رشيد سكري - الأنساق الثقافية بين الغذامي و إدوارد سعيد

ظل الأدبُ عريشا ممتدا ، يتفيّأ به الإنسان؛ للتعبير عن عواطفه وإحساساته و شعوره ، ووسيلة من وسائل تفاعله اللامشروط مع الحياة . فالتفنن في الأساليب الإبداعيّة ، جاءت كنتيجة حتمية ، ساهمت في تعميق رؤيته للقضايا التي تؤرِّقه ،و تهدده في وجوده . وبذلك ، فمن البديهي جدا أن يكون الخطابُ اللّغوي وسيلة لدراسة الأنساق المهيمنة ، والتي شكلت رافدا أساسيا من روافد التلاقح الحضاري بين الشرق و الغرب .

إن هذه الأنساق الثقافية والاجتماعية فتتت المركزيات المهيمنة في الثقافة و الأدب ، فإلى جانب الخطاب الأدبي المباشر، الذي يعتمد على الوضوح ، نجد خطابا أدبيا آخرَ موازيا يتغيا التأويل كشرط أساسي لوجوده ؛ بهدف القبض على المعنى المضمر الزاحف . فما كان للأدب العربي إلا أن يستعيد نهوضه ، و يستجمع هممه رافعا التحدي ، في مواجهة غطرسة وسيادة الآخر ، بما هو يسعى حثيثا إلى تفكيك البنى الثقافية ، التي خلقت من الشرق منارة للحضارة قديما.لاسيما أن ما خلفته ،هذه الأخيرة في التاريخ ، من شواهدَ دالة على رقي فكري وعلمي حقيقي ، ترتب عنه تقدمٌ سياسي وازدهار اقتصادي واجتماعي .

سياقيا ، كان بعض الباحثين و المفكرين مسجورين بقضايا حماسية تنذر بإشعال فتيل المواجهة ؛ بعدما أرسوا العزم على أن الآخر كان سببا مباشرا في تخلف الذات وتقهقرها . وذاك نتيجة للظروف التاريخية ، التي اختلت معها موازين القوى بين الشرق والغرب . فكانت للحروب الصليبية ، مثلا ، التي امتدت من القرن الحادي عشر إلى القرن الثالث عشر للميلاد ، يد واصلة في إرساء التبعية و الاستبداد و العبودية ، بعد ما كان الهدف منها ، تطهير قبر المسيح فحسب . إن روحي الخالدي في كتابه " تاريخ علم الأدب " قد أشار إلى ما حملته هذه الحروب الثمان من ويلات ، أتت على الأخضر واليابس ، وساهمت في غزو حواضر الشرق تباعا . كما أن لحملة نابليون بونبارت ، من جهة أخرى ، في القرن الثامن عشر وقعا مدويا على مصر، حيث إنها أنهت ما بدأه الصليبيون قبلهم بخمسة قرون من الزمن .

فمن الوجاهة أن يكون الوعي مستشر بين المفكرين و الأدباء بمدى الخطورة ، التي أقدمت عليها هذه الحروب والحملات التبشيرية ، وغيرت من مجرى التاريخ الإنساني . فضلا عن مساهمتها الفعالة ، في محو تلك الصُّورة المثالية ، التي ظهر بها الشرق العربي المتفوق ، في المخيال الغربي . فأول ردة فعل للنخب ، على هذا الوضع الموبوء ، محاولتهم تجديد قنوات الاتصِّال ، وبعث أواصر جديدة تهتم بالتراث العربي قديمه و حديثه. زيادة على تأصيل البحث العلمي و الأكاديمي في الجامعات على طول الوطن العربي . لذا كان الشعر الجاهلي ، عند عبد الله الغذامي ، منطلقا أساسيا لتحديث البنى ، وذلك عبر ضخ دماء جديدة في عروقه ، وتوسيع مقاماته التداولية . إن الشاعرَ الفحلَ ، حسب الغذامي ، يجب أن يتردد صداه في باقي الأنساق الموازية الأخرى ، التي يعتمد عليها الإنسان في حياته اليومية ، ولا يجب أن يظل حبيس الخطاب الشعري فحسب . مضيفا أنه لا ضير أن يتشكل الفحل في أنساق مختلفة ؛ فحل اقتصادي واجتماعي وسياسي ...

من هذا المنظور ، كان يسعي الغذامي ، في مشروعه الثقافي الضخم ، إلى إعادة ترتيب البيت من الداخل . فانفسح له البابُ على مصراعيه ، خصوصا عندما رسخ جذور دوحة الشاعرات في تربة فحولة الشعر العربي ، ناسفا قولة أبي النجم العُجيلي ؛ الشعر شيطان ذكر . إن هذا المسعى يضمن ، من خلاله الغذامي ، حضور الشاعرات في رقعة ، ظلت لعهود من الزمن حكرا على ثقافة الرجاجيل . وبات من الطبيعي أيضا أن ينعكس ذلك على بنية النسق ، الذي يطمح إليه الباحث من خلال ابتكاره ترْسنة من المصطلحات تخدم مشروعه الثقافي . فكان لعبارات من قبيل : " تأنيث القصيدة " و" الأنثوية الشعرية " و " البحور المؤنثة " و" القصيدة الأنثى " وغيرها ... محجٌّ حقيقيٌّ للعديد من الدارسين والباحثين . خصوصا ، من أولئك الذين ينتصرون للفكر التقدمي الحداثي . علاوة على ذلك فما فعلته نازك الملائكة بعمود الفحولة ، انطلاقا من قصيدتها " الكوليرا " ، كان بمثابة وثبة حقيقية نحو المستقبل ، حيث استعادت من خلالها ـ أي القصيدة ـ الدور الفعلي للمرأة في صلب الحياة الثقافية ، إلى درجة أنها لم تقف عند حدود الشعر فقط ، وإنما أشفعت ذلك بجرأة في اتخاذ قرارات حاسمة في الحياة العامة ، والدفاع عنها جهرا و أمام الملأ .

فتهشيم صنم عمود الشعر العربي ، حسب عبد الله الغذامي ، كان وصيدا حقيقيا نحو إعادة تشكيل فسيفساء النسق الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وفق معايير هندسية جديدة ، تراعي للجنس اللطيف مقامه ، و تصون كرامته . بالموازاة مع ذلك ، فهي تساير مبدأ القوة الناعمة في مواجهة الآخر، والحد من بسط هيمنته وحضوره المطلق .

أما إدوارد سعيد في كتابه ، الذائع الصيت " الاستشراق " ، فكك صورة الآخر ومركزيته عن طريق رفضه كمصدر إشعاع يحوي ثقافات أخرى . فالاستشراق يقول عنه إدوارد هو : " أسلوب غربي يهدف إلى السيطرة على الشرق وإعادة بنيته ، وامتلاك السيادة عليه" . فكلما كان الآخر مصدرا للمعرفة و الثقافة ، كلما استفحلت معه التبعية والاستغلال . من هذا المنطلق ، كانت الظروف التاريخية ، التي مر منها الشرق ، انطلاقا من القرن الثامن عشر إلى حدود منتصف القرن العشرين ، بؤرة حامية الوطيس سعت إلى تشكيل صورته وترسيخها في الأذهان . حيث إن الازدهار ، الذي عرفه الشرق ، جاء مع حروب الكلنيالية الغربية على المشرق . ومن هذا المنطلق ، ظلت الحملة النابليونية على مصر في القرن الثامن عشر ، وما أحدثته من تغييرات بنيوية في المجتمع المصري آنذاك ، مشجبا يعلق عليه الاستشراق كل أمانيه ، وما يطمح إليه من إعادة هيكلة الشرق ، وفق مخططات استعمارية جديدة . فأيّا كانت التأويلات المحتملة للحدث التاريخي ، فإنها تنحوا في اتجاه ترسيخ القوة ، كمفهوم بديل للحضارة الإنسانية عامة . وبذلك فهي تستمد من النتشوية طاقتها المتمثلة في : الإنسان المتفوق ، الإنسان القوي والفعال .

إن " الاستشراق " لإدوارد سعيد كتاب في النقد ، ريادي من حيث الأساليب البلاغيّة والفنية . وهو بمثابة دعوة صريحة إلى البحث الأركيولوجي في الذات وتعريتها ، ووضعها أمام الأضواء الكاشفة . وهذا مما دفع بإدوارد إلى البحث في تأصيل جنس الرواية في الثقافة العربية ، كنسق ثقافي ينتمي إلى تراث الشرق ، انطلاقا من إرهاصاتها الأولية ، والمتمثلة في فن المقامة عند كل من بديع الزمان الهمذاني في القرن الرابع الهجري ، والحريري في القرن السادس الهجري . وقد خلص إدوارد سعيد إلى هذه القناعة المترسخة في وعيه ، بعدما قرأ الإنتاج الروائي الغربي طيلة مائتي عام من الإبداع ، أسوة بما فعله ت.س. إليوت عندما انكب على قراءة التراث الشعري الانكليزي من هوميروس إلى شكسبير .

وبهذا يمكننا أن نقول إن المقامات تستعمل الشخوص أبطالا في الكدية و الشطّارية ، وهذا مهد الطريق إلى الرواية ، من حيث هي جنس أدبي تجعل من شخوصها أدواتا فنية تجسدن رؤية الكاتب للقضايا التي يراها . ولمَّا كان الاهتمام بالخطاب الروائي من قبل إدوارد ، على علة مفادها : أنه يدور في فلك الخطاب الاستعماري ، فإن اهتمامه أصبح منكبا على المفكرين الغربيين ، الذين تلتحم في خطاباتهم الأدبية صورة القوة السياسية بالأنساق الثقافية. وبعد بحث مستفيض ، والذي اقتفى فيه إدوارد آثار جل المفكرين الغربيين ، على امتداد رقعة زمنية تمتد في حدود قرنين ونصف تقريبا ، وجد أن الباحثين و المفكرين " ميشال فوكو " الفرنسي و أنطونيو غرامشي الإيطالي يحملان جينات الخطاب الكلنيالي ، مستعيرا من هذا الأخير مقولته الأساسية و الشهيرة حول المثقف العضوي . من هذا المنظور المقارناتي استطاع الباحث الفلسطيني إدوارد سعيد ، وفي ظرف وجيز ، أن يهتم به كبار المفكرين الأكاديميين العالميين ، بدافعين جوهريين أولهما : جدارة المشروع الثقافي بالاهتمام ، الذي يسوق له عالميا ، من زاوية الأدب المقارن ، وثانيهما ينحدر الباحث من دولة فلسطين ، التي تعيش النكبة منذ الإعلان عنها كوطن بديل ليهودية العالم .

إن الشرق العربي ظل في مخيال الغرب صورة للهيام و الحلم و الرمز و الأسطورة ، انطلاقا من كتاب " ألف ليلة و ليلة " الكتاب الغواية و التيه في الكتابة و العيش . و ثـُلمَة ضيقة نطل من خلالها على عوالم الشرق الساحرة . تلك الصورة استبدت بها المواقف ، وغمرت بها كل أنحاء المعمور . فإن اقتران الشرق بالحلم عند الرومانسيين ، إنما هو نزع فتيل الصراعات حول بقعة كانت مهد الديانات السماويَّة ، تزخر بأجداث الرسل و الأنبياء ، حيث أريقت فيها دماء تنضح شلالات ، ومبعث الألم الدفين المتجدد لشعوب على مر الزمان ، فكان من البديهي أن تظل أرضا للغواية و التيه و العيش في زمن الكتابة .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى