عام 2222، كان ياسين يشتغل قائدا للمركبة الفضائية «عايدة 15». مركبة نقل المسافرين التّابعة لشركة «الخطوط الجويّة القمرية».
كانت المركبة تقوم، مرّة كل شهر، برحلة ذهاب وإياب إلى سطح القمر، ناقلة على متنها 500 مسافر. كان مقر شركة «الخطوط الجوية القمرية» متواجدا على سطح جزيرة اصطناعية، تمت إقامتها وسط البحر الأبيض المتوسط عام 1999.
ذلك اليوم كان الانطلاق مبرمجا على السّاعة الثّانية زوالا، بتوقيت غرينتش. قام القائد بإجراء بعض التّجارب الرّوتينية، ثم قام بتفحص لوحة التّحكم بعد التأكد من تعداد ركاب الرحلة. أطلق برج المراقبة في الوقت المحدّد إشارة الانطلاق. تمت كل إجراءات الإقلاع بالشكل العادي.
انطلقت المركبة من القاعدة واندفعت محلّقة كطائر حرّ في الأجواء. كانت مليكة مضيّفة المركبة تقوم بمهامها. كانت تجلس داخل مقصورة مُجهّزة بكاميرات تنقل كل شاردة وواردة. يسمح لها النظام المستخدم بتقديم التعليمات دونما الحاجة للتحرك من مكانها. كان بإمكان الرّكاب مشاهدتها عبر مختلف الشاشات الموزعة عبرهيكل الطائرة الدّاخلي. كانت كل المقاعد الخمسمائة من المركبة مجهزة بلوحة أزرار صغيرة تستخدم وفق تعليمات المضيفة. كما أن المسند كان مجهزًا بلوحة تحكم.
موسيقى هادئة كانت تملٲ مقصورة الركاب. موسيقى من تأليف ملحن مختص في الأمراض العصبية.
كان كل شيء يسير على ما يرام. غفا بعض الرّكاب وانسحب آخرون إلى الكتابة، بينما فضلت البقية طلب بعض الحلويات والمشروبات من الموزعات الأوتوماتيكية.
كان القائد ياسين بمقصورته المعزولة، يراقب آلاته. يؤدي مختلف العمليات بسهولة. كان يعرف المركبة جيدا. في الحقيقة كانت المركبة جزءا منه. يعاني لمعاناتها وينتشي لسعادتها. لحسن الحظّ كانت، ذلك اليوم، في أحسن حال.
لم تكن«عايدة 15»، بالنسبة لياسين، مجرد آلة، بل رفيقا حسّاسا، يمنحه غالبية وقته. كأنما رابط عاطفي يجمع ما بين الطرفين.
– لهذا السّبب ترفض الزّواج!. خاطبه ابن عمِّه يوما. كلما أعاد تذكر تلك الكلمات ينفجر قهقهة.
«صحيح» فكّر ياسين.
«أنا سعيد هكذا. لست بحاجة لشيء آخر».
أغمض عينيه للتلذّذ أكثر بتلك اللّحظة، قبل أن يعيد فتح جفنيه قليلا. لم يكن وقت الحلم مناسبا.
هزّه صفير سريع.
كان إشعارا بالخطر.
ردّد بعدها مباشرة صوت رتيب وكئيب عبارة:
«عودوا إلى الأرض!…عودوا إلى الأرض!…عودوا إلى الأرض!…».
أعاد ياسين بسرعة ربط الاتصال بالمحطّة الأرضية متسائلا بصوت حائر:
– هنا «عايدة 15»، ماذا حصل؟.
أجابه مسؤول الأمن:
– القمر في خطر
انقبض لسان ياسين قائلا:
– هل بإمكاني فعل شيء!
– مع 500 راكب. هذا مستحيل!.
– حقا! تعجّب ياسين.
– أتستطيعون الرجوع؟.
– لا بٲس!.
لم يكن ركاب «عايد 15» على إطلاع بما يحصل. كانوا غارقين في عطر المقاعد، متفرجين على الشاشات التلفزيونية. مدركين مسبقا، بأنه في حالة طارئ سيأتي من يبلغهم. كما أن هنالك جهاز تواصل تحت كل مقعد، مما يشعرهم بأمان أكبر.
كانوا قد تخيّلوا قبل الأوان، وصولهم إلى القمر سالمين وملاقاة الأهل والأصدقاء الموجودين هناك.
