في القرية المنسية منذ زمن سحيق داخل جيب من جيوب جبة التاريخ القديم. تقبع طاحونة اللبيب في ركن قصي على حواف الذكرى الداخلية لأهل القرية كعلامة الصانع التجارية. مثل رسم باهت بقطعة قماش بالية لم تفلح مساحيق الزمن في غسله من الوجود.
ينتصب عمودها لأعلى ينفث الدخان في الهواء مثل محارب قديم يسترجع ذكرى حروبات قديمة خاضها. بالنسبة لبيوت القرية التي تناثرت فوق الرمال كحبات الودع. كانت الطاحونة مثل حبة الودع الكبيرة. تلك التي تسقط أولا من يد العرافة العجوز وتتدحرج قليلا قبل أن تستقر على جانب مائل في مكانها فوق الرمال. ودعة كبيرة بيضاء ملقاة بإهمال مائل علي الطريق المؤدي لكل الاحتمالات. النيل. الصحراء. الشمال. الجنوب. وهكذا استطاعت الطاحونة الحكيمة أن تلم بيوت القرية والقرى المجاورة إلى ساحتها كما تلم العرافة العجوز حبات الودع إلى راحة يدها. بصوتها الحكيم المؤثر استمدت سطوتها وهيبتها. حين كانت تطلقه كل يوم في الفضاء معلنة عن نفسها في الوجود. مثلما يستقبل تمثال الحرية القادمين الى مدينة نيويورك حاملا الشعلة بيده وكأنه ينير لهم الطريق. كانت طاحونة اللبيب تفعل للقادمين الى القرية ذلك وأكثر . ولكنها كانت تفعله بطريقتها الخاصة. كانت ترسل صوتها المتقطع في المدى منذ بزوغ الفجر توقظ النائمين بالضفة الأخرى. الناس والدواب والطيور. وتهدهد الأطفال القاطنين بالقرب منها فيروحوا في ثبات عميق.
وحين كانت تصمت فجأة تتوقف الساعة الداخلية لجميع الكائنات الحية التي تعيش بالقرية. يهرع المزارعون في الحقول الى بيوتهم قبل حلول الظلام. ويعود الرعاة بالقطعان من المرعى. وتهجد الطيور الى أوكارها مع مغيب الشمس.
منذ أن جلب اللبيب الآلة الضخمة من سوق الخرطوم آواخر الثلاثينيات وهي تؤدي دورها المرسوم بمولاة ونشاط. يجتمع في باحتها الخارجية المفروشة بالرمل الرجال والنساء والأطفال والفتيان والفتيات والدواب. وهي بما تملكه من حنكة وخبرة كانت توزع عليهم الطحين بسخاء. في أيام الأثنين والخميس يكون الحشد أكبر والغبار كثيف بسبب الوافدين من أماكن بعيدة الى سوق القرية. من القرى الواقفة على ضفاف النيل. وتلك المستلقية في طرف الوادي والمنحنية في التلال البعيدة. والنائمة في جوف الصحراء. في هذين اليومين يكون صوتها مكتوما جراء الجهد الكبير الذي كانت تبذله في خدمة هذا العدد الكبير من الزوار. و كانت تعمل لساعات طويلة و تدخن بشراهة وتدندن بذات اللحن القديم وبايقاع سريع. ( طق طق طق طق). في أيام الأسبوع الأخرى يكون الوضع هادئا فتتكئ على جانب الطريق تدندن بايقاع بطئ ( تك تك تك تك تك). وتنفث دخانها بالجو من حين لآخر كالذي يستغرقه حلم بعيد المنال.
في باحتها الخارجية تتراص أكوام الجوالات المعبأة بالقمح و الذرة. ذرة صفراء. حمراء. بيضاء. سمراء. و ذرة جافة وأخرى نابتة. تلك التي تصنع منها نساء القرية مشروب رمضان الشعبي ( الحلو مر). أو التي تصنع منها نساء الحانات الشعبية ( المريسة). اختراعان عظيمان تصنعهما أيادي النساء من الذرة النابتة. تستحق عليهما نساء القرية الفوز بجائزة عالمية. مشروبان شعبيان يتلذذ بهما رجال القرية. الأول في شهر رمضان والثاني في ليالي الأفراح والأنس التي تعقب مواسم الحصاد. أحدهما مفطر والآخر مسكر. لا تفرق طاحونة اللبيب بين حبوب وحبوب كلها تطحنها بضرسها المصنوع من الحجر الجرانيتي الصلد. ولا يفرّق صاحبها اللبيب بين طحين وطحين الا بالعلامات المميزة المرسومة بالحبر على سطح الجوالات. وكأنها رموز المرشحين الانتخابية. هلب. هلال. عصاه أو مرقمة بالأرقام. شريطة الا يتعدى المائة لأن اللبيب كان لا يعرف أن يكتب أكثر من العدد مائة هذا في شأن كتابة الأعداد. أما حينما يتعلق الأمر بعد النقود فان أصابع اللبيب الخشنة كانت تجرى بسرعة فائقة ونسق منتظم مع حركة شفتيه بمجرد أن تلامس الأوراق النقدية مثل آلة عد النقود في الفرع الرئيس لأحد البنوك العالمية.
حينما يكون الزحام شديدا يشتكي الرجال من غلاء أسعار الذرة. والنساء كن يتضجّرن من رداءة الطحن. ينفض اللبيب يديه من الطحين ويخاطب الرجال وهو يشير الى مركز الشرطة قائلا ( ياها دييك الحكومة العندو اعتراض يمشي عليها). يهمهم الرجال وتزم النساء الشفاه وينتحين جانبا ويكون الجو من فوقهن كله عابق برائحة النميمة. الفتيان والفتيات. العاشقون والعاشقات كانوا أكثر حظا. تنتفض ذرات الشوق من أجسامهم و تحلق مع أرواحهم وتطير بالجو حيث كانت تلتقطها العيون المغرمة. تعجنها وتخبزها وتضعها على نار الغرام الهادئة حتى موعد موسم الحصاد الوشيك. بينما كانت الدواب تمارس أمور حيوانية شتى في غفلة من أصحابها. حمار يرخي ثوب الحياء ويفرغ مثانته بدون اكتراث بالسابلة. كبشان أقرنان ينتطحان على حفنة ذرة مرمية فوق الأرض بينما حمل صغير يتسلل خلسة من بينهما يلعق حفنة الذرة المغموسة في الرمل ويهرول ليلهو بضرع أمه المخفي خلف قطعة قماش سوداء. تيس فتي يغازل معزة وهي تتمنّع بينما تفوح منها رائحة الشبق وجمل يرغي ويزبد ويزحف على ركبتيه معترضا على تحميل أكثر من ثلاث جوالات طحين فوق كاهله المنهك.
ينقضي اليوم ويعود الناس الى بيوتهم ليمارسوا طقوس الحياة. أجيال كثيرة خرجت للدنيا من رحم الطاحونة وتفرقت في طرق الحياة ودروبها الكثيرة.
ذات يوم غاب اللبيب لبضعة أيام و عاد من المدينة باختراع جديد. مخبز بلدي وبعد سنوات تطور و صار ينتج خبزه آليا. وظلت الطاحونة في مكانها ترقب فخاخ الزمن المنصوبة بأيدي البشر و غبار الطحين العالق يكسو جدرانها من الداخل وهي مثل امرأة شاخت تحاول اخفاء الشيب بخصل الدخان العالقة بالجدران من الخارج. في ذلك الاهمال المزري أصابها العطب. جراء الوقوف الطويل وهي تنتظر عشاق لينثروا الحبوب لأسراب الحمام في صدر باحتها الخارجية و لكنهم لن يأتوا أبدا. أهل القرية هجروا الطاحونة التي كانت محركهم في سباق الحياة يوم كانت مثل ساعة السباق بيد اللبيب يضغط زر التشغيل فيركض أهل القرية الى الحقول وتتسابق المواشي الى المرعى و يسرع الطلاب الى قاعات الدرس. اليوم أصبحت مثل كائن أسطوري جاثم بطرف القرية قلما يعيرونه بصرهم. تبدّلت الدورة الزراعية للمزارعين. طالما أنهم باتوا يشرون الخبز الجاهز فلا داعي لزراعة الذرة والقمح. شيئا فشيئا تقلصت المساحة الزراعية وزحفت الصحراء وبذرت رمالها بالأرض. وبسطت ثوبها واستلقت على ظهرها واضعة رجل فوق الأخرى وانتظرت هبوب الرياح لتحصد غلتها. جدب وقحط وأعاصير رملية. الأبناء هجروا القرية. الى المدن البعيدة والقريبة. يتسببون بالطرقات لتوفير ثمن رغيف الخبز.
ذات صباح مشرق اصطف أهل القرية أمام المخبز. ساعة ساعتان ولا أثر بالجو لرائحة الخبز الحار . خرج أحد العمال من باب المخبز الموارب مثل حارس المستشفى قال بلهجة حادة ( لا يوجد خبز اليوم ولا غدا ولا بعد شهر). حينما سمع قرقرت الريق الجاف الصادر من البطون الخاوية و الحلوق الجافة قال ( لا يوجد طحين). قطع عليهم حبل الأمل وتركهم معلقين بحبل الهم حينما قال ( ولا حتى عند المورد الذي كان يزودنا بالطحين من قبل).
صاح رجل عجوز أتى يستطلع الصفوف التي لم يألفها من قبل ( الطاحووونة). حدقوا فيه باستغراب. بيد مرتعشة أشار بعصاته ( طاحونة اللبيب. أذهبوا اليها. أعيدو رفع حجارتها فوق بعضها. وأربطوا صواميلها جيدا. أعيدوا تشغيلها ولن تجوعوا أبدا).
حين وصلوا للطاحونة هالهم ما رأوه. وقفوا مشدوهين أمامها. جدران متصدعة وأخرى متهدمة. كأنها أوراق كتاب قديم مزقه الزمن ورماه بالأرض وداس عليه بقدميه. احدى مزع الجدران التي حملتها الرياح بعيدا عن المبنى كان مرسوما على صفحتها الصفراء سهم بلون الفحم لا يخترق القلب انما يشير نصله المكسور الى الفراغ. والقلب المفطور مشطور الى نصفين. نصف بقى في مكانه على حافة هاوية الجدار يغالب ذكرى حب قديمة لم تكلل بالنجاح. والنصف الآخر ذاب مع حبيبات المطر واختلط بالوحل وحينما هبت الريح أخذته لوجهة ما تعرفها هي وحدها. أفاقت سحلية مذعورة كانت تقضي قيلولتها بداخل الشق. خرجت من الشق وحدّقت في الحشد ببلاهة. مدت لسانها وتوارت بداخل الشق. مثل هيكل ديناصور ضخم كانت الطاحونة مكومة فوق الأرض. وقبل أن ينصرفوا حزينين شاهدوا أسنان تروسها تضحك. وتناهى الى مسامعهم صوتها تدندن بلحنها القديم ( طق طق طق ). ولما مشوا مبتعدين سمعوها وكأنها تهدهد نفسها ( تك تك تك تك تك).
ينتصب عمودها لأعلى ينفث الدخان في الهواء مثل محارب قديم يسترجع ذكرى حروبات قديمة خاضها. بالنسبة لبيوت القرية التي تناثرت فوق الرمال كحبات الودع. كانت الطاحونة مثل حبة الودع الكبيرة. تلك التي تسقط أولا من يد العرافة العجوز وتتدحرج قليلا قبل أن تستقر على جانب مائل في مكانها فوق الرمال. ودعة كبيرة بيضاء ملقاة بإهمال مائل علي الطريق المؤدي لكل الاحتمالات. النيل. الصحراء. الشمال. الجنوب. وهكذا استطاعت الطاحونة الحكيمة أن تلم بيوت القرية والقرى المجاورة إلى ساحتها كما تلم العرافة العجوز حبات الودع إلى راحة يدها. بصوتها الحكيم المؤثر استمدت سطوتها وهيبتها. حين كانت تطلقه كل يوم في الفضاء معلنة عن نفسها في الوجود. مثلما يستقبل تمثال الحرية القادمين الى مدينة نيويورك حاملا الشعلة بيده وكأنه ينير لهم الطريق. كانت طاحونة اللبيب تفعل للقادمين الى القرية ذلك وأكثر . ولكنها كانت تفعله بطريقتها الخاصة. كانت ترسل صوتها المتقطع في المدى منذ بزوغ الفجر توقظ النائمين بالضفة الأخرى. الناس والدواب والطيور. وتهدهد الأطفال القاطنين بالقرب منها فيروحوا في ثبات عميق.
وحين كانت تصمت فجأة تتوقف الساعة الداخلية لجميع الكائنات الحية التي تعيش بالقرية. يهرع المزارعون في الحقول الى بيوتهم قبل حلول الظلام. ويعود الرعاة بالقطعان من المرعى. وتهجد الطيور الى أوكارها مع مغيب الشمس.
