بعد أن اختطفتني عنقاء الغربة وحملني جناحاها الأسطوريان وحلقا بي في سموات بعيدة. شرقية وغربية. لعقت شفتيها وقد امتصت رحيق عمري ومن ثم فتحت نافذة زمن الضياع ورمتني منتوف الأعضاء مثلما تسقط الحديا ريش العصفور الصغير. وجدت نفسي أقف أمام باب الدار التي نشأت وترعرعت فيها. دار جدي لأمي محمد ود عوض الكريم. أقف في مواجهة باب الخشب المصنوع من شجر الحراز ومن ورائه تقبع حقائب حياتي مكدسة بأوراق الذكرى. طفولتي وصباي وشبابي. دفعت الباب بكتفي مثلما كنت أفعل في الأيام الخوالي فانفتح مكان ما بذاكرتي مفضي الى رواق عريض تحفه من الجانبين الستائر المكسوة بغبار النسيان. تخطيت عتبة الدار أو بالأحرى جذع النخيل ووقفت ببطن ( الحوش) الفسيح استطلع المكان. النيمة الضخمة حقيقة ما زالت منتصبة في الفناء مثل قلعة رومانية قديمة شهدت أحداثا جساما. طلمبة سحب المياه اللستر الانجليزية في أقصى الزواية الجنوبية. أراها من مكاني جاثية على ركبتيها سواعدها مقيدة الى عنقها بحبل. وجهها شاحب و مغبر. وعجلاتها الحديدية أكلها الصدأ.
أكانت طيلة هذه السنوات جاثية في هذا المكان تستعطف زمن قاسي لا يرحم؟
أم أنها ما عادت ترغب في العيش ففضلت الموت بشرف وهي واقفة كالأشجار؟.
ليتها كانت كالأشجار. ليتها كانت مثل شجرة النيم ها هي منتصبة أمامي في وسط الباحة بساقها الضخم وفروعها العالية في شمم وكبرياء. وكلما قسى عليها الزمن. تغرس جذورها تحفر عميقا في باطن الأرض لا لكي تدفن نفسها كالنعامة وانما لترفع جسدها وتمد فروعها لأعلى. للسماء. للنور. للهواء.
بجوار الطلمبة يرقد المحراث جثة نافقة وقد نخر الصدأ عظامه و أسقط أسنانه.
في السابق عندما كانت الماكينة تدور. تمد ساعديها الطويلين وتغرف الماء من النيل وتصبه في الجدول ويجري الماء المخلوط بالطمي يسقي وبخصّب الأرض الى طرف القرية. وكان المحراث بيد المزارع لا كالخنجر المسموم بيد الغادر الملثم يغرسه في خاصرة الأرض. كريشة الفنان يرسم اللوحات المبهجة على وجه الأرض فتتفتح أساريرها بالخير. كان هذا المكان يغص بالفوضى الملونة. بمختلف ألوان الخير الذي تطرحه الأرض في فصل الشتاء والصيف والخريف وفي موسم فيضان النيل. في هذا المكان كانت تجمع جوالات الفول والفاصوليا و الحمص والذرة والقمح. ويفرش التمر وقناديل الذرة الشامي على بساط مصنوع من سعف النخيل. ويكوم البصل بداخل قطية كبيرة تحتل الزواية الشمالية. أراها الآن متكئة على جانبها الأيمن بطنها خاوية وأضلعها بارزة. ولو صعدت لأسقف الغرف الطينية الوطئة لوجدت التمر وقناديل الذرة أيضا. هذه الدار كانت مصنع للحياة. اليوم وبعد أن تعطّلت الماكينة وفت عضد المزارع بالضرائب و المكوس والجبايات. توقف النبض في عروق هذه الدار. أغمضت عينيها وما عادت تتنفس. اغمضت عيني أستنشق عبير الذكري. رائحة الكزبرة والحلبة والبصل تفوح من ديوان جدي ومن قطية البصل. الديوان الذي شهدت باحته الخارجية حفل ختاني وزواجي. كأني أسمع أصوات عشيرتي وهم يتحلقون حول جدي في جلسة شاي الصباح. يرتشفون أكواب الشاي بصوت مسموع وهم يستمعون لصوت المذيعة ليلى المغربي مع نفحات الصباح ويبتسمون بفرح مع كل كلمة تنطق بها كأنها تقف أمام كل واحد فيهم تخاطبه وحده يطالع وجهها و تخصه بابتسامتها الساحرة فيبتسم لها بدوره ابتسامة خاصة. يوقفون عزف الشفاة على أكواب الشاي. يرهفون السمع لصوت المذيع عمر الجزلي الفخيم في نهاية نشرة السادسة والنصف صباحا حين يبدأ نعي الأموات حتى لا يفوتهم خبر وفاة أحد أقاربهم المنتشرين في أصقاع البلاد ويفوت بذلك عليهم القيام بواجب العزاء. يثرثرون قليلا حول أسعار المحاصيل ووقود الجازولين وسكر التموين و السياسة والرياضة والفن وحين تنتهي نشرة الأخبار بعدم نعي أحد يمت لهم بصلة. يترحمون على أموات المسلمين اللذين نعاهم المذيع ثم ينصرفون الى أعمالهم. الآن بعد أن كسر ساعدي الطلمبة في أرض المعركة و وقعت في الأسر وجثت مقيدة على ركبتيها تستجدي زمن قاسي لا يرحم. و شاخ المحراث وسقطت أسنانه التي ضربها الصدأ. و تشقق وجه الأرض وكسته التجاعيد الرملية بسبب قسوة الحبيب وهجرانه لها بلا ذنب. انفض كل ذلك. الجد والعشيرة وصوت ليلى المغربي وعمر الجزلي. كأنهم قوم في قافلة تقابلوا مع قوم قافلة أخرى بالطريق أناخوا جمالهم. تصافحوا تعارفوا. أكلوا وشربوا. غنوا وطربوا ورقصوا. ومع بزوق الفجر توادعوا ملوحين بالكفوف وكل ذهب في حاله. تقدمت نحو شجرة النيم فروعها منكشة كأنها أفاقت من النوم للتو. وقفت تحتها ونظرت لأعلى. حبل القربة مهترئ معلق في مكانه و يتأرجح مع الريح. أين جثة القربة؟ لابد أن ريقها جف من العطش. ترى هل أرو ظمأءها أم شنقوها ثم قاموا بدفنها يابسة في مكان ما؟
حذائي القديم معلق بين الفروع. ومصيدة الطيور ( القلوبية) مدفونة عند الجذع. هذه النيمة صدرها ملئ بثرثرة وأحاديث كثيرة. ثرثرتي الطفولية مع جدي و أحاديث الودع الطلسمية حينما كانت تجتمع صديقات جدتي تحت ظل النيمة على قهوة الظهيرة.
ذات ضحى سألت جدي وكنا نجلس في ظل الضحى الذي كانت ترسمه النيمة كمظلة على واجهة المطبخ. وكنت آخر العنقود ذلك الطفل الذي يهبه الأبوين بحب لوالديهم ليكون العين والعصاه.
( انت يا أبوي متى زرعت هذه النيمة؟). وكنت أطلق عليهما أبي وأمي وانادي والدي ووالدتي بأسميهما بلا ألقاب.
أسند جدي ظهره العاري الى جذع النيمة الضخم. ترك الحبل الذي كان يفتله بين يديه. رفع حجابه الذي كان يطوق ساعده الى مكانه وأخرج سعف النخيل الذي كان يضعه في فمه.
( هيه يا ولدي زمن. هذه النيمة بعمر جدك فتحت عيوني وهي مغروسة في مكانها يقول أبي أنه جلبها من مكتب الارشاد الزراعي. أهداها له المفتش الزراعي الانجليزي لأنه أول مزارع بالقرية اقتنع بزراعة شتول المانجو والقريب فروت بدلا عن زراعة اللوبيا العفن). يبتسم جدي ويضيف ( اصلوا أبوي كان رجل مذواق. بحب المانجو والنساء. النساء عنده درجات مثل المانجو. قلب التور و السمكية و الهندية في القمة والتيمور والبلدية في القاع). يضحك حتى أري فرجة ضلوعه البارزة. ( أبي يقول المرأة الثرثارة مثل التيمور. صغيرة وكلامها يضرس الأسنان. و المرأة متلقية الحجج مثل المانجو البلدية تدخل بين أسنانك ولن تترك له فرصة للحديث. الله على قلب التور والسمكية رائحة وطعم. قضمة واحدة تشبعك اليوم كله).
يمسح جدي وجهه بكفه ويضيف.
( ايه دنيا مات أبي وترك جنينة عامرة وعشيرة كبيرة من الأخوان والأخوات). يقطع جدي جزء من الحبل ويصنع لي مرجيحة و أريكة بين فروع النيمة فوق هامتها التي تنحني نحو سقف الديوان . ينسج الحبل بين فرعين يشكلان الرقم 7.
كنت أصعد هامة النيمة وأتمدد على الأريكة وأحس أنني أركب بساط الريح أو علي ظهر طائر اسطوري ضخم. مثل اليس في بلاد العجائب. من مكاني العالي أنظر ناحية الشرق. للنيل والحقول فأحس بالاطمئنان. والتفت لجهة الغرب. للصحراء و الأهرامات الصغيرة المتناثرة على الرمال فأحس بالفخر. كنت أظن الا أحد يستطيع اقتلاعي من هنا.
ذات ظهيرة كنت مستلقيا على أريكتي فوق ظهر طائري الاسطوري أحلق بخيال الطفولة بين اليقظة والأحلام. تهدهدني الفروع بيديها مع حركة الريح الخفيفة. عبقت رائحة البن المحمص وانطلق صوت الايقاع يسحق حبيبات البن. صديقاتي جدتي يتهيأن لجلستهن المعطرة بنكهة البن المحمص و المبهرة بحديث الودع. أخرجت جدتي الودع من صرة في طرف ثوبها ضمته في كفها ونفث فيه بعض التعاويذ. سوت الرمل بظاهر كفها والقت بالودع. تناثرت حبات الودع تابعتهن النسوة ببصرهن المسحور حتى استقرت في مواضعها. واضعة كفها الايمن على خدها وكفها الأيسر مغروس في وسطها ومائلة بجسدها للأمام حتى لامست محفظتها الجلدية الأرض. والنساء عيونهن مبحلقة في ترقب سألت جدتي. ( ولد السرة منو؟).
هتفن النسوة بصوت واحد. ( خير ماله).
( عاد من بلاد برة).
تنفست النسوة الصعداء.
تطوعت احداهن.
( هذا محمد ود الرسالة. قالوا وصل أمس عند خاله في الخرطوم).
رددن بصوت حاني ( هيّ يا يمة جيّد للرسالة بركة الرجع. المسكينة من يوم سافر ما كسبت عافية).
( لا رجع وقامت من السرير وهذا أبوه وأخوانه وأخواته فرحين). في استعراض واضح قذفت جدتي أحدى الودعات الطرفية بطرف اصبعها وقالت ( وهذه الكرامة مذبوحه تحت رجليه).
جمعت حبات الودع والقت بها. ( حليمة جاتك قروش). ابتسمت حليمة ابتسامة عريضة و بكفها الأيمن سحبت بشرى المال. بصوت خجول قالت. ( هذا أبونا لابد أنه قبض الراتب).
القت جدتي الودع للمرة الثالثة وخطفته سريعا.
( خير يا يمة). ساد الصمت.
( الرسول كان تقولي).
( يا نسوان الرسول عزيز ما تخصمني بالرسول). تقول جدتي وقد اكتسى وجهها بالحزن. ( الويحيد منو؟).
ضربت احدى النساء على صدرها ( أحمد ود التومة. سجمي مالو).
( مات في حرب الجنوب).
تقول جدتي بصوت حزين وتلم حبات الودع وتصرها بطرف ثوبها.
تصب احدى النساء القهوة وتقول ( انتن ما قالوا في الاذاعة سيدي الميرغني وقف الحرب وجاء بالسلام؟).
( يا حليلك. سيدك الميرغني ترك الحكومة والبلد والحكومة الجديدة أعلنت الجهاد). الجهاد الكلمة جديدة عليهن. وحتى أنا سمعت بها مرة واحدة في درس السيرة. وحين رأى الاستاذ نظرتنا الحائرة قال ( الآن لا يوجد جهاد. الجهاد الحقيقي جهاد النفس وهو أعظم.). وشرح المعنى بالتفصيل. وذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
( حتى قالوا جون قرنق أقسم يشرب القهوة في....). قالت احدى النساء وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيها
تقطع جدتي الحديث بصوت حازم. ( يا نسوان قومن علي شغلكن واتركن الكلام الفارغ. كان القهوة بتوقف الحرب قسم بالله أسويها بي نفسي. قهوة بنها حبشي ودوائها هندي ما خمج).
ترى ماذا سوف تقول جدتي وصديقاتها لو عاشن الى هذا الوقت؟
ليت الحرب في بلادي يوقفها فنجان قهوة تصنعه جدتي تحت ظل شجر النيم الذي تمتلئ به شوارع الخرطوم.
