كشيوعي منشق عن الجماعة ؛ جلس الرفيق عابدون في أريكته الوثيرة بباحة مزرعته في سوبا.. الباحة تطل على أفق أخضر ممتد حتى النهاية. وقد استدعاني كمحام لرفع عدة قضايا اغلبها تتعلق بتركات وأراضي وخلافه...
جلست اليه بكل احترام.. فأنا أعرف أنه أذكى مني كثيرا ، وأنني لن أستطيع ممارسة التجهيل المعتاد كما أفعل مع باقي الموكلين...فهو يحفظ القانون عن ظهر قلب ورغم اشمئزازي من تدخله المستمر في عملي لكنني كنت اداهنه وأتملقه ، إنني رغم كل شيء اتبعت نصيحة غالية قرأتها في كتاب لمحام أمريكي مخضرم ولا أخلاقي فوق هذا. لقد قال:
(عندما ترتدي روب المحاماة وتستعد لدخول قاعة المحكمة..اترك وراءك الكبرياء)...
اتبعت نصيحته بل وزدت عليها نصيحة الرأسماليين:
(الموكل دائما على حق).. ونصيحة النفعيين (دعه يعمل دعه يمر).. ونصيحة هوبز (القانون هو الملك) ونصيحة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (أنا الدولة والدولة أنا)... هكذا استطعت تجريف مراحل طويلة يحتم على أي محام أن يمر بها لينال الحظوة والصيت. أنا مع الحكومة ضد الشعب عندما توكلني الحكومة ، ومع الشعب ضد الحكومة عندما يوكلني الشعب ضدها ، ومع من يدلف الى مكتبي أولا ويدفع بسخاء ضد من يدلف الى مكتبي بعده..مع ذلك فأنا لا أخلو من كل قيمة أخلاقية فأنا رغم كل شيء أحافظ على شرف المهنة ، أحافظ على سرية قضايا الموكلين ، لا أبيع موكلي حتى لو دفع لي خصمه جبالا من الذهب. وهكذا نلت الثقة المطلقة... أنا بالنسبة للرفيق السابق عابدون هو صدره الذي لا ينفتح إلا يوم موته وداخل المشرحة...
سألته ونحن نجلس على ما يسميه تراس وقد جاءتنا خادمة أجنبية بما لذ وطاب من شراب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة:
- لماذا تركت الرفاق يا سيد عابدون.
كان ككل الأغنياء يتكلم بصوت خفيض وبطيء يخرج من أنفه ولا ينظر الى محدثه أبدا بل عيناه هناك على الأفق ناعستان مهدلتا الأجفان:
- أصدقك القول أن هذا الأمر جاء بالصدفة المحضة .. لم اترك الرفاق لشجار او نزاع في هيكلية الحزب أو قواعده التنظيمية ، لقد تركته لأنني مررت بقصتين عجيبتين ومتناقضتين كل التناقض.
سحب نفسا طويلا من أرجيلته الذهبية الصغيرة المنمقة بحواشي وزخارف مختلفة، وببطء مد يده المزينة بخاتمين ذهبيين ضخمين وقبض على مكمشة الجمر وبدأ في وزن تناسب حرارة الجمر مع كمية المعسل. ورغم أنني لا اتعاطى الشيشة ، لكنني لاحظت أنه ليس خبيرا في التعامل معها وربما كان ذلك شعورا نابعا من بطء حركته وليس حقيقيا. فموكلي لا يخطئ أبدا... لم اشأ مقاطعة استمتاعه بصمت مؤقت أثناء وزن الشيشة ، لكنني كنت أعرف أنه سيستطرد في حديثه وقص حكايتيه الغريبتين.
-لابد أنك قد جعت.. فيرا ...
ويبدو أن فيرا خادمة مخصصة لخدمته وحده ..فدون أن يكرر نداءه كانت فيرا تقف أمامه صامتة..
- الافطار للأستاذ...
سألته:
- ألن تفطر معي...
هز رأسه نفيا ولم يعقب... جاءت فيرا بالطعام ثم اعقبته بصينية من البسبوسة والبقلاوة المحبشة بالمكسرات الفارسية الخضراء والحمراء وكرات السكر الملونة والعسل والكنافة المحشية بالكريمة. وواكبتها بترامس الشاي والقهوة والبخور ... فأكلت قليلا وتذكرت أن اليوم هو الجمعة ، وهو يوم زيارتي للبيت الكبير ، لكنني بالتأكيد استطيع تأجيل زيارتهم كما أن زوجتي غالبا ما لن تقبل بالذهاب إليهم وإن ذهبت فستعود ساخطة وتنفس عن صراعها الأزلي مع والدتي وشقيقاتي بالنكد الممل. كثيرا ما فكرت أن اذهب بها الى أسرتها وأذهب انا للبيت الكبير ، لكن شقيقاتي المتحفزات للتحريض سيحدجنني بنظراتهن المحتقرة ويقلن بأن زوجتي لا تعرف الأصول. ثم يمضي اليوم كله في التحريض والنميمة ضد زوجتي ، وأظل استمع لهن وأنا أفكر في ما أعددنه من طعام الغداء وعدم نسيان شراء مخزون من علب السجائر لباقي الأسبوع. فاستماعك اليومي لخطابات السياسيين في التلفاز والزوجة والشقيقات لا يترك لك مجالا لاتخاذ قرار نهائي بترك التدخين. عليك أن تكون باردا بعد أن تتزوج ثم صنماً بعد أوَّل انجاب لك ثم حرباءة متلونة بعد خمس سنوات ثم كلب مطيع بعد عشر سنوات ، ويمكنك أيضاً أن تستعين بنصيحة المحامي الأمريكي وتترك كبرياءك خلفك عندما تخطو بقدمك اليمنى الى باب المنزل. انتهى عهد سي السيد منذ أن اختلق نجيب محفوظ هذه الشخصية ، لكن من قال ذلك؟ إنني لاحظت الخضوع حتى عند جدي وأبي .. يبدو أن سي السيد شخصية كتبها نجيب محفوظ ليحظى برضى النزعات التحررية النسوية في ذلك الزمان. تحرر مِن مَن؟ لا أدري من يحتاج للحرية حقاً.