منذ أن جلب اللبيب الآلة الضخمة من سوق الخرطوم آواخر الثلاثينيات وهي تؤدي دورها المرسوم بمولاة ونشاط. يجتمع في باحتها الخارجية المفروشة بالرمل الرجال والنساء والأطفال والفتيان والفتيات والدواب. وهي بما تملكه من حنكة وخبرة كانت توزع عليهم الطحين بسخاء. في أيام الأثنين والخميس يكون الحشد أكبر والغبار كثيف بسبب الوافدين من أماكن بعيدة الى سوق القرية. من القرى الواقفة على ضفاف النيل. وتلك المستلقية في طرف الوادي والمنحنية في التلال البعيدة. والنائمة في جوف الصحراء. في هذين اليومين يكون صوتها مكتوما جراء الجهد الكبير الذي كانت تبذله في خدمة هذا العدد الكبير من الزوار. و كانت تعمل لساعات طويلة و تدخن بشراهة وتدندن بذات اللحن القديم وبايقاع سريع. ( طق طق طق طق). في أيام الأسبوع الأخرى يكون الوضع هادئا فتتكئ على جانب الطريق تدندن بايقاع بطئ ( تك تك تك تك تك). وتنفث دخانها بالجو من حين لآخر كالذي يستغرقه حلم بعيد المنال.
في باحتها الخارجية تتراص أكوام الجوالات المعبأة بالقمح و الذرة. ذرة صفراء. حمراء. بيضاء. سمراء. و ذرة جافة وأخرى نابتة. تلك التي تصنع منها نساء القرية مشروب رمضان الشعبي ( الحلو مر). أو التي تصنع منها نساء الحانات الشعبية ( المريسة). اختراعان عظيمان تصنعهما أيادي النساء من الذرة النابتة. تستحق عليهما نساء القرية الفوز بجائزة عالمية. مشروبان شعبيان يتلذذ بهما رجال القرية. الأول في شهر رمضان والثاني في ليالي الأفراح والأنس التي تعقب مواسم الحصاد. أحدهما مفطر والآخر مسكر. لا تفرق طاحونة اللبيب بين حبوب وحبوب كلها تطحنها بضرسها المصنوع من الحجر الجرانيتي الصلد. ولا يفرّق صاحبها اللبيب بين طحين وطحين الا بالعلامات المميزة المرسومة بالحبر على سطح الجوالات. وكأنها رموز المرشحين الانتخابية. هلب. هلال. عصاه أو مرقمة بالأرقام. شريطة الا يتعدى المائة لأن اللبيب كان لا يعرف أن يكتب أكثر من العدد مائة هذا في شأن كتابة الأعداد. أما حينما يتعلق الأمر بعد النقود فان أصابع اللبيب الخشنة كانت تجرى بسرعة فائقة ونسق منتظم مع حركة شفتيه بمجرد أن تلامس الأوراق النقدية مثل آلة عد النقود في الفرع الرئيس لأحد البنوك العالمية.
حينما يكون الزحام شديدا يشتكي الرجال من غلاء أسعار الذرة. والنساء كن يتضجّرن من رداءة الطحن. ينفض اللبيب يديه من الطحين ويخاطب الرجال وهو يشير الى مركز الشرطة قائلا ( ياها دييك الحكومة العندو اعتراض يمشي عليها). يهمهم الرجال وتزم النساء الشفاه وينتحين جانبا ويكون الجو من فوقهن كله عابق برائحة النميمة. الفتيان والفتيات. العاشقون والعاشقات كانوا أكثر حظا. تنتفض ذرات الشوق من أجسامهم و تحلق مع أرواحهم وتطير بالجو حيث كانت تلتقطها العيون المغرمة. تعجنها وتخبزها وتضعها على نار الغرام الهادئة حتى موعد موسم الحصاد الوشيك. بينما كانت الدواب تمارس أمور حيوانية شتى في غفلة من أصحابها. حمار يرخي ثوب الحياء ويفرغ مثانته بدون اكتراث بالسابلة. كبشان أقرنان ينتطحان على حفنة ذرة مرمية فوق الأرض بينما حمل صغير يتسلل خلسة من بينهما يلعق حفنة الذرة المغموسة في الرمل ويهرول ليلهو بضرع أمه المخفي خلف قطعة قماش سوداء. تيس فتي يغازل معزة وهي تتمنّع بينما تفوح منها رائحة الشبق وجمل يرغي ويزبد ويزحف على ركبتيه معترضا على تحميل أكثر من ثلاث جوالات طحين فوق كاهله المنهك.
