صغيري الذي نما كالنبتة الشوكية ، هكذا فجأة وجدته يشيخ ، إنحني عوده بعد أن لوحته مواقف الحياة ، كان يمشي كعنكبوت يهرب من مطر ، يداه ممشوقتان بأصابع مفرودة ومتخشبة ، يحركهما بنصف دائرتين متعاكستين. شعره خلاسي يمتزج فيه الليل بالنهار ، عيناه ناعستان بأجفان متهدلة كضفدع يغلم. يحاول ان يستمد طاقة مشيه من خيال فتوة لم يتذوق طعمها يوما ما. لم يتمرحل أبدا في نموه ، خرج من شرنقة صراخ عبثي وانتقل مباشرة الى طور العنكبوت الهارب من مطر. طور صامت جدا ، كئيب وقاس ، غريب ومنبوذ . صغيري الشائخ التقى بصغير ، كان يقف يدخن ، يدخن محاولا الاحتراق والتلاشي. الصغير الآخر كان رطبا ، جلده يشع ، شعره اسود ناعم مشقوق من المفرق الأيسر ومدهون بشحم التمساح باهظ الثمن ، شفتاه سمراوان رقيقتان. عبثية صغيري جعلته زاهدا في كل شيء ، قال الصغير له: (أريد أن أدخن.. أريد أن أجرب). نظر له بعينيه الضفدعيتين دون ان ينبس بشيء ثم واصل استغراق التحديق بالأفق. أصر الصغير:(أريد أن أجرب..أرجوك). ازداد تقوس هيكله وتخشبت اصابعه ثم نفس دخانه وخطى خطوتين جانبيتين مبتعدا ومنذرا برفض التجاوب. (ما المانع أن تحقق لي أمنيتي قبل أن أموت).. تحرك بؤبؤا عينيه حين نفذت كلمة (أموت) إلى أذنه اليمنى. (لن تموت).. قالها بخفوت وبتردد..أصر الصغير (أنا مريض ولن أعيش طويلا).. اختلجت انفه وقال بصوت مرتعش (قلت لك لن تموت)...خطا الصغير خطوتين تجاهه ، .. (هل تعرف أنتي سأموت.. أنت لا تصدقني).. (لا أصدقك..ولن تموت)... (لماذا لا تصدقني؟ إنني أتوق لتجربة التدخين ولو لثانية.. الشيء الوحيد الذي لم أجربه وأنا قادر عليه)..رمش رمشتين سريعتين والتفت قائلا بغضب (إذهب يا صغير.. لا أتحملك..).. صمت الصغير ، هبت نسمة عليلة حركت شعر الصغير الناعم ، وحملت عطره اللطيف الى انفه (عطر لطيف..عطر...ل.ط . ي . ف).. (دعني فقط أشم رائحة الدخان إذن)...صمت دون إجابة ، (الدخان فقط)..رمش رمشتين منتابعتين وقال بصوت اجش سريع (أنت تشمه الآن..أصمت..)... (ألن تحزن لموتي؟).. أجاب وهو يحدق في الأفق (لا لن أحزن..ولماذا أحزن على موتك).. (لأنني سأفقد كل ما أملك)...رمى عقب سجارته وداسه بحنق (أنت لا تملك شيئا .. لا أحد يملك شيئا يا صغير).. ارتفع صوت الصغير معترضا (بل أملك كل شيء).. ثم أضاف بخجل (ماعدا سجارة .. أتمنى تجربتها ولو مرة قبل موتي..) ... (حسنا...).. أخرج علبة سجائره من جيب قميص كبدي اللون ، نفض إحداها من العلبة ومنحها للصغير ... صمت ثم أخرج من جيب بنطاله الاسود علبة كبريت. لم يفلح الصغير في اشعال عود الكبريت لعدة محاولات ثم أخيرا ساعده غياب الرياح لوهلة في اشعال نقطة في مقدمة السجارة..ثم أخذ ينفخ في السجارة (لا تنفخ يا أحمق.. اشفط.. اشفط..).. كح الصغير بعنف ودمعت عيناه ثم رمى السجارة بفزع (سأموت..) .. (لن تموت)... امسك الصغير بعنقه وانحنى وهو يسعل بشدة... (ها قد جربتها)..
(أنت لا تملك شيئا)... توقف الصغير عن السعال ونظر بعينين دامعتين محمرتين نحوه (لا أحد يملك شيئا..هل فهمت...)..قال الصبي بفزع (ما معنى ذلك)..(معناه انك مجرد نبتة شوكية..... مثلي تماما)..صمت قليلا وأضاف (أنظر ليديك).. فرد الصغير أصابعه وادار رسغيه وهو يتأملها.. (لا أرى شيئا).. (هذا صحيح..لن ترى شيئا).. (ماذا تقصد).. (أقصد أنك ستتحول الى نبتة شوكية.. مثلي تماما)..تهدج صوت الصغير (لا أريد أن أتحول لنبتة شوكية).. (هذا ليس خيارا في يدك.. انظر ليديك لتتأكد).. تأمل الصغير كفيه الصغيرتين بخوف (ها.. هل ترى شيئا؟)... (لا).. (هذا ليس خيارا في يديك... إنه حتمي...)...خنق الدمع صوت الصغير وهو يقول دون أن يترك النظر إلى كفيه (لكنني لا أريد أتحول لنبتة شوكية..لا أريد.. لا أريد...).. (لماذا أنت خائف الآن..ألم تجرب السجائر..الم تكن أمنيتك الأخيرة..)..بكى الصغير... (ماذا أفعل الآن؟).. اشعل سجارة وجر منها انفاسا متقطعة (قف جوارى)..(لماذا)...(سأتحول الى نبتة شوكية).. تساءل الصغير (كيف هذا)... (هو كذلك..فقط قف بجواري... إن من اخترع هذه السجارة الملعونة سيلعنه كل الكون...قف إلى جواري..نعم .. اقترب أكثر... الصق كتفك بكتفي) .. (لكنني أقصر منك).. (أقصد حاذي كتفك بجانبي)..وقف الصغير الى جانبه (ثم ماذا).. (أنظر الى الأفق مثلي .. أنظر بصرامة..هل ترى شيئا).. (سحابات قليلة وشمس مشرقة وسماء زرقاء).. (خذها إذن).. (كيف ذاك؟).. (خذها بين كفيك الصغيرتين).. (لا أستطيع .. لا أستطيع).. (لا تتسرع في الحكم.. حاول أولا).. مد الصغير كفه وحاول القبض على السحب..، أخذ يقبض ويفرد أصابعه دون جدوى... (حاول لا تيأس).. استمر الصغير في المحاولة ، ثم شهق فجأة حين انزاحت الستارة السماوية وتقشفت داخل قبضته حاملة السحب والشمس وطائرا كان يعبر السماء بالصدفة.. اتسعت عيناه وهو يكرمش الستارة السماوية تاركا الفراغ مظلما ، التفت اليه مادا يده وهو يقول ( أنا أمتلك كل شيء..أنظر .. أنظ....) لكنه رأى نبتة شوكية منغرسة في الأرض الصحراوية القاحلة ويلفها الظلام من كل جانب...
(أنت لا تملك شيئا)... توقف الصغير عن السعال ونظر بعينين دامعتين محمرتين نحوه (لا أحد يملك شيئا..هل فهمت...)..قال الصبي بفزع (ما معنى ذلك)..(معناه انك مجرد نبتة شوكية..... مثلي تماما)..صمت قليلا وأضاف (أنظر ليديك).. فرد الصغير أصابعه وادار رسغيه وهو يتأملها.. (لا أرى شيئا).. (هذا صحيح..لن ترى شيئا).. (ماذا تقصد).. (أقصد أنك ستتحول الى نبتة شوكية.. مثلي تماما)..تهدج صوت الصغير (لا أريد أن أتحول لنبتة شوكية).. (هذا ليس خيارا في يدك.. انظر ليديك لتتأكد).. تأمل الصغير كفيه الصغيرتين بخوف (ها.. هل ترى شيئا؟)... (لا).. (هذا ليس خيارا في يديك... إنه حتمي...)...خنق الدمع صوت الصغير وهو يقول دون أن يترك النظر إلى كفيه (لكنني لا أريد أتحول لنبتة شوكية..لا أريد.. لا أريد...).. (لماذا أنت خائف الآن..ألم تجرب السجائر..الم تكن أمنيتك الأخيرة..)..بكى الصغير... (ماذا أفعل الآن؟).. اشعل سجارة وجر منها انفاسا متقطعة (قف جوارى)..(لماذا)...(سأتحول الى نبتة شوكية).. تساءل الصغير (كيف هذا)... (هو كذلك..فقط قف بجواري... إن من اخترع هذه السجارة الملعونة سيلعنه كل الكون...قف إلى جواري..نعم .. اقترب أكثر... الصق كتفك بكتفي) .. (لكنني أقصر منك).. (أقصد حاذي كتفك بجانبي)..وقف الصغير الى جانبه (ثم ماذا).. (أنظر الى الأفق مثلي .. أنظر بصرامة..هل ترى شيئا).. (سحابات قليلة وشمس مشرقة وسماء زرقاء).. (خذها إذن).. (كيف ذاك؟).. (خذها بين كفيك الصغيرتين).. (لا أستطيع .. لا أستطيع).. (لا تتسرع في الحكم.. حاول أولا).. مد الصغير كفه وحاول القبض على السحب..، أخذ يقبض ويفرد أصابعه دون جدوى... (حاول لا تيأس).. استمر الصغير في المحاولة ، ثم شهق فجأة حين انزاحت الستارة السماوية وتقشفت داخل قبضته حاملة السحب والشمس وطائرا كان يعبر السماء بالصدفة.. اتسعت عيناه وهو يكرمش الستارة السماوية تاركا الفراغ مظلما ، التفت اليه مادا يده وهو يقول ( أنا أمتلك كل شيء..أنظر .. أنظ....) لكنه رأى نبتة شوكية منغرسة في الأرض الصحراوية القاحلة ويلفها الظلام من كل جانب...