نادى القائد على المضيّفة وأبلغها، بلباقة بالنبأ السّيء. كان يدرك بأن خطيبها متواجد على نفس الرّحلة. شحب وجهها بينما امتلأت نظراتها هلعا.
كاد أن يغمى عليها.
أجلسها القائد وطمأنها:
– سيقومون بكل ما في وسعهم لإنقاذ الوضع.
أعطاها قرصا ابتلعته بسرعة فاستعادت توازنها ووعيها.
– ماذا أقول للرّكاب؟ تساءلت.
– يستحسن قول الحقيقة.
– مفهوم قائد.
قالتها وهي تهمّ بالخروج من مقصورة القيادة.
استجمعت قواها وتوجّهت إلى مقصورتها. تأملت بعض وجوه الرّكاب مفكرة في المشاكل التي ستبلغهم إياها. نظرت إلى وجه امرأة عجوز ذكّرتها بوالدتها. شجّعتها تلك الملامح أكثر للقيام بمهامها.
تشجعت لمخاطبة الركاب بنبرة طليقة:
»سيداتي.. ساداتي.. كل واحد منكم منشغل بهمومه. فأعذروني أن أقطع أفكاركم لإبلاغكم بخبر بلغنا للتو«.
أدار الركاب الخمسمائة بسرعة أبصارهم باتجاه الشاشات. توقفت الوصلات الموسيقية. ساد الصمت المكان.
واصلت المضيفة قائلة:
»أرجوكم لا تقلقوا! لا تبالغوا في قلقكم فلم تبلغنا بعد أية تفاصيل».
سألها أحد الرّكاب مستعينا بالميكروفون المتواجد بجانبه:
– ماذا يحدث آنستي؟.
أجابته مليكة:
– سنعود أدراجنا.
– لكن لماذا؟ أضاف الراكب.
ترقّب الكل الإجابة. تجلّت ملامح القلق على كل الوجوه. هزّت مشاعر المسؤولية المضيّفة. خشيت حالة الفوضى والرعب المنتظرة قبل أن تصرح:
– سأخبركم بالحقيقة جدّ المتشعبة، لكن أوصيكم بالحفاظ على هدوئكم.
صرخ طالب متلهف:
– موافقون. أخبرينا بما يجري.
– هنالك خطر يهدّد القمر.
صرّحت المضيفة أخيرا بنبرة حائرة.
ما إن أكملت التلفظ بهذه العبارة حتى ساد الهلع المقصورة. بعد لحظة صمت فاترة وسريعة، بدأت الإشاعات تظهر وتمتدّ بسرعة.
كانت حالة الفوضى المتصاعدة تشبه الوادي الهائج حيث تجرف المياه العكرة كل ما يقف في طريقها.
تخيّلت مليكة لو أن ركاب الرحلة الخمسمائة نجوا. أعادت بث الموسيقى وفرضت الصمت:
– باعتقادي أنه من غير الضروري إثارتكم بهذه المشاكل. لن يفيد هذا بشيء. من جهة أخرى، أعيد وأؤكد بأننا غير مطلعين تماما على الوضع. الهلع شعور عنيف يمنع التفكير السليم. يمكن أن يقودنا إلى كارثة. لا تنسوا إذًا حافظوا على هدوئكم. شكرا!.
أدرك الجميع نسبيا صحَّة هذا الكلام. تلاشت تدريجيا الإشاعات. عاد الهدوء مشوبا بحالة كآبة مختلطة بخوف. استرخت مليكة على المقعد وأخذت تفكر في خطيبها. تساءلت عن حقيقة هذا الخطر، وكذا عن إمكانية إنقاذ الأشخاص المتواجدين على سطح القمر.
قام ياسين بالعملية الدقيقة المتمثلة في قذف عقدة الضغط. ثم قام بتعديل الأجنحة وتغيير الوقود. في النهاية، قام بإحداث فراغ في حزام الثقالة، فاندفعت «عايدة 15» باتجاه الأرض.
على السّاعة التاسعة مساء، حطّت المركبة على الجزيرة الاصطناعية بسلام. ما إن وطئت أرجلهم الأرض، وجّه الركاب الخمسمائة مناظيرهم الاليكترونية باتجاه السماء، فأرعبهم مشهد القمر مُحترقا.