ينقضي اليوم ويعود الناس الى بيوتهم ليمارسوا طقوس الحياة. أجيال كثيرة خرجت للدنيا من رحم الطاحونة وتفرقت في طرق الحياة ودروبها الكثيرة.
ذات يوم غاب اللبيب لبضعة أيام و عاد من المدينة باختراع جديد. مخبز بلدي وبعد سنوات تطور و صار ينتج خبزه آليا. وظلت الطاحونة في مكانها ترقب فخاخ الزمن المنصوبة بأيدي البشر و غبار الطحين العالق يكسو جدرانها من الداخل وهي مثل امرأة شاخت تحاول اخفاء الشيب بخصل الدخان العالقة بالجدران من الخارج. في ذلك الاهمال المزري أصابها العطب. جراء الوقوف الطويل وهي تنتظر عشاق لينثروا الحبوب لأسراب الحمام في صدر باحتها الخارجية و لكنهم لن يأتوا أبدا. أهل القرية هجروا الطاحونة التي كانت محركهم في سباق الحياة يوم كانت مثل ساعة السباق بيد اللبيب يضغط زر التشغيل فيركض أهل القرية الى الحقول وتتسابق المواشي الى المرعى و يسرع الطلاب الى قاعات الدرس. اليوم أصبحت مثل كائن أسطوري جاثم بطرف القرية قلما يعيرونه بصرهم. تبدّلت الدورة الزراعية للمزارعين. طالما أنهم باتوا يشرون الخبز الجاهز فلا داعي لزراعة الذرة والقمح. شيئا فشيئا تقلصت المساحة الزراعية وزحفت الصحراء وبذرت رمالها بالأرض. وبسطت ثوبها واستلقت على ظهرها واضعة رجل فوق الأخرى وانتظرت هبوب الرياح لتحصد غلتها. جدب وقحط وأعاصير رملية. الأبناء هجروا القرية. الى المدن البعيدة والقريبة. يتسببون بالطرقات لتوفير ثمن رغيف الخبز.
ذات صباح مشرق اصطف أهل القرية أمام المخبز. ساعة ساعتان ولا أثر بالجو لرائحة الخبز الحار . خرج أحد العمال من باب المخبز الموارب مثل حارس المستشفى قال بلهجة حادة ( لا يوجد خبز اليوم ولا غدا ولا بعد شهر). حينما سمع قرقرت الريق الجاف الصادر من البطون الخاوية و الحلوق الجافة قال ( لا يوجد طحين). قطع عليهم حبل الأمل وتركهم معلقين بحبل الهم حينما قال ( ولا حتى عند المورد الذي كان يزودنا بالطحين من قبل).
صاح رجل عجوز أتى يستطلع الصفوف التي لم يألفها من قبل ( الطاحووونة). حدقوا فيه باستغراب. بيد مرتعشة أشار بعصاته ( طاحونة اللبيب. أذهبوا اليها. أعيدو رفع حجارتها فوق بعضها. وأربطوا صواميلها جيدا. أعيدوا تشغيلها ولن تجوعوا أبدا).
حين وصلوا للطاحونة هالهم ما رأوه. وقفوا مشدوهين أمامها. جدران متصدعة وأخرى متهدمة. كأنها أوراق كتاب قديم مزقه الزمن ورماه بالأرض وداس عليه بقدميه. احدى مزع الجدران التي حملتها الرياح بعيدا عن المبنى كان مرسوما على صفحتها الصفراء سهم بلون الفحم لا يخترق القلب انما يشير نصله المكسور الى الفراغ. والقلب المفطور مشطور الى نصفين. نصف بقى في مكانه على حافة هاوية الجدار يغالب ذكرى حب قديمة لم تكلل بالنجاح. والنصف الآخر ذاب مع حبيبات المطر واختلط بالوحل وحينما هبت الريح أخذته لوجهة ما تعرفها هي وحدها. أفاقت سحلية مذعورة كانت تقضي قيلولتها بداخل الشق. خرجت من الشق وحدّقت في الحشد ببلاهة. مدت لسانها وتوارت بداخل الشق. مثل هيكل ديناصور ضخم كانت الطاحونة مكومة فوق الأرض. وقبل أن ينصرفوا حزينين شاهدوا أسنان تروسها تضحك. وتناهى الى مسامعهم صوتها تدندن بلحنها القديم ( طق طق طق ). ولما مشوا مبتعدين سمعوها وكأنها تهدهد نفسها ( تك تك تك تك تك).