- طبيخ الطعام كقيادة السيارة يا عبد الرزاق.
قالها ببطء وكان علي أن أقطع استرسال أفكاري حول المنزل لأهتم بحكمة موكلي فهي الأهم.
قلت:
-كيف ذلك يا سيد عابدون..
-اعطني كوب ماء لو سمحت فمفاصلي مصابة بآلام القاوت...
ناولته كوب الماء فرشف منه قليلاً ... ثم وضعه على طاولة جانبية.
- التوازن يا صديقي... الطبيخ والقيادة يحتاجان لتوازن...
-صحيح...
كدت أن أقول:
- وعلاقتك بزوجتك وأسرتك وكتابة العقود وحديثك أمام الناس وأمام القاضي واعلانك عن رغباتك ... كل شيء في حياتنا يحتاج للتوازن... كدت أن أقول له ذلك لكنني شعرت أن توسعة مجال فكرته سيقلل من قيمة الحكمة التي يرغب في الإفضاء بها لي. على أية حال فهو لم يعقب وظل صامتاً..
-فيرا...
كالشيطان رأيت فيرا تظهر أمامه.
- اجلبي لي سكري الخاص وكوبي الخاص أيضا .. والشاي الأخضر..
وكالشيطان مرة أخرى اختفت وكالشيطان مرة ثالثة وجدتها تقف أمامه وتصب كوب الشاي الأخضر الذي لم يكن أخضرا بل كان بنياَ.
- هل تعرف يا عبد الرزاق كم الفوائد الهائلة للشاي الأخضر ..
نظرت الى كوب الشاي بحيرة فقال:
- لو عرفتها لما شربت شيئاً سواه طيلة حياتك المتبقية.
انكمش قلبي حينما قال كلمة (المتبقية)... لماذا أضافها؟ لماذا لم يكتف ب (طيلة حياتك)... هذا فأل سيئ. قال:
- في بداية السبعينات كنا شبابا ثوريا ... كنت أعتقد أنني من الطبقة البرجوازية .. وأنني عدو لأعداء البروليتاريا .. كنا نؤمن بماركس كإله للضمير الإنساني وماو كمثقفٍ عضوي فاعل ولينين كوالد للعدالة الاجتماعية ، وبمدرسة فرانكفورت كحاملة لراية التأصيل اليساري ، وبأن الرأسمالية هي الشيطان الأكبر وأن العالم كله خاضع لنظرية المادية التاريخية وصراع الطبقات وكنا مدلهين بنظرية فائض القيمة التي حطمت نظريات آدم اسميث في كتابه ثروة الأمم...كنا ثوريين جدا .. كل خطابٍ ثوري يحطم أعصابنا ونتمنى أن نفجر أنفسنا في أي عدو يشار الينا به. توجهت والشباب الى أغلب دول أفريقيا من غينيا غرباً وحتى أثيوبيا شرقا ومن مصر شمالا وحتى جنوب أفريقيا. قاتلنا من أجل رسالتنا ودربنا كل الشباب الثوري حول العالم...التقينا بالعظماء من القادة الذين حملوا لواء تغيير العالم.. الشيوعية كنهاية للتاريخ والماركسية كبداية لكتابة نهاية التاريخ...من منا لم يكن يحفظ كل كلمة من البيان الشيوعي الأول .. من منا لم يقرأ مقال بؤس الفلسفة مئات المرات وصراع الطبقات ونقد الاقتصاد السياسي ورأس المال وشروحات روزا لوكسمبورج وبيخانوف وبافل .... من منا لم يقرأ رسائل قرامشي وانجلز وكل كتابٍ أحمر الغلاف وعليه صورة المنجل والمطرقة.
فلتسقط الامبريالية...
رأيت عينيه الناعستين تبرقان بغضب .. لم يكن غضبا بل كان شعورا بالفخر والعظمة... لا زال يحن لماضيه إذن..
- هل تعرف يا عبد الرزاق..
- ها ..
- هل تعرف أننا كنا نتوقع انطلاق شرارة الشيوعية من الخليج...
- غريب...
- نعم .. ليس من مصر ولا المغرب ولا السودان بل ولا من كوبا حتى .. بل من هناك من الشرق...حيث النفط والمال..
- اعتقاد غريب فعلا..
- فيرا ...
وجدتُ فيرا أمامي...قال ضاحكا بنشوة:
- كنت أتمنى لو كنتَ تشرب الشيشة معي.. احب إفساد الآخرين ..
قهقهت قليلاً.
- جهزي الشيشة وأخبري السائق بأن يتجهز لنقل كراتين المانجو إلى الشركة ..
عاد بظهره إلى الوراء وغطس به في مسند أريكته الطري.
اختفت فيرا ، وجلسنا صامتين.
- سأفتح هاتفي المحمول الآن...فيرا ...
ظهرت فيرا فسألها:
-جهزتِ الشيشة؟
أجابت:
- نعم سيدي.
-أخبرتِ خالد بالتجهز لنقل المانجو؟
- نعم سيدي..
- شكراً فيرا .. أرجو أن تأتني بهاتفي المحمول من غرفة النوم.
الساعة العاشرة والنصف صباحا ؛ الجو متوازن بين برودة مودِّعة وسخونة تُحيِّينا بالقدوم. الزراعة خضراء وعلى اليمين تناثرت أشجار المانجو المحملة بالثمار الخضراء والصفراء .. والعصافير لا زالت منتشية ونشطة تزقزق وتشقشق وتتبادل الأماكن فيما بينها برشاقة فوق الأغصان .
- لقد دعانا الرفاق إلى زيارتهم في إحدى الدول العربية ، فكنا نشعر بأننا حملة مشعل التنوير...وهناك دعونا إلى الغداء في مطعم شعبي ، فارتحلنا إليه حيث يجتمع فيه كافة الرِّسَاليين مع الفقراء من العمال والتلاميذ والفنانين والأدباء...وبالفعل لبينا الدعوة وأحلامنا بتحطيم الطبقية تكبر وتكبر وتكبر ...وحين دلفنا إلى المطعم الذي كانوا يعتبرونه شعبياً ألفيناه أفضل من مطعم القصر الجمهوري... كانت أصناف لحوم الطيور توزع علينا وحتى الخمور كانت تأتي معتقةً من الاتحاد السوفيتي مباشرة ، المتسولون والإسكافيون والتلاميذ كانوا يتناولون طعامهم فيه. سأرسل لك صورة ذلك المطعم على الواتس عندما أفتح الهاتف.
تمثلت فيرا بشرا سويا أمامنا وهي تحمل الهاتف المحمول. فحمله وقربه من عينيه وفتحه.
قال:
- هل تذكر شعار نوكيا ..
قلت: نعم ..
قال وكأنه لم يسمع إجابتي:
- ذلك الهاتف القديم؟
قلت:
- بلى أتذكره .. كفان ممدوتان ليتسالما بأطراف الأصابع..
تأمل استضاءة شاشة هاتفه ولحن البداية يشنف آذاننا.
- هل تعرف ما فلسفة ذلك الشعار؟
- لا ..
- فيرا ... الشيشة.. غيري المعسل إلى نكهة الكنتالوب.
قلت بثقة:
- جرب البروكلي...
نظر لي باندهاش وقال:
- نكهة القرنبيط؟ هل صنعوا معسل بنكهة القرنبيط..؟
وجدت نفسي في مصيدة محرجة... لم اكن أعرف ما هو الكانتالوب ولا حتى أن البروكلي هو القرنبيط...فقلت بحرج:
- سمعت شيئاً عن هذا..تعرف الصينيين وما يمكن لهم فعله..
تجاهلني قائلاً:
- شعار نوكيا مستمدٌ من الثقافة اليهودية والمسيحية.. حينما كان تصوير الله محرماً ..اكتفى الرسامون برسم يد الله كرمز لإعانته للانسان... يهوه وهو يكلم آدم و موسي وغيره من الأنبياء...
هززت رأسي متفهما.
- نوكيا استبدلت يد الله بيد الإنسان... يد ثورية تنتشل الانسان من وهدة الخضوع للغيبيات...
- أها...
حككت ذقني مدعيا الاهتمام.
- نوكيا أعلنت وقوفها ضد تحالف الرأسمالية مع اللاهوت ... أعلنتِ التقدمية...صورة الطفل زاكاري والمرأة مارثا كانت تعلن عهد نهاية الطبقية المخدرة بالدين..لذلك كانت نوكيا أكثر الأجهزة تطوراً وأقلها سعراً واوسعها انتشاراً لدى كل الطبقات..وهذه خصائل لا تقبلها الرأسمالية التي اعتبرت ذلك اعلانا للحرب...
أخذ يزن أنبوب الأرجيلة عبر شفطات بطيئة حيث لم تعنه رئتاه الضعيفتان كثيرا...ومن بين حلقات الدخان رأيت شفتيه يتحركان ببطئهما المعتاد..وهو ينظر لعينيَّ بعينين براقتين بغضب:
- لذلك حاولوا تدمير نوكيا...تحالف شهود يهوه والليبراليون الجدد .. انهم لم يقبلوا بإحياء تلك الفلسفة...
- أها ...
- أدرك ما تقوله في نفسك ، إن هذه ليست أكثر من نظرية المؤامرة... لكن هذا غير صحيح...فالمؤامرة حقيقة وليست نظرية يا صديقي...الكل يتآمر هلى الكل .. والضحايا الحمقى هم من يقولون وهم يعتقدون أنهم أذكياء:لا نؤمن بنظرية المؤامرة.
- هناك مؤامرةٌ إذن...؟
قال وعيناه تتسعان وتزدادان بريقاً:
-كنت داخل هذه المؤامرة.. لا أتحدث من خلال هوس اضطراب عقلي...
كانت الساعة تدخل الى الثانية عشر ؛ ظهرت فيرا وأخبرته بلسان عربي ركيك بمغادرة السائق بعد تحميل جميع كراتين المانجو... فأومأ برأسه ، وحين غادَرَتْ:
- لقد خضعت نوكيا الآن .. بعد رحلة طويلة وعصيبة من الصراعات والمعارك ... خضعت كالاتحاد السوفيتي تماما .. وامتثلت للبروسترويكا يا صديقي حتى لا تتفكك..
أغمض عينيه وراح في غفوة خاطفة ، سمعت أثناءها شخيراً قصيراً ثم فتح عينيه.
- لا زلتَ هنا.. لا زلتَ معي...؟
قلت بثقة:
- بالتأكيد.. حتى تقرر أنت متى أرحل فأنا لا اسأم من الاستماع لقصصك المشوقة...
قال:
-أين كنا...
- نوكيا يا سيدي نوكيا...
قال:
- وقبل ذلك...؟
حاولت تذكر الأمر ثم قلت بسرعة:
- المطعم الشعبي .. الغداء في المطعم الشعبي..
- هااا .. نعم صحيح... لم يكن مطعما شعبيا بأي حال يا استاذ رزاق...هذا المطعم كان لفقراء هم بالنسبة لفقرائنا من الطبقة البرجوازية...يأكلون الحمام المحشي والعصافير ولحم الإبل والضأن والماعز ويحتسون الشاي والقهوة المحوجة ... ويعتبرون أنفسهم بروليتاريا...
-نعم..
- كنت أعتقد أن الطيور لم تكن مذبوحة بل هي طيورٌ نفقت لكنهم أكدوا لي أنها طيور طازجة ومذبوحة وصحية تتفق ومعايير وزارة الصحة.. أما القصة الثانية فهي تقريبا مثل هذه أيضاً ... لقد كنتُ في بداية عهدي بالوظيفة العامة ، كنا نعقد اجتماعات الحزب بعد نهاية دوام العمل لنخطط للاستيلاء على جميع النقابات لنعلن بعدها إضرابا شاملا..كان المد الثوري ينحسر ، مات عبد الناصر وانقلب نميري لمحور أمريكا وصافح السادات يد مناحيم بيغن وشعر العرب بالهزيمة الماحقة لأول مرة . لقد تم إيفادي إلى القاهرة وهناك التقيت بأول المستفيدين من سياسة الانفتاح كان رجل أعمال مصري قدم من الولايات المتحدة الأمريكية .. بالتأكيد تعرف معنى أن يأت رجل أعمال من أمريكا في ذلك الوقت الدقيق وغالبا ما كانت أعين المخابرات المصرية تتبعه في كل مكان لكنه استطاع شراء أغلب تلك العيون...صاح الرفاق: (سقطت مصر..) وصاح الناصريون:(الآن مات ناصر)..
وصحنا هنا : (اليوم مات عبد الخالق).. كانت هزيمتنا مؤلمة..لقد أوفِدتُّ لمقابلة رجل الأعمال ذاك ومعي وفد من رأسماليينا ... وبعد لقائنا به أحسست بحسدهم له ...
وضع أنبوب الأرجيلة وتلقى اتصالا من هاتفه ... ثم قال:
- لعلك تتساءل عن اللينك بين القصتين... سأخبرك يا صديقي...
في غرفتي بالفندق المطل على النيل أخذت أسأل نفسي سؤالاً بدا لي شديد التعقيد... لقد كان السؤال ينحصر في ما هو الفقر .. من هم البروليتاريا ومن هم البرجوازيون... من يملك وسائل الانتاج حقا في هذا العالم؟ وما الحدود الفاصلة بين البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة والعليا وغيرهم من طبقات .. وهل بالفعل ستؤدي نهاية الطبقية الى عدالة أم الى نهاية حركة ونشاط الانسان ... نعم نحتاج للعدالة الانسانية ولكن هل نحتاج لتدمير المنظومة الطبيعية الأزلية بأكملها لتتساوى حصتنا من الركام؟...
المهم كانت اسئلة اقضت مضجعي .. الرأسماليون لم يكونوا وقحين كما تخيلتهم .. لم تكن لديهم أنياب ولا مخالب ... ولكنهم أيضا لم يكونوا ضعفاء ولا أغبياء... قال لي ذلك الرأسمالي يوما:
- نعم هناك صراع ولكنه ليس طبقياً .. بل صراعٌ توتاليتاري.. أو كما أسماه آرتور آدموف صراع الكل ضد الكل .. وحيويتنا تقتات من هذا الصراع فنموت إن مات ... ومن يعمل على قتله فهو يعمل على قتل نفسه قبله.
لا أخفك سراً بأنني عدت وأعدت قراءاتي من جديد ولكن بعين أخرى .. عين أقل مثالية وأكثر خبثا وبراغماتية .. تذكرت حينها أن هناك دائما رجلٌ يقف خلف رجلٍ آخرَ أقل ذكاءً منه ليصنع له مجداً .. كالتعايشي خلف المهدي وهيكل خلف عبد الناصر ...وبولس خلف المسيح ...الخ.. وأنهم جميعا اختاروا خوض الصراع بأفكار غايتها استقطاب السذج من المثاليين المصدقين لكهف أفلاطون...ألم يك ذلك أقرب الى دور الدين الذي رفضه ماركس..
أتذكر أنني سرت في تلك الليلة منيرة المصابيح من رمسيس حتى السبتية ماشياً على قدمي.. لم تفارقني رائحة نهر النيل ونشوة الانقلاب تحت عجلات رؤية جديدة للعالم .. لم أتمزق بل أدركت أن الصراع أكبر من أن نحصره في محور واحد ... لقد أصبحت مثلك يا عبد الرزاق .. مثلك تماما ... شخص نفعي انتهازي متملق...
حدجني بنظرة ثاقبة وحدجته بنظرة فزعة ... واستمرت نظراتنا مسمرةً على أفق ضبابي ما بين الكره العميق والحب القاتل ... حتى يوم وفاته.
(القصة مهداة إلى الرفيق اليساري العروبي حمد سالم).
*مرفق:
المطعم البيالة الذي أوحى لي بالقصة..