القمر يحترق. من مجموعة الكوكب البنفسجي. منشورات نعمان، كندا، 1981.
* نقلا عن موقع نفحة
كانت المركبة تقوم، مرّة كل شهر، برحلة ذهاب وإياب إلى سطح القمر، ناقلة على متنها 500 مسافر. كان مقر شركة «الخطوط الجوية القمرية» متواجدا على سطح جزيرة اصطناعية، تمت إقامتها وسط البحر الأبيض المتوسط عام 1999.
ذلك اليوم كان الانطلاق مبرمجا على السّاعة الثّانية زوالا، بتوقيت غرينتش. قام القائد بإجراء بعض التّجارب الرّوتينية، ثم قام بتفحص لوحة التّحكم بعد التأكد من تعداد ركاب الرحلة. أطلق برج المراقبة في الوقت المحدّد إشارة الانطلاق. تمت كل إجراءات الإقلاع بالشكل العادي.
انطلقت المركبة من القاعدة واندفعت محلّقة كطائر حرّ في الأجواء. كانت مليكة مضيّفة المركبة تقوم بمهامها. كانت تجلس داخل مقصورة مُجهّزة بكاميرات تنقل كل شاردة وواردة. يسمح لها النظام المستخدم بتقديم التعليمات دونما الحاجة للتحرك من مكانها. كان بإمكان الرّكاب مشاهدتها عبر مختلف الشاشات الموزعة عبرهيكل الطائرة الدّاخلي. كانت كل المقاعد الخمسمائة من المركبة مجهزة بلوحة أزرار صغيرة تستخدم وفق تعليمات المضيفة. كما أن المسند كان مجهزًا بلوحة تحكم.
موسيقى هادئة كانت تملٲ مقصورة الركاب. موسيقى من تأليف ملحن مختص في الأمراض العصبية.
كان كل شيء يسير على ما يرام. غفا بعض الرّكاب وانسحب آخرون إلى الكتابة، بينما فضلت البقية طلب بعض الحلويات والمشروبات من الموزعات الأوتوماتيكية.
كان القائد ياسين بمقصورته المعزولة، يراقب آلاته. يؤدي مختلف العمليات بسهولة. كان يعرف المركبة جيدا. في الحقيقة كانت المركبة جزءا منه. يعاني لمعاناتها وينتشي لسعادتها. لحسن الحظّ كانت، ذلك اليوم، في أحسن حال.
لم تكن«عايدة 15»، بالنسبة لياسين، مجرد آلة، بل رفيقا حسّاسا، يمنحه غالبية وقته. كأنما رابط عاطفي يجمع ما بين الطرفين.
– لهذا السّبب ترفض الزّواج!. خاطبه ابن عمِّه يوما. كلما أعاد تذكر تلك الكلمات ينفجر قهقهة.
«صحيح» فكّر ياسين.
«أنا سعيد هكذا. لست بحاجة لشيء آخر».
أغمض عينيه للتلذّذ أكثر بتلك اللّحظة، قبل أن يعيد فتح جفنيه قليلا. لم يكن وقت الحلم مناسبا.
هزّه صفير سريع.
كان إشعارا بالخطر.
ردّد بعدها مباشرة صوت رتيب وكئيب عبارة:
«عودوا إلى الأرض!…عودوا إلى الأرض!…عودوا إلى الأرض!…».
أعاد ياسين بسرعة ربط الاتصال بالمحطّة الأرضية متسائلا بصوت حائر:
– هنا «عايدة 15»، ماذا حصل؟.
أجابه مسؤول الأمن:
– القمر في خطر
انقبض لسان ياسين قائلا:
– هل بإمكاني فعل شيء!
– مع 500 راكب. هذا مستحيل!.
– حقا! تعجّب ياسين.
– أتستطيعون الرجوع؟.
– لا بٲس!.
لم يكن ركاب «عايد 15» على إطلاع بما يحصل. كانوا غارقين في عطر المقاعد، متفرجين على الشاشات التلفزيونية. مدركين مسبقا، بأنه في حالة طارئ سيأتي من يبلغهم. كما أن هنالك جهاز تواصل تحت كل مقعد، مما يشعرهم بأمان أكبر.
كانوا قد تخيّلوا قبل الأوان، وصولهم إلى القمر سالمين وملاقاة الأهل والأصدقاء الموجودين هناك.
نادى القائد على المضيّفة وأبلغها، بلباقة بالنبأ السّيء. كان يدرك بأن خطيبها متواجد على نفس الرّحلة. شحب وجهها بينما امتلأت نظراتها هلعا.
كاد أن يغمى عليها.
أجلسها القائد وطمأنها:
– سيقومون بكل ما في وسعهم لإنقاذ الوضع.
أعطاها قرصا ابتلعته بسرعة فاستعادت توازنها ووعيها.
– ماذا أقول للرّكاب؟ تساءلت.
– يستحسن قول الحقيقة.
– مفهوم قائد.
قالتها وهي تهمّ بالخروج من مقصورة القيادة.
استجمعت قواها وتوجّهت إلى مقصورتها. تأملت بعض وجوه الرّكاب مفكرة في المشاكل التي ستبلغهم إياها. نظرت إلى وجه امرأة عجوز ذكّرتها بوالدتها. شجّعتها تلك الملامح أكثر للقيام بمهامها.
تشجعت لمخاطبة الركاب بنبرة طليقة:
»سيداتي.. ساداتي.. كل واحد منكم منشغل بهمومه. فأعذروني أن أقطع أفكاركم لإبلاغكم بخبر بلغنا للتو«.
أدار الركاب الخمسمائة بسرعة أبصارهم باتجاه الشاشات. توقفت الوصلات الموسيقية. ساد الصمت المكان.
واصلت المضيفة قائلة:
»أرجوكم لا تقلقوا! لا تبالغوا في قلقكم فلم تبلغنا بعد أية تفاصيل».
سألها أحد الرّكاب مستعينا بالميكروفون المتواجد بجانبه:
– ماذا يحدث آنستي؟.
أجابته مليكة:
– سنعود أدراجنا.
– لكن لماذا؟ أضاف الراكب.
ترقّب الكل الإجابة. تجلّت ملامح القلق على كل الوجوه. هزّت مشاعر المسؤولية المضيّفة. خشيت حالة الفوضى والرعب المنتظرة قبل أن تصرح:
– سأخبركم بالحقيقة جدّ المتشعبة، لكن أوصيكم بالحفاظ على هدوئكم.
صرخ طالب متلهف:
– موافقون. أخبرينا بما يجري.
– هنالك خطر يهدّد القمر.
صرّحت المضيفة أخيرا بنبرة حائرة.
ما إن أكملت التلفظ بهذه العبارة حتى ساد الهلع المقصورة. بعد لحظة صمت فاترة وسريعة، بدأت الإشاعات تظهر وتمتدّ بسرعة.
كانت حالة الفوضى المتصاعدة تشبه الوادي الهائج حيث تجرف المياه العكرة كل ما يقف في طريقها.
تخيّلت مليكة لو أن ركاب الرحلة الخمسمائة نجوا. أعادت بث الموسيقى وفرضت الصمت:
– باعتقادي أنه من غير الضروري إثارتكم بهذه المشاكل. لن يفيد هذا بشيء. من جهة أخرى، أعيد وأؤكد بأننا غير مطلعين تماما على الوضع. الهلع شعور عنيف يمنع التفكير السليم. يمكن أن يقودنا إلى كارثة. لا تنسوا إذًا حافظوا على هدوئكم. شكرا!.
أدرك الجميع نسبيا صحَّة هذا الكلام. تلاشت تدريجيا الإشاعات. عاد الهدوء مشوبا بحالة كآبة مختلطة بخوف. استرخت مليكة على المقعد وأخذت تفكر في خطيبها. تساءلت عن حقيقة هذا الخطر، وكذا عن إمكانية إنقاذ الأشخاص المتواجدين على سطح القمر.
قام ياسين بالعملية الدقيقة المتمثلة في قذف عقدة الضغط. ثم قام بتعديل الأجنحة وتغيير الوقود. في النهاية، قام بإحداث فراغ في حزام الثقالة، فاندفعت «عايدة 15» باتجاه الأرض.
على السّاعة التاسعة مساء، حطّت المركبة على الجزيرة الاصطناعية بسلام. ما إن وطئت أرجلهم الأرض، وجّه الركاب الخمسمائة مناظيرهم الاليكترونية باتجاه السماء، فأرعبهم مشهد القمر مُحترقا.
القمر يحترق. من مجموعة الكوكب البنفسجي. منشورات نعمان، كندا، 1981.
* نقلا عن موقع نفحة