ما بين المغرب والعشاء الوقت كان . والمساء ضيف لا مفر من أن يستقبله ، والمدى شارع معتم يطول ، ومصابيح " صوديوم " وهاجة .. لا تضئ ، وبنايات كابيات جاثمات طالعات تجرح قلب الفراغ ، وعربات جامحات تمرق ، وحافلات للنقل العام توغل في الشراسة . والمدى أناس - لا تبدو ملامحهم يسيرون . الشباك ذراعان منطفئان ينفتحان .. يستقطران وجها غائبا لا يجئ ...
يجلس في غرفته المفروشة : صندوق ، أربعة جدران وأرضية وسقف ، يضفي شحوب لون دهانها الزيتي وكتابات الذين سكنوها من قبل - والتي يفشل دائما في قراءتها - على قلبه فتور بارد ، وباب " برزة " صدئة وقفل - يئز كلما فتح - ومسامير برؤوس مثنية لأعلى تحمل قميصا باهتا ياقته يفترشها وسخ من تراب وعرق ، وبنطلون واسع قليلا .. ليس له حزام ...
السقف يشي بماء قديم يتسرب ويجف ، ومصباح خافت - من سلك يحيطه نسيج عنكبوت يأسر ذبابا ميتا - يتدلى ، الكتب والمجلات والصحف في كل مكان ، جزء منها ملقى على مائدة صغيرة عليها كوب به شرخ خفيف وبقايا لزجة لشاي ، وقلم يوشك أن ينفد منه الحبر ، وأوراق متناثرات منها رسالة لم يكد يبدأها حتى داخله وهن مراوغ وتلاش عجيب لشهوة الكتابة ...
يسمع حفيف أقدام في الخارج وأصواتا تختلط وضحكات تتفجر وراء تخوم بعيدة ، فتغز صدره أمنية ، أن يطرق الباب أحد - هو الذي لا يحب لنفسه الملولة أن تقتحم وتقاطع ، وهو الذي يفر إلى صقيع عزلة الخلوة ، ولنار الانفراد يسعى ، آه لو سأله أحدهم كيف حالك ؟ ويمضي .. فقط كيف حالك ؟ ...
لون عينيها - حين كان لا يرى سواها في ضجيج مجموعات من زملاء العمل - أطياف فردوس تطغى على كل ماعداها ، فتسكنه ظلالا من دعة وهدوء مطوف . بسمتها أهي انفراج شفتين عن بياض أسنان أم رحابة كون من تناغم عمق بدور حالمات يحيطها موج من حمرة ورود مخمل آسر . تقول : " أحلم ببيت نلوذ به ، يضمنا معا " . يحكى لها عن البيت القديم ، أتراه في مكانه لا يزال أم انهم هدموه ؟ طلاؤه الجيرى المسالم وشرفاته الخشبية الوادعة ، والصحاب إلى جواره يقفون ، يمصون الشهد من عيدان القصب - خد الجميل - تحت شمس باسمة تحنو بدفء متماوج ونسمات ناعمات تتمايل معها ضحكات مترقرقات عذاب ، ويخلفون وراءهم كومة زاهية من القشور وصدى مموسقا لكلمات متلألئات في صميم حميم حنان حنايا الروح تحيا ...
يباغته صوت رفرفة فينظر فيجد عصفورا بألوان صادحة يمرق إلى داخل الغرفة " هارب أنت .. من أي جحيم قفص تلوذ بي ؟ " ينظر بفرحة تتحسس خطواتها لتنطلق ، لا يتحرك من مكانه ، ينظر إليه العصفور " أهو جريح ؟ أحفنة من طلقات بندقية لجناح يتكسر ؟ أم عش يتهاوى ، تتقاذفه الريح ، أحبيب لا يرحم أم .. " ، يقف ، يقترب منه ، يمد يده ، يريد أن يلمسه ، ريشه ، أن يعرف ما به ، أمحتاج لعون ؟ لدفء مداواة ، يزداد قربا حانيا ، لكن العصفور يفرد جناحبن سليمين ، يغرز في روحه نظرة تعاتبه ، ويطير . يجرى نحو الشباك ، ينظر ، يستمطر المدى قطرة ضوء ، فلا يجده سوى : شارع ومصابيح وبنايات وعربات وحافلات وأناس - لا تبدو ملامحهم - يسيرون .
يجلس في غرفته المفروشة : صندوق ، أربعة جدران وأرضية وسقف ، يضفي شحوب لون دهانها الزيتي وكتابات الذين سكنوها من قبل - والتي يفشل دائما في قراءتها - على قلبه فتور بارد ، وباب " برزة " صدئة وقفل - يئز كلما فتح - ومسامير برؤوس مثنية لأعلى تحمل قميصا باهتا ياقته يفترشها وسخ من تراب وعرق ، وبنطلون واسع قليلا .. ليس له حزام ...
السقف يشي بماء قديم يتسرب ويجف ، ومصباح خافت - من سلك يحيطه نسيج عنكبوت يأسر ذبابا ميتا - يتدلى ، الكتب والمجلات والصحف في كل مكان ، جزء منها ملقى على مائدة صغيرة عليها كوب به شرخ خفيف وبقايا لزجة لشاي ، وقلم يوشك أن ينفد منه الحبر ، وأوراق متناثرات منها رسالة لم يكد يبدأها حتى داخله وهن مراوغ وتلاش عجيب لشهوة الكتابة ...
يسمع حفيف أقدام في الخارج وأصواتا تختلط وضحكات تتفجر وراء تخوم بعيدة ، فتغز صدره أمنية ، أن يطرق الباب أحد - هو الذي لا يحب لنفسه الملولة أن تقتحم وتقاطع ، وهو الذي يفر إلى صقيع عزلة الخلوة ، ولنار الانفراد يسعى ، آه لو سأله أحدهم كيف حالك ؟ ويمضي .. فقط كيف حالك ؟ ...
لون عينيها - حين كان لا يرى سواها في ضجيج مجموعات من زملاء العمل - أطياف فردوس تطغى على كل ماعداها ، فتسكنه ظلالا من دعة وهدوء مطوف . بسمتها أهي انفراج شفتين عن بياض أسنان أم رحابة كون من تناغم عمق بدور حالمات يحيطها موج من حمرة ورود مخمل آسر . تقول : " أحلم ببيت نلوذ به ، يضمنا معا " . يحكى لها عن البيت القديم ، أتراه في مكانه لا يزال أم انهم هدموه ؟ طلاؤه الجيرى المسالم وشرفاته الخشبية الوادعة ، والصحاب إلى جواره يقفون ، يمصون الشهد من عيدان القصب - خد الجميل - تحت شمس باسمة تحنو بدفء متماوج ونسمات ناعمات تتمايل معها ضحكات مترقرقات عذاب ، ويخلفون وراءهم كومة زاهية من القشور وصدى مموسقا لكلمات متلألئات في صميم حميم حنان حنايا الروح تحيا ...
يباغته صوت رفرفة فينظر فيجد عصفورا بألوان صادحة يمرق إلى داخل الغرفة " هارب أنت .. من أي جحيم قفص تلوذ بي ؟ " ينظر بفرحة تتحسس خطواتها لتنطلق ، لا يتحرك من مكانه ، ينظر إليه العصفور " أهو جريح ؟ أحفنة من طلقات بندقية لجناح يتكسر ؟ أم عش يتهاوى ، تتقاذفه الريح ، أحبيب لا يرحم أم .. " ، يقف ، يقترب منه ، يمد يده ، يريد أن يلمسه ، ريشه ، أن يعرف ما به ، أمحتاج لعون ؟ لدفء مداواة ، يزداد قربا حانيا ، لكن العصفور يفرد جناحبن سليمين ، يغرز في روحه نظرة تعاتبه ، ويطير . يجرى نحو الشباك ، ينظر ، يستمطر المدى قطرة ضوء ، فلا يجده سوى : شارع ومصابيح وبنايات وعربات وحافلات وأناس - لا تبدو ملامحهم - يسيرون .