-مطعم شعبي بمزارع الاحساء بالمملكة العربية السعودية.
جلست اليه بكل احترام.. فأنا أعرف أنه أذكى مني كثيرا ، وأنني لن أستطيع ممارسة التجهيل المعتاد كما أفعل مع باقي الموكلين...فهو يحفظ القانون عن ظهر قلب ورغم اشمئزازي من تدخله المستمر في عملي لكنني كنت اداهنه وأتملقه ، إنني رغم كل شيء اتبعت نصيحة غالية قرأتها في كتاب لمحام أمريكي مخضرم ولا أخلاقي فوق هذا. لقد قال:
(عندما ترتدي روب المحاماة وتستعد لدخول قاعة المحكمة..اترك وراءك الكبرياء)...
اتبعت نصيحته بل وزدت عليها نصيحة الرأسماليين:
(الموكل دائما على حق).. ونصيحة النفعيين (دعه يعمل دعه يمر).. ونصيحة هوبز (القانون هو الملك) ونصيحة الملك الفرنسي لويس الرابع عشر (أنا الدولة والدولة أنا)... هكذا استطعت تجريف مراحل طويلة يحتم على أي محام أن يمر بها لينال الحظوة والصيت. أنا مع الحكومة ضد الشعب عندما توكلني الحكومة ، ومع الشعب ضد الحكومة عندما يوكلني الشعب ضدها ، ومع من يدلف الى مكتبي أولا ويدفع بسخاء ضد من يدلف الى مكتبي بعده..مع ذلك فأنا لا أخلو من كل قيمة أخلاقية فأنا رغم كل شيء أحافظ على شرف المهنة ، أحافظ على سرية قضايا الموكلين ، لا أبيع موكلي حتى لو دفع لي خصمه جبالا من الذهب. وهكذا نلت الثقة المطلقة... أنا بالنسبة للرفيق السابق عابدون هو صدره الذي لا ينفتح إلا يوم موته وداخل المشرحة...
سألته ونحن نجلس على ما يسميه تراس وقد جاءتنا خادمة أجنبية بما لذ وطاب من شراب وفاكهة كثيرة لا مقطوعة ولا ممنوعة:
- لماذا تركت الرفاق يا سيد عابدون.
كان ككل الأغنياء يتكلم بصوت خفيض وبطيء يخرج من أنفه ولا ينظر الى محدثه أبدا بل عيناه هناك على الأفق ناعستان مهدلتا الأجفان:
- أصدقك القول أن هذا الأمر جاء بالصدفة المحضة .. لم اترك الرفاق لشجار او نزاع في هيكلية الحزب أو قواعده التنظيمية ، لقد تركته لأنني مررت بقصتين عجيبتين ومتناقضتين كل التناقض.
سحب نفسا طويلا من أرجيلته الذهبية الصغيرة المنمقة بحواشي وزخارف مختلفة، وببطء مد يده المزينة بخاتمين ذهبيين ضخمين وقبض على مكمشة الجمر وبدأ في وزن تناسب حرارة الجمر مع كمية المعسل. ورغم أنني لا اتعاطى الشيشة ، لكنني لاحظت أنه ليس خبيرا في التعامل معها وربما كان ذلك شعورا نابعا من بطء حركته وليس حقيقيا. فموكلي لا يخطئ أبدا... لم اشأ مقاطعة استمتاعه بصمت مؤقت أثناء وزن الشيشة ، لكنني كنت أعرف أنه سيستطرد في حديثه وقص حكايتيه الغريبتين.
-لابد أنك قد جعت.. فيرا ...
ويبدو أن فيرا خادمة مخصصة لخدمته وحده ..فدون أن يكرر نداءه كانت فيرا تقف أمامه صامتة..
- الافطار للأستاذ...
سألته:
- ألن تفطر معي...
هز رأسه نفيا ولم يعقب... جاءت فيرا بالطعام ثم اعقبته بصينية من البسبوسة والبقلاوة المحبشة بالمكسرات الفارسية الخضراء والحمراء وكرات السكر الملونة والعسل والكنافة المحشية بالكريمة. وواكبتها بترامس الشاي والقهوة والبخور ... فأكلت قليلا وتذكرت أن اليوم هو الجمعة ، وهو يوم زيارتي للبيت الكبير ، لكنني بالتأكيد استطيع تأجيل زيارتهم كما أن زوجتي غالبا ما لن تقبل بالذهاب إليهم وإن ذهبت فستعود ساخطة وتنفس عن صراعها الأزلي مع والدتي وشقيقاتي بالنكد الممل. كثيرا ما فكرت أن اذهب بها الى أسرتها وأذهب انا للبيت الكبير ، لكن شقيقاتي المتحفزات للتحريض سيحدجنني بنظراتهن المحتقرة ويقلن بأن زوجتي لا تعرف الأصول. ثم يمضي اليوم كله في التحريض والنميمة ضد زوجتي ، وأظل استمع لهن وأنا أفكر في ما أعددنه من طعام الغداء وعدم نسيان شراء مخزون من علب السجائر لباقي الأسبوع. فاستماعك اليومي لخطابات السياسيين في التلفاز والزوجة والشقيقات لا يترك لك مجالا لاتخاذ قرار نهائي بترك التدخين. عليك أن تكون باردا بعد أن تتزوج ثم صنماً بعد أوَّل انجاب لك ثم حرباءة متلونة بعد خمس سنوات ثم كلب مطيع بعد عشر سنوات ، ويمكنك أيضاً أن تستعين بنصيحة المحامي الأمريكي وتترك كبرياءك خلفك عندما تخطو بقدمك اليمنى الى باب المنزل. انتهى عهد سي السيد منذ أن اختلق نجيب محفوظ هذه الشخصية ، لكن من قال ذلك؟ إنني لاحظت الخضوع حتى عند جدي وأبي .. يبدو أن سي السيد شخصية كتبها نجيب محفوظ ليحظى برضى النزعات التحررية النسوية في ذلك الزمان. تحرر مِن مَن؟ لا أدري من يحتاج للحرية حقاً.
- طبيخ الطعام كقيادة السيارة يا عبد الرزاق.
قالها ببطء وكان علي أن أقطع استرسال أفكاري حول المنزل لأهتم بحكمة موكلي فهي الأهم.
قلت:
-كيف ذلك يا سيد عابدون..
-اعطني كوب ماء لو سمحت فمفاصلي مصابة بآلام القاوت...
ناولته كوب الماء فرشف منه قليلاً ... ثم وضعه على طاولة جانبية.
- التوازن يا صديقي... الطبيخ والقيادة يحتاجان لتوازن...
-صحيح...
كدت أن أقول:
- وعلاقتك بزوجتك وأسرتك وكتابة العقود وحديثك أمام الناس وأمام القاضي واعلانك عن رغباتك ... كل شيء في حياتنا يحتاج للتوازن... كدت أن أقول له ذلك لكنني شعرت أن توسعة مجال فكرته سيقلل من قيمة الحكمة التي يرغب في الإفضاء بها لي. على أية حال فهو لم يعقب وظل صامتاً..
-فيرا...
كالشيطان رأيت فيرا تظهر أمامه.
- اجلبي لي سكري الخاص وكوبي الخاص أيضا .. والشاي الأخضر..
وكالشيطان مرة أخرى اختفت وكالشيطان مرة ثالثة وجدتها تقف أمامه وتصب كوب الشاي الأخضر الذي لم يكن أخضرا بل كان بنياَ.
- هل تعرف يا عبد الرزاق كم الفوائد الهائلة للشاي الأخضر ..
نظرت الى كوب الشاي بحيرة فقال:
- لو عرفتها لما شربت شيئاً سواه طيلة حياتك المتبقية.
انكمش قلبي حينما قال كلمة (المتبقية)... لماذا أضافها؟ لماذا لم يكتف ب (طيلة حياتك)... هذا فأل سيئ. قال:
- في بداية السبعينات كنا شبابا ثوريا ... كنت أعتقد أنني من الطبقة البرجوازية .. وأنني عدو لأعداء البروليتاريا .. كنا نؤمن بماركس كإله للضمير الإنساني وماو كمثقفٍ عضوي فاعل ولينين كوالد للعدالة الاجتماعية ، وبمدرسة فرانكفورت كحاملة لراية التأصيل اليساري ، وبأن الرأسمالية هي الشيطان الأكبر وأن العالم كله خاضع لنظرية المادية التاريخية وصراع الطبقات وكنا مدلهين بنظرية فائض القيمة التي حطمت نظريات آدم اسميث في كتابه ثروة الأمم...كنا ثوريين جدا .. كل خطابٍ ثوري يحطم أعصابنا ونتمنى أن نفجر أنفسنا في أي عدو يشار الينا به. توجهت والشباب الى أغلب دول أفريقيا من غينيا غرباً وحتى أثيوبيا شرقا ومن مصر شمالا وحتى جنوب أفريقيا. قاتلنا من أجل رسالتنا ودربنا كل الشباب الثوري حول العالم...التقينا بالعظماء من القادة الذين حملوا لواء تغيير العالم.. الشيوعية كنهاية للتاريخ والماركسية كبداية لكتابة نهاية التاريخ...من منا لم يكن يحفظ كل كلمة من البيان الشيوعي الأول .. من منا لم يقرأ مقال بؤس الفلسفة مئات المرات وصراع الطبقات ونقد الاقتصاد السياسي ورأس المال وشروحات روزا لوكسمبورج وبيخانوف وبافل .... من منا لم يقرأ رسائل قرامشي وانجلز وكل كتابٍ أحمر الغلاف وعليه صورة المنجل والمطرقة.
فلتسقط الامبريالية...
رأيت عينيه الناعستين تبرقان بغضب .. لم يكن غضبا بل كان شعورا بالفخر والعظمة... لا زال يحن لماضيه إذن..
- هل تعرف يا عبد الرزاق..
- ها ..
- هل تعرف أننا كنا نتوقع انطلاق شرارة الشيوعية من الخليج...
- غريب...
- نعم .. ليس من مصر ولا المغرب ولا السودان بل ولا من كوبا حتى .. بل من هناك من الشرق...حيث النفط والمال..
- اعتقاد غريب فعلا..
- فيرا ...
وجدتُ فيرا أمامي...قال ضاحكا بنشوة:
- كنت أتمنى لو كنتَ تشرب الشيشة معي.. احب إفساد الآخرين ..
قهقهت قليلاً.
- جهزي الشيشة وأخبري السائق بأن يتجهز لنقل كراتين المانجو إلى الشركة ..
عاد بظهره إلى الوراء وغطس به في مسند أريكته الطري.
اختفت فيرا ، وجلسنا صامتين.
- سأفتح هاتفي المحمول الآن...فيرا ...
ظهرت فيرا فسألها:
-جهزتِ الشيشة؟
أجابت:
- نعم سيدي.
-أخبرتِ خالد بالتجهز لنقل المانجو؟
- نعم سيدي..
- شكراً فيرا .. أرجو أن تأتني بهاتفي المحمول من غرفة النوم.
الساعة العاشرة والنصف صباحا ؛ الجو متوازن بين برودة مودِّعة وسخونة تُحيِّينا بالقدوم. الزراعة خضراء وعلى اليمين تناثرت أشجار المانجو المحملة بالثمار الخضراء والصفراء .. والعصافير لا زالت منتشية ونشطة تزقزق وتشقشق وتتبادل الأماكن فيما بينها برشاقة فوق الأغصان .
- لقد دعانا الرفاق إلى زيارتهم في إحدى الدول العربية ، فكنا نشعر بأننا حملة مشعل التنوير...وهناك دعونا إلى الغداء في مطعم شعبي ، فارتحلنا إليه حيث يجتمع فيه كافة الرِّسَاليين مع الفقراء من العمال والتلاميذ والفنانين والأدباء...وبالفعل لبينا الدعوة وأحلامنا بتحطيم الطبقية تكبر وتكبر وتكبر ...وحين دلفنا إلى المطعم الذي كانوا يعتبرونه شعبياً ألفيناه أفضل من مطعم القصر الجمهوري... كانت أصناف لحوم الطيور توزع علينا وحتى الخمور كانت تأتي معتقةً من الاتحاد السوفيتي مباشرة ، المتسولون والإسكافيون والتلاميذ كانوا يتناولون طعامهم فيه. سأرسل لك صورة ذلك المطعم على الواتس عندما أفتح الهاتف.
تمثلت فيرا بشرا سويا أمامنا وهي تحمل الهاتف المحمول. فحمله وقربه من عينيه وفتحه.
قال:
- هل تذكر شعار نوكيا ..
قلت: نعم ..
قال وكأنه لم يسمع إجابتي:
- ذلك الهاتف القديم؟
قلت:
- بلى أتذكره .. كفان ممدوتان ليتسالما بأطراف الأصابع..
تأمل استضاءة شاشة هاتفه ولحن البداية يشنف آذاننا.
- هل تعرف ما فلسفة ذلك الشعار؟
- لا ..
- فيرا ... الشيشة.. غيري المعسل إلى نكهة الكنتالوب.
قلت بثقة:
- جرب البروكلي...
نظر لي باندهاش وقال:
- نكهة القرنبيط؟ هل صنعوا معسل بنكهة القرنبيط..؟
وجدت نفسي في مصيدة محرجة... لم اكن أعرف ما هو الكانتالوب ولا حتى أن البروكلي هو القرنبيط...فقلت بحرج:
- سمعت شيئاً عن هذا..تعرف الصينيين وما يمكن لهم فعله..
تجاهلني قائلاً:
- شعار نوكيا مستمدٌ من الثقافة اليهودية والمسيحية.. حينما كان تصوير الله محرماً ..اكتفى الرسامون برسم يد الله كرمز لإعانته للانسان... يهوه وهو يكلم آدم و موسي وغيره من الأنبياء...
هززت رأسي متفهما.
- نوكيا استبدلت يد الله بيد الإنسان... يد ثورية تنتشل الانسان من وهدة الخضوع للغيبيات...
- أها...
حككت ذقني مدعيا الاهتمام.
- نوكيا أعلنت وقوفها ضد تحالف الرأسمالية مع اللاهوت ... أعلنتِ التقدمية...صورة الطفل زاكاري والمرأة مارثا كانت تعلن عهد نهاية الطبقية المخدرة بالدين..لذلك كانت نوكيا أكثر الأجهزة تطوراً وأقلها سعراً واوسعها انتشاراً لدى كل الطبقات..وهذه خصائل لا تقبلها الرأسمالية التي اعتبرت ذلك اعلانا للحرب...
أخذ يزن أنبوب الأرجيلة عبر شفطات بطيئة حيث لم تعنه رئتاه الضعيفتان كثيرا...ومن بين حلقات الدخان رأيت شفتيه يتحركان ببطئهما المعتاد..وهو ينظر لعينيَّ بعينين براقتين بغضب:
- لذلك حاولوا تدمير نوكيا...تحالف شهود يهوه والليبراليون الجدد .. انهم لم يقبلوا بإحياء تلك الفلسفة...
- أها ...
- أدرك ما تقوله في نفسك ، إن هذه ليست أكثر من نظرية المؤامرة... لكن هذا غير صحيح...فالمؤامرة حقيقة وليست نظرية يا صديقي...الكل يتآمر هلى الكل .. والضحايا الحمقى هم من يقولون وهم يعتقدون أنهم أذكياء:لا نؤمن بنظرية المؤامرة.
- هناك مؤامرةٌ إذن...؟
قال وعيناه تتسعان وتزدادان بريقاً:
-كنت داخل هذه المؤامرة.. لا أتحدث من خلال هوس اضطراب عقلي...
كانت الساعة تدخل الى الثانية عشر ؛ ظهرت فيرا وأخبرته بلسان عربي ركيك بمغادرة السائق بعد تحميل جميع كراتين المانجو... فأومأ برأسه ، وحين غادَرَتْ:
- لقد خضعت نوكيا الآن .. بعد رحلة طويلة وعصيبة من الصراعات والمعارك ... خضعت كالاتحاد السوفيتي تماما .. وامتثلت للبروسترويكا يا صديقي حتى لا تتفكك..
أغمض عينيه وراح في غفوة خاطفة ، سمعت أثناءها شخيراً قصيراً ثم فتح عينيه.
- لا زلتَ هنا.. لا زلتَ معي...؟
قلت بثقة:
- بالتأكيد.. حتى تقرر أنت متى أرحل فأنا لا اسأم من الاستماع لقصصك المشوقة...
قال:
-أين كنا...
- نوكيا يا سيدي نوكيا...
قال:
- وقبل ذلك...؟
حاولت تذكر الأمر ثم قلت بسرعة:
- المطعم الشعبي .. الغداء في المطعم الشعبي..
- هااا .. نعم صحيح... لم يكن مطعما شعبيا بأي حال يا استاذ رزاق...هذا المطعم كان لفقراء هم بالنسبة لفقرائنا من الطبقة البرجوازية...يأكلون الحمام المحشي والعصافير ولحم الإبل والضأن والماعز ويحتسون الشاي والقهوة المحوجة ... ويعتبرون أنفسهم بروليتاريا...
-نعم..
- كنت أعتقد أن الطيور لم تكن مذبوحة بل هي طيورٌ نفقت لكنهم أكدوا لي أنها طيور طازجة ومذبوحة وصحية تتفق ومعايير وزارة الصحة.. أما القصة الثانية فهي تقريبا مثل هذه أيضاً ... لقد كنتُ في بداية عهدي بالوظيفة العامة ، كنا نعقد اجتماعات الحزب بعد نهاية دوام العمل لنخطط للاستيلاء على جميع النقابات لنعلن بعدها إضرابا شاملا..كان المد الثوري ينحسر ، مات عبد الناصر وانقلب نميري لمحور أمريكا وصافح السادات يد مناحيم بيغن وشعر العرب بالهزيمة الماحقة لأول مرة . لقد تم إيفادي إلى القاهرة وهناك التقيت بأول المستفيدين من سياسة الانفتاح كان رجل أعمال مصري قدم من الولايات المتحدة الأمريكية .. بالتأكيد تعرف معنى أن يأت رجل أعمال من أمريكا في ذلك الوقت الدقيق وغالبا ما كانت أعين المخابرات المصرية تتبعه في كل مكان لكنه استطاع شراء أغلب تلك العيون...صاح الرفاق: (سقطت مصر..) وصاح الناصريون:(الآن مات ناصر)..
وصحنا هنا : (اليوم مات عبد الخالق).. كانت هزيمتنا مؤلمة..لقد أوفِدتُّ لمقابلة رجل الأعمال ذاك ومعي وفد من رأسماليينا ... وبعد لقائنا به أحسست بحسدهم له ...
وضع أنبوب الأرجيلة وتلقى اتصالا من هاتفه ... ثم قال:
- لعلك تتساءل عن اللينك بين القصتين... سأخبرك يا صديقي...
في غرفتي بالفندق المطل على النيل أخذت أسأل نفسي سؤالاً بدا لي شديد التعقيد... لقد كان السؤال ينحصر في ما هو الفقر .. من هم البروليتاريا ومن هم البرجوازيون... من يملك وسائل الانتاج حقا في هذا العالم؟ وما الحدود الفاصلة بين البروليتاريا والبرجوازية الصغيرة والعليا وغيرهم من طبقات .. وهل بالفعل ستؤدي نهاية الطبقية الى عدالة أم الى نهاية حركة ونشاط الانسان ... نعم نحتاج للعدالة الانسانية ولكن هل نحتاج لتدمير المنظومة الطبيعية الأزلية بأكملها لتتساوى حصتنا من الركام؟...
المهم كانت اسئلة اقضت مضجعي .. الرأسماليون لم يكونوا وقحين كما تخيلتهم .. لم تكن لديهم أنياب ولا مخالب ... ولكنهم أيضا لم يكونوا ضعفاء ولا أغبياء... قال لي ذلك الرأسمالي يوما:
- نعم هناك صراع ولكنه ليس طبقياً .. بل صراعٌ توتاليتاري.. أو كما أسماه آرتور آدموف صراع الكل ضد الكل .. وحيويتنا تقتات من هذا الصراع فنموت إن مات ... ومن يعمل على قتله فهو يعمل على قتل نفسه قبله.
لا أخفك سراً بأنني عدت وأعدت قراءاتي من جديد ولكن بعين أخرى .. عين أقل مثالية وأكثر خبثا وبراغماتية .. تذكرت حينها أن هناك دائما رجلٌ يقف خلف رجلٍ آخرَ أقل ذكاءً منه ليصنع له مجداً .. كالتعايشي خلف المهدي وهيكل خلف عبد الناصر ...وبولس خلف المسيح ...الخ.. وأنهم جميعا اختاروا خوض الصراع بأفكار غايتها استقطاب السذج من المثاليين المصدقين لكهف أفلاطون...ألم يك ذلك أقرب الى دور الدين الذي رفضه ماركس..
أتذكر أنني سرت في تلك الليلة منيرة المصابيح من رمسيس حتى السبتية ماشياً على قدمي.. لم تفارقني رائحة نهر النيل ونشوة الانقلاب تحت عجلات رؤية جديدة للعالم .. لم أتمزق بل أدركت أن الصراع أكبر من أن نحصره في محور واحد ... لقد أصبحت مثلك يا عبد الرزاق .. مثلك تماما ... شخص نفعي انتهازي متملق...
حدجني بنظرة ثاقبة وحدجته بنظرة فزعة ... واستمرت نظراتنا مسمرةً على أفق ضبابي ما بين الكره العميق والحب القاتل ... حتى يوم وفاته.
(القصة مهداة إلى الرفيق اليساري العروبي حمد سالم).
*مرفق:
المطعم البيالة الذي أوحى لي بالقصة..
-مطعم شعبي بمزارع الاحساء بالمملكة العربية السعودية.