جدي قال لي ذات يوم أن سرتي مدفونة عند جذع النيمة وأن الانسان لابد أن يعود للمكان الذي دفنت فيه سرته. أتراني عدت تحقيقا لتلك المقولة الاسطورة؟. وماذا عن أبنائي اللذين ولدوا بالخارج في مستشفيات راقية ولا أعلم أين سرتهم ناهيك عن مكان دفنها؟ وهل يدفنون سرة المواليد في تلك البلاد؟.
وأنا في حيرتي فاذا بطفلي الصغير يشدني من يدي ويقول وهو يشير الى حبال أريكتي المهترئة. ( أبي. أبي. أريد أن أصعد الى هناك).
أكانت طيلة هذه السنوات جاثية في هذا المكان تستعطف زمن قاسي لا يرحم؟
أم أنها ما عادت ترغب في العيش ففضلت الموت بشرف وهي واقفة كالأشجار؟.
ليتها كانت كالأشجار. ليتها كانت مثل شجرة النيم ها هي منتصبة أمامي في وسط الباحة بساقها الضخم وفروعها العالية في شمم وكبرياء. وكلما قسى عليها الزمن. تغرس جذورها تحفر عميقا في باطن الأرض لا لكي تدفن نفسها كالنعامة وانما لترفع جسدها وتمد فروعها لأعلى. للسماء. للنور. للهواء.
بجوار الطلمبة يرقد المحراث جثة نافقة وقد نخر الصدأ عظامه و أسقط أسنانه.
في السابق عندما كانت الماكينة تدور. تمد ساعديها الطويلين وتغرف الماء من النيل وتصبه في الجدول ويجري الماء المخلوط بالطمي يسقي وبخصّب الأرض الى طرف القرية. وكان المحراث بيد المزارع لا كالخنجر المسموم بيد الغادر الملثم يغرسه في خاصرة الأرض. كريشة الفنان يرسم اللوحات المبهجة على وجه الأرض فتتفتح أساريرها بالخير. كان هذا المكان يغص بالفوضى الملونة. بمختلف ألوان الخير الذي تطرحه الأرض في فصل الشتاء والصيف والخريف وفي موسم فيضان النيل. في هذا المكان كانت تجمع جوالات الفول والفاصوليا و الحمص والذرة والقمح. ويفرش التمر وقناديل الذرة الشامي على بساط مصنوع من سعف النخيل. ويكوم البصل بداخل قطية كبيرة تحتل الزواية الشمالية. أراها الآن متكئة على جانبها الأيمن بطنها خاوية وأضلعها بارزة. ولو صعدت لأسقف الغرف الطينية الوطئة لوجدت التمر وقناديل الذرة أيضا. هذه الدار كانت مصنع للحياة. اليوم وبعد أن تعطّلت الماكينة وفت عضد المزارع بالضرائب و المكوس والجبايات. توقف النبض في عروق هذه الدار. أغمضت عينيها وما عادت تتنفس. اغمضت عيني أستنشق عبير الذكري. رائحة الكزبرة والحلبة والبصل تفوح من ديوان جدي ومن قطية البصل. الديوان الذي شهدت باحته الخارجية حفل ختاني وزواجي. كأني أسمع أصوات عشيرتي وهم يتحلقون حول جدي في جلسة شاي الصباح. يرتشفون أكواب الشاي بصوت مسموع وهم يستمعون لصوت المذيعة ليلى المغربي مع نفحات الصباح ويبتسمون بفرح مع كل كلمة تنطق بها كأنها تقف أمام كل واحد فيهم تخاطبه وحده يطالع وجهها و تخصه بابتسامتها الساحرة فيبتسم لها بدوره ابتسامة خاصة. يوقفون عزف الشفاة على أكواب الشاي. يرهفون السمع لصوت المذيع عمر الجزلي الفخيم في نهاية نشرة السادسة والنصف صباحا حين يبدأ نعي الأموات حتى لا يفوتهم خبر وفاة أحد أقاربهم المنتشرين في أصقاع البلاد ويفوت بذلك عليهم القيام بواجب العزاء. يثرثرون قليلا حول أسعار المحاصيل ووقود الجازولين وسكر التموين و السياسة والرياضة والفن وحين تنتهي نشرة الأخبار بعدم نعي أحد يمت لهم بصلة. يترحمون على أموات المسلمين اللذين نعاهم المذيع ثم ينصرفون الى أعمالهم. الآن بعد أن كسر ساعدي الطلمبة في أرض المعركة و وقعت في الأسر وجثت مقيدة على ركبتيها تستجدي زمن قاسي لا يرحم. و شاخ المحراث وسقطت أسنانه التي ضربها الصدأ. و تشقق وجه الأرض وكسته التجاعيد الرملية بسبب قسوة الحبيب وهجرانه لها بلا ذنب. انفض كل ذلك. الجد والعشيرة وصوت ليلى المغربي وعمر الجزلي. كأنهم قوم في قافلة تقابلوا مع قوم قافلة أخرى بالطريق أناخوا جمالهم. تصافحوا تعارفوا. أكلوا وشربوا. غنوا وطربوا ورقصوا. ومع بزوق الفجر توادعوا ملوحين بالكفوف وكل ذهب في حاله. تقدمت نحو شجرة النيم فروعها منكشة كأنها أفاقت من النوم للتو. وقفت تحتها ونظرت لأعلى. حبل القربة مهترئ معلق في مكانه و يتأرجح مع الريح. أين جثة القربة؟ لابد أن ريقها جف من العطش. ترى هل أرو ظمأءها أم شنقوها ثم قاموا بدفنها يابسة في مكان ما؟
حذائي القديم معلق بين الفروع. ومصيدة الطيور ( القلوبية) مدفونة عند الجذع. هذه النيمة صدرها ملئ بثرثرة وأحاديث كثيرة. ثرثرتي الطفولية مع جدي و أحاديث الودع الطلسمية حينما كانت تجتمع صديقات جدتي تحت ظل النيمة على قهوة الظهيرة.
ذات ضحى سألت جدي وكنا نجلس في ظل الضحى الذي كانت ترسمه النيمة كمظلة على واجهة المطبخ. وكنت آخر العنقود ذلك الطفل الذي يهبه الأبوين بحب لوالديهم ليكون العين والعصاه.
( انت يا أبوي متى زرعت هذه النيمة؟). وكنت أطلق عليهما أبي وأمي وانادي والدي ووالدتي بأسميهما بلا ألقاب.
أسند جدي ظهره العاري الى جذع النيمة الضخم. ترك الحبل الذي كان يفتله بين يديه. رفع حجابه الذي كان يطوق ساعده الى مكانه وأخرج سعف النخيل الذي كان يضعه في فمه.
( هيه يا ولدي زمن. هذه النيمة بعمر جدك فتحت عيوني وهي مغروسة في مكانها يقول أبي أنه جلبها من مكتب الارشاد الزراعي. أهداها له المفتش الزراعي الانجليزي لأنه أول مزارع بالقرية اقتنع بزراعة شتول المانجو والقريب فروت بدلا عن زراعة اللوبيا العفن). يبتسم جدي ويضيف ( اصلوا أبوي كان رجل مذواق. بحب المانجو والنساء. النساء عنده درجات مثل المانجو. قلب التور و السمكية و الهندية في القمة والتيمور والبلدية في القاع). يضحك حتى أري فرجة ضلوعه البارزة. ( أبي يقول المرأة الثرثارة مثل التيمور. صغيرة وكلامها يضرس الأسنان. و المرأة متلقية الحجج مثل المانجو البلدية تدخل بين أسنانك ولن تترك له فرصة للحديث. الله على قلب التور والسمكية رائحة وطعم. قضمة واحدة تشبعك اليوم كله).
يمسح جدي وجهه بكفه ويضيف.
( ايه دنيا مات أبي وترك جنينة عامرة وعشيرة كبيرة من الأخوان والأخوات). يقطع جدي جزء من الحبل ويصنع لي مرجيحة و أريكة بين فروع النيمة فوق هامتها التي تنحني نحو سقف الديوان . ينسج الحبل بين فرعين يشكلان الرقم 7.
كنت أصعد هامة النيمة وأتمدد على الأريكة وأحس أنني أركب بساط الريح أو علي ظهر طائر اسطوري ضخم. مثل اليس في بلاد العجائب. من مكاني العالي أنظر ناحية الشرق. للنيل والحقول فأحس بالاطمئنان. والتفت لجهة الغرب. للصحراء و الأهرامات الصغيرة المتناثرة على الرمال فأحس بالفخر. كنت أظن الا أحد يستطيع اقتلاعي من هنا.
ذات ظهيرة كنت مستلقيا على أريكتي فوق ظهر طائري الاسطوري أحلق بخيال الطفولة بين اليقظة والأحلام. تهدهدني الفروع بيديها مع حركة الريح الخفيفة. عبقت رائحة البن المحمص وانطلق صوت الايقاع يسحق حبيبات البن. صديقاتي جدتي يتهيأن لجلستهن المعطرة بنكهة البن المحمص و المبهرة بحديث الودع. أخرجت جدتي الودع من صرة في طرف ثوبها ضمته في كفها ونفث فيه بعض التعاويذ. سوت الرمل بظاهر كفها والقت بالودع. تناثرت حبات الودع تابعتهن النسوة ببصرهن المسحور حتى استقرت في مواضعها. واضعة كفها الايمن على خدها وكفها الأيسر مغروس في وسطها ومائلة بجسدها للأمام حتى لامست محفظتها الجلدية الأرض. والنساء عيونهن مبحلقة في ترقب سألت جدتي. ( ولد السرة منو؟).
هتفن النسوة بصوت واحد. ( خير ماله).
( عاد من بلاد برة).
تنفست النسوة الصعداء.
تطوعت احداهن.
( هذا محمد ود الرسالة. قالوا وصل أمس عند خاله في الخرطوم).
رددن بصوت حاني ( هيّ يا يمة جيّد للرسالة بركة الرجع. المسكينة من يوم سافر ما كسبت عافية).
( لا رجع وقامت من السرير وهذا أبوه وأخوانه وأخواته فرحين). في استعراض واضح قذفت جدتي أحدى الودعات الطرفية بطرف اصبعها وقالت ( وهذه الكرامة مذبوحه تحت رجليه).
جمعت حبات الودع والقت بها. ( حليمة جاتك قروش). ابتسمت حليمة ابتسامة عريضة و بكفها الأيمن سحبت بشرى المال. بصوت خجول قالت. ( هذا أبونا لابد أنه قبض الراتب).
القت جدتي الودع للمرة الثالثة وخطفته سريعا.
( خير يا يمة). ساد الصمت.
( الرسول كان تقولي).
( يا نسوان الرسول عزيز ما تخصمني بالرسول). تقول جدتي وقد اكتسى وجهها بالحزن. ( الويحيد منو؟).
ضربت احدى النساء على صدرها ( أحمد ود التومة. سجمي مالو).
( مات في حرب الجنوب).
تقول جدتي بصوت حزين وتلم حبات الودع وتصرها بطرف ثوبها.
تصب احدى النساء القهوة وتقول ( انتن ما قالوا في الاذاعة سيدي الميرغني وقف الحرب وجاء بالسلام؟).
( يا حليلك. سيدك الميرغني ترك الحكومة والبلد والحكومة الجديدة أعلنت الجهاد). الجهاد الكلمة جديدة عليهن. وحتى أنا سمعت بها مرة واحدة في درس السيرة. وحين رأى الاستاذ نظرتنا الحائرة قال ( الآن لا يوجد جهاد. الجهاد الحقيقي جهاد النفس وهو أعظم.). وشرح المعنى بالتفصيل. وذكر حديث الرسول صلى الله عليه وسلم.
( حتى قالوا جون قرنق أقسم يشرب القهوة في....). قالت احدى النساء وابتسامة ساخرة ترتسم على شفتيها
تقطع جدتي الحديث بصوت حازم. ( يا نسوان قومن علي شغلكن واتركن الكلام الفارغ. كان القهوة بتوقف الحرب قسم بالله أسويها بي نفسي. قهوة بنها حبشي ودوائها هندي ما خمج).
ترى ماذا سوف تقول جدتي وصديقاتها لو عاشن الى هذا الوقت؟
ليت الحرب في بلادي يوقفها فنجان قهوة تصنعه جدتي تحت ظل شجر النيم الذي تمتلئ به شوارع الخرطوم.
جدي قال لي ذات يوم أن سرتي مدفونة عند جذع النيمة وأن الانسان لابد أن يعود للمكان الذي دفنت فيه سرته. أتراني عدت تحقيقا لتلك المقولة الاسطورة؟. وماذا عن أبنائي اللذين ولدوا بالخارج في مستشفيات راقية ولا أعلم أين سرتهم ناهيك عن مكان دفنها؟ وهل يدفنون سرة المواليد في تلك البلاد؟.
وأنا في حيرتي فاذا بطفلي الصغير يشدني من يدي ويقول وهو يشير الى حبال أريكتي المهترئة. ( أبي. أبي. أريد أن أصعد الى هناك).