهتف من صميم قلبه

فلسطين لاراعتك صيحة مغتال = سلمت لأجيال، وعشت لأبطال
ولاعزك الجيل المفدى ولا خبت = لقومك نار في ذوائب أجيال
صحت باديات الشرق تحت غيارهم = على خلجات الروح من تربك الغالي
فوارس يستهدي أعنة خيلهم = دم العرب الفادين والسؤدد العالي

ثم يتطرق إلى وصف الشرق صبيحة التقسيم بهذا الوصف الرائع

هو الشرق لم يهدأ بصيح ولم يطب = رقاداً على ليل رماك زلزال
غداة أذاعوا أنك اليوم قسمة = لكل غريب دائم التيه جوال
قضى عمره رجم المواطن - وإسمه = مواطنها - مابين حل وترحال
وماحل داراً فيك يوماً.. ولا هفت = على قلبه ذكراك من عهد إسرال

أي والله ياصاحب الملاح التائه!! إن النكبة التي مني بها العرب في فلسطين يوم سلط عليها الإنكليز والأمريكان شذاذ الآفاق، المناجيس الرعاديد، ستبقى مطبوعة في كل قلب حر ما دام للوطن العربي الكبير بقاء؟ وإن الأرض المقدسة التي حلها أوباش اليهود التائهين كي لاتتطهر إلا بظهور عظيم كبخت نصر؟ وبطل كصلاح الدين وفارس كإبن الوليد، لكي يعيد مجد فلسطين كما كانت في عهد عمر، ومعاوية، والرشيد.

ثم يختتم قصيدته مخاطباً الغرب بقوله

ويا أيها الغرب المواعد لاتزد = كفى الشرق زاداً من وعود وأقوال
شبعنا وجعنا من خيال منمق = ومنه إكتسينا، ثم عدنا بأسمال
فلا تعذب الضعفى وتغصب حقوقهم = فتلك إذا كانت.. شريعة أدغال

وهل فات الشرق أن الغرب لايعرف إلا الظلم والدم والنار، وأن ماسفه من حقوق لايتعدى حبراً على ورق ولاتطبق عنده إلا شريعة الغاب. وقانون الرجل الأول؟!.

وفي مساء يوم الخميس المصادف 20 يونيه سنة 1946 تفاجأ مصر والعالم العربي قاطبة مفاجأة سارة بظهور مفتي الديار الفلسطينية السيد أمين الحسيني قي قصر عابدين العمر لاجئاً إلى ساحة البيت العلوي الكبير الكريم بعد خروجه خفية من باريس بنحو إسبوعين، وقد أمنه الفاروق العظيم على حياته وأكرم وفادته. ألخ) (1) فما كان من الشاعر الإ أن حياه بقصيدة رائعة تعد من عيون الشعر الحديث يفتتحها بهذا المطلع الجبار

حيتك في الشرق آمال وأحلام = وقبلتك جراحات وآلام

الذي يصف به أجمل وصف شعور الشرق باستقبال المجاهد الكريم؛ وكذلك وصف الديار المصرية التي ترحب بكل طريد عربي. . يا ليتنا كنا أحد الذين يقضون البقية الباقية من حياتهم فيها وبين أهلها الأحباء الكرام. . فيقول

ديار (فاروق) من يلجأ لساحتها = فقد حمته من الأحداث آجام
يطيب للعربي المستخير بها = معاشة ويرق الماء والجام
ويحطم القلم العاني بحومتها = أصفاده، وبفك القيد ضرغام

وحسب مصر، أن أرباب الفكر، وأصحاب العقائد، وحملة مشاعل الحرية والأدباء والشعراء لا يضطهدون أو يعذبون، وحسب الفارق شرفاً أنه أصل هذا الكرم العتيد والمجد الرفيع والبناء الضخم الموطد الأركان.. ولا أريد أن أسترسل في وصف هذه الأبيات الرائعة أو أثرها في النفس والشعور؛ وقيمتها في ميزان الشعر السياسي من ناحية الديباجة والإصالة والقوة، ولكنني أكتفي بأنها خير ما قلت في هذه المناسبة. وحسب الحسيني قول الشاعر

وأنت، يا أيها الفادي عروبته = أسلم فديتك لا غبن ولا ذام
جهادك الحق مظلوما ومغترباص = وحي لكل فتى حر و ' لهام

وحسب المرحوم الذي إختطفه يد الغادر الغاشم وهو في أوج نضوجه الفتى وحسب عبقريته المتفتحة عن أكمام الخلود والمعطرة بأريج البيان المشرق واللغة السليمة والعربية الكريمة والتراث الشرقي النبيل بما فيه العروبة والإسلام، وأنه كان من المدافعين عن حريته وسلامته من المؤمنين به وبحقوقه، وبحضارته العريقة ومجده الخالد التالد. وشبابه المنافح المكافح وشيوخه الحكماء

وحسب مصر الوادي المبارك أنه أطلع للعربية والشرق عملاقاً مثل شوقي. . ونسر أضخم الهيكل في الشرق كعلي محمود طه المهندس...

والبقية من هذا الحديث ستأتي في القريب إن شاء الله والى الغد المأمول

بغداد

عبد القادر رشيد الناصري
خواطر في كتاب الله



مجلة الرسالة - العدد 959
بتاريخ: 19 - 11 - 1951

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى