أحمد المديني - وقت امرأة وحيدة

تململت لوسيندة في الفراش باسطة ذراعها اليمنى بتراخ كامل. جسمها متعب رغم تبكيرها في النوم كالعادة, كما تفعل كل ليلة, كل شهر, وفي كل الأعوام المنصرمة, عيناها مفتحتان أو في نصف إغماضة, لاتعرف إن كانت قد نامت نوما عميقا أو متقطعا أو أرقت طوال هذا الليل الذي يكاد ينقضي هنا, في هذا البلد, في مثل الفصل الشتوي, في هذا الحي كثيف الشجر, لكن غينيها الآن مفتحتان.

شفيف من الضوء حس

من عاداتها أن تنام ممدة على ظهرها باستقامة كاملة, كميت في تابوت, أو بالأحرى إنها عادتها الجديدة التي تغالب جسدها عليها بعد أن حدث ذلك التغير الفجائي , المثير في حياتها, والذي لم تألفه رغم تعاقب كل هذه الأسابيع, هذه الشهور, بهذه العادة يغدو وجهها موزعا بين السقف وانحنائه على الجدار قبلتها فتردد النظر بينهما, يتقلب بصرها بين البياض الباهت وبين صور وأطر أخرى علقت هنا ذات يوم وما تزال حيث هي.

هذا الصباح هل هو الصباح حقا؟ عيناها مشدودتان إلى السقف وحده غافلة عن كل ما عداه من حولها, كأنها ما رأته أبدا, كان أي سقف لم يبن قط أو لعل صوتا سحريا سينفذ منه ليبوح لها بسر ما تبقى من حياتها, قليلا تنقشع الظلمة فيتراءى لها الأعلى إزارا أبيض بل ناصع البياض مثل ذلك الثلج الذي يحف رؤوس الجبال حول قريتها البرتغالية البعيدة, أو مثل المريلة البيضاء والتي ارتدتها للمرة الأولى حين جاءت قبل عشرين عاما هنا واشتغلت خادمة عند تلك الفرنسية الشمطاء. أبيض ناصع أم كلثوم أم رمادي في سبح يكاد ينجلي ليطرد ليلا طويلا, آه كم طال, وماهمها إن قصر فالعينان كانتا وستبقيان نصف مغمضتين, نصف مفتحتين, مشدودتين إلى السقف كأنه شاشة بيضاء تسمح لها بأن تملأها بما تشاء من الشخوص والمشاهد, أو مرآة صقلية تنعكس عليها الوجوه والأيام منبعثة, أولا من جبلها البعيد هناك, من "السيرادي خيريس", ومنحوتة من عمر صدئ بالكدح والتكرار إلى جانب هؤلاء الشماليين الباردين, بعد أن رحل الوجه الوحيد, الفريد, الذي كان يملأ الغرفة بهجة, والفراض دفئا ويزيد في العمر, وتنهدت :آه ياعمري" وهي تتخيل, كلا, ترى وجهه منحدرا من السقف يمسح وجهها فيما ذراعها اليمنى مبسوطة على امتداد فراشها الفارغ إلا منها.

كم سيكون جميلا لو بقيت هنا ممددة مثله, إلى الأبد خلوا من أية مشاغل في حياة تلف طعمها. حبذا, تقول, وهي تعلم أن الرياح لا تجري دائما كما يتمنى المهاجر منذ اللحظة التي يجتث فيها من أرضه ليهدر أيامه في بلاد الآخرين. على كل ليست في حاجة لتقتنع بأن لا خيار لها في مغادرة الفراش وحدها, بمفردها, كما آوت إليه بالأمس وكذلك في هذه الأسابيع الأخيرة التي توالت منطوية في رمشة عين, ولكن جئتما ليس مثل هذا اليوم الجديد أو القديم الذي يبدو وكأنه يتمدد أمامها طويلا, ثعبانيا...

أجل, إنها السادسة والنصف صباحا. ليست في حاجة للنظر إلى الساعة كي تضبط الوقت, فقد تعودت منذ سنوات أن تنصت إلى عظامها تخبرها بكل المواقيت, والآن وقد بانت وحيدة فقد أصبح الانتباه لديها هاجسا ملحاحا رغم أن الزمن لم يعد له نفس المعنى كذي قبل. لن تأخذ منها النظافة الصباحية سوى دقائق, وبالعناية الضرورية والمقتصدة. لن تتزين مثل الفرنسيات اللواتي يلطخن وجوههن بالأصباغ من أول الضوء كما لو كن يعملن في السيرك. وعلى كل فعملها هي لا يتناسب مع أي إفراط.

وكم تحس بغيضهن حين يطرقن بابها لغرض ما ويرينها مشرقة التقاطيع, حسنة الهندام, ففي عرفهن لا يجدر بغير السكان الأصليين أن يظهروا لائقين. قهوتها السوداء الأولى تعد بسرعة وتحتسيها بسرعة أكبر, فهي وحدها, ولن تسمع من يقول لها صباح الخير أو يضع قبلة على خدها قبل أن تغادر الشقة أو هذا الجحر المخلص لها سكنا في مدخل العمارة. ستنزل إلى الدور السفلي لتخرج إلى الشارع نقالات القمامة واحدة واحدة ثم تعيدها سريعا بمجرد مرور شاحنة نقل الأزبال. وعليها أن تتفقد إن كان كل شيء على ما يرام في السراديب السفلية للعمارة قبل أن تحضر عجوز الطابق السادس الرقطاء زاعمة أن كرسيا من طراز وعهد لويس السادس عشر قد سرق من مخبئها, وأن السارق يكون واحدا من هؤلاء الأجانب الذين يأتون من الفيافي والأدغال ليسرقوا (كذا) ويأكلوا رزق الفرنسيين, أي فوضى, الهمج.

من قبل, لم يكن إخراج نقالات الأزبال شاغلها, هو الذي كان يتكفل بها فيما تأخذ هي الوقت الكافي لتسريح شعرها وترتيب غرفة النوم والصالة الصغيرة وسقي الأصص أيضا.

أما وقد تبدل الحال فعليها أن تواجه كل الشؤون بمفردها, نعم بمفردها حين تشرع في كنس الممر الشجري الطويل, المؤدي إلى الباحة الداخلية مزيحة كل ما تساقط فوقه ليلا من عيدان أوراق وربما أشياء أخرى من قبيل براز كلابهم يخرجون لتتمرح قبل أن تنام ليلا في أحضانهم بدل فلذات أكبادهم.

وفي الثامنة صباحا عليها أن تشغل موقعها في الجحر لتراهم يخرجون كبارا وصغارا كحنيي الظهور, مقمطري الوجوه كما لو كانوا ذاهبين إلى المقصلة, رغم أنهم لا يحسون شقاء يوم واحد مما تعيش, فيا لبطرهم! وحين تعتقد أن البناية فرغت أو توشك من سكانها تبدأ العجائز في طرق باباها كما لو كن مدعوات لحفل شاي أو لقراءة الفأل. لا هم لهن في الواقع سوى الجأر بشكوى وهمية عن النظافة, والفئران المتسللة من المجاري أو ربما من الكوابيس, والنم في هذا وتلك, ثم التأفف من الطقس كما لو أنها هي التي حكمت على هذه الأرض أن تعيش سماؤهم قبضا أزليا... آه, والبريد... حسنا ذكرنها, فهذه الرزمة المنتفخة ستحضر بعد قليل, وعليها أن تفرغها فوق الطاولة وتشرع في الفرز لتنهمك في التوزيع بعد ذلك على أربعين شقة, وهي وحدها لا يصلها الآن بريد, وكان يصل إليه فتفرزه بعناية خاصة لا تخلو من لمسة حنو ليفتحه لدى عودته في المساء, ويتسليان أو يستبشران ببعض الأخبار الوافدة من بعيد, وأحيانا يحزنون وفي كل الأحوال فقد كان ذلك ممتعا, وستحل ساعة الغذاء, ستضع شيئا برتابة وهي تبحلق في شاشة التلفزيون موهمة نفسها بالمتابعة فيما هي ساهمة تنظر إلى مرئيات بعيدة أو قريبة بالأمس, في ماضيها... لكم هو مر طعم هذه اللقمة, شدما لا تستساغ. هي لم تأت إلى هذا البلد البارد, المتهجم, من أجل اللقمة, أو بالأحرى لم تبق هنا بسببها.. أوق, حيث تتذكر, لا وقت معها في منتصف النهار, في نهار أتعابه تتواصل إلى أن تنزل سدف الليل لتطوي معها العمارة, سكانها زعيق صبيتها, نقيق عجائزها, كلابها وتبقى هي وهو منفردين في لحظة المواجهة تلك.

قبل, الليل في العشي تحديدا تضع الكرسي خلف النافذة المشرقة مباشرة على مدخل العمارة. من هنا ترى كل شيء وهي به مخفية خلف ستارة مشبكة, ستراهم قادمين, عائدين, فرادى أو مثنى فاغبطهم لا بل تعتاض, فلماذا هي العائدة, ومثنى... هذا هو الأهم... إنما لا بأس, فبعد قليل, عند السادسة, السادسة ودقائق ستصبح هي وهو مثنى. هذا وقته منذ حوالي عشرين سنة, شهرا بشهر, يوما يوم عودها أن يفعل, أن يحضر في وقته المعهود, لا يتأخر إلا نادرا حين تصعد في دماغ هؤلاء القوم نزوة الإضراب فتتعطل المواصلات, ويضطرون للتنقل على أرجلهم مثل الدواب والكلاب.

وحينئذ ينتابها قلق لا قبل لها به. لأن تتوقف جيئة وذهابا في الأمتار المحدودة للصالة مزيحة الستارة كل دقيقة أو أقل, متطلعة نحو الخارج كأنها في أول موعد غرامي وقد تأخر المحبوب. وحين يحضر تعرف كيف تلجم مشاعرها حنى من غضب علمتها سنوات الغربة كيف تسكت لواعجها.. يخيل إليها لحظة سماعها صرير البوابة الخارجية, وظل قامة متوسطة ترتمي على الممر, ولا حاجة لأن يدور المفتاح خلف الباب فهو مفتوح, بخطوة واحدة ينتصب أمامها, يطبع على وجهها قبلة المساء لتقفز توا إلى المطبخ المحشور في قعر الصالة تحمل منه إبريق القهوة المغلي, تسكب منه في الفنجان الموضوع سلفا فوق الطاولة يحتسي في جرعتين بعد أن يقول بسم الله ثم يعود ليقول الحمد لله, هذا بعض ما حفظت من كلام دينه, هو المسلم. حين حضرت إلى هنا كانت تواظب على الذهاب كل أحد إلى الكنيسة ثن انقطعت. لم يحدثها هو عن شيء ولم يكن يصلي ومع ذلك انقطعت. ذات يوم جلب معه صورة محاطة بإطار مزخرف علقها في صدر أصالة, قال لها هذه هي الكعبة, ولابد أن تساعديني في الإذخار لأذهب إليها, إلى هناك... إن شاء الله, ثم يقوم ليغير بذلة العمل مستبدلا بها لباسا بسيطا ويخرج لكنس مدخل العمارة وتفقد الأنابيب لمعاينة ما قد يلحق من أعطاب ولعد حمولة الغاز والتدفئة المركزية, إضافة إلى شؤون أخرى عديدة يشملها بجولته المسائية المنتظمة, فيما هي تحضر عشاءهما, في جحرهما, وسيتناولانه مثنى, ويشاهدان سويا مسلسلا في التلفزيون ومعا يأويان إلى الفراش ويستغرقان في نوم عميق في انتظار الزيارة القادمة إلى "سيرادي خيريس" أو الأوراس في الجزائر أو الكعبة من يدري؟

ستذخر له, ستفعل. أو ليس من أجله بقيت هنا... أو ليس من اجلها أيضا هو باق هنا. هؤلاء الأغبياء حولها, عبيد الكلاب يتصورون أنهما باقيان من أجل اللقمة. ما بات يجمع بينهما لا تعرف كيف تسميه... كلا ليس الحب, العمر لم يعد يسمح, وهو عاطفة تحرق والزمن كفيل بإطفاء لهبها كما هو كفيل بكل شيء, كلا غنها المحلة, غنه الحنان, نظراته الناعمة وهو في طريق القدوم, وقامته الظليلة وهو يركب حافلة الغياب, في الصباح ليعود في وقته المضبوط دائما في المساء, دون إبطاء بلا استثناء.

إلا في ذلك المساء, إنها تتذكر جيدا أو نحول تجميع رفات ما تبقى منه, منهما, من كل ما فات. لكنها, بوازع ما, تتشبث بما حدث من قبل. تسعى جاهدة, معملة الذهن للإمساك بأول الخيط.. لماذا اختارت ذلك اليوم للهجرة... لماذا ركبت تلك الطائرة... ولم استجابت بل استسلمت, تجاوبت مع طلبه مساعدتها ها هي ذي تنزل في المطار. بصعوبة شديدة تسحب حقيبتيها الثقيلتين من البساط الدائر لنقل الأمتعة, كان المسافرون قد انقضوا على جميع العربات وانقض رجال الجمارك على حقائبهم تفتيشا. بقيت هي واقفة لا تحار صنيعا أمام حملها, كان لابد أن تفعل شيئا لنفسها, فقد أفهمومها من جبلها البرتغالي أن لا أحد هنا يساعد أحدا إلا الكلاب من دون باقي المخلوقات تجلب الشفقة,ووقد وعت ذلك جيدا فيوقت لاحق وبتت تتساءل ببلاهة أحيانا في مواسم الانتخابات العديدة هنا لماذا لا يمنحون لهذه العجماوات الحق في التصويت. وفي وضعها الحرج ذلك وقف على رأسها, كأنما "سنتا ماريا" هي التي أرسلته لنجدتها, شابا أسمر, مفتول العضلات انتصب أمامها عارضا عليها المساعدة, أنا أعمل في المطار, في الصلحة التقنية, خاطبها, وإذ لاحظ ارتباكها أردف وهو يمسك بمقبض الحقيبتين: لا اطلب منك أي مقابل, أريد فقط مساعدتك, ألفت نفسها كالمسحورة إلى أن أصبحا خارج مبنى المطار. ثم استأنف: أنا سأنزل إلى المدينة. إذا شئت أنقلك إلى عنوانك, لديك عنوان "أليس كذلك؟ غابت عنها التفاصيل مرت الأشياء بسرعة. كل هذا العمر مضى بسرعة. بلى تذكر كيف ودعها بحرارة قدام مدخل عنوانها وهو يخرج ورقة "كتب فيها اسمه معلنا أنا اسمي الخضر وهذا رقم هاتفي إذا احتجت إلى شيء, فهذه المدينة غول لا يرحم.. أنامن الجزائر, هناك وراء البحر, نحن جميعا غرباء, وردت عليه بحيرة:يف أشكرك يا ... أنا اسمي لوسيندة, من البرتغال, وراء "سيردي خيريس" هناك. أيهما بادر بتجديد الاتصال؟ لا تذكر... لقد مضت الأمور بسرعة ومعها الغمر, والتقيا, جددا اللقاء, أصبحا يعيشان تحت سقف واحد, ومنذ عشرين عاما تقريبا وهي تحمل اسم : السيدة الدزايري. يستيقظان في الصباح ليهب هو إلى المطار وتنصرف هي إلى شؤون العمارة ليعود الاجتماع كل مساء, فيوقت معهود, بلا إبطاء, بلا استثناء.

إلا ذلك المساء, كأنه لم يدخل في عداد الزمن, لا بل توقف الزمن عنده وما أقلع. القهوة ساخنة في الإبريق وهي جالسة خلف النافذة تتطلع الى مدخل العمارة... كانوا قد عادوا فرادى ومثنى مثنى. أحصتهم واحدا واحدا هم وصبيانهم وكلابهم, وبدأ الوقت يتقدم وهو لم يظهر بعد. بردت القهوة وسحنتها من جديد. إنها السابعة والنصف, والثامنة الهاتف لا يرن, هو لا يرتاد الحانات, لا إضراب اليوم في المواصلات, ثل وقع له حادث, أوراقه معه دائما لكي لا تحصده شرطة ترتاب في كل من له سحنة غير بيضاء, وصحته موفورة رغم أوجاع ظهره وما ينتابه من شرود مرة مرة. إنها الساعة ولابد أن تفعل شيئا.. المستشفيات, مخافر الشرطة.. صعاليك الليل, كل شيء محتمل بما في ذلك ال... ولم تكتمل الكلمة في مخاوفها المتسارعة إذ ذهب نحو الباب على إثر سماع جرس ملحاح, وجدت أمامهات لخضر يسنده شخص لم تره من قبل معه. أسنداه معا إلى الأريكة وعيناه غائرتان ووجهه شاحب, قال الشخص المجهور أنه زميل لخضر في المطار, وأنه قبيل انتهاء نوبرة العمل بدأ يهذي, وأنه فقد أعصابه فجأة وشرع يضرب الحيطان صارخا: الدجزاير, الدجزاير... يلعن دين فرنسا... يلعن دين الكلاب. وأضاف: لاحظته يكلم نفسه أحيانا وينزوي بعيدا عن الآخرين في فترة الغذاء. ولكنها المرة الأولى... وقد حضر طبيب المصلحة وحقنه بمهدئ, وبعد أن ارتاح قليلا كان لابد من مرافقته إلى هنا... أيتها السيدة لوسيندة, معذرة, لقد ظل يلهج باسمك طوال الطريق. في الأيام الموالية, والأسابيع, تكررت الحالة. توقفت العودة المنتظمة إلى البيت: تواتر شرود لخضر وهذيانه سواء في عمله أو عند مقدمه, أمسى نومه متقطعا وحديثه مهموسا أو منعدما باستثناء شكواه المتكررة من أوجاع حادة تضرب رأسه. كان يسند رأسه على كلتا راحتيه ويئن مثل كائن مفجوع, في الأسابيع الموالية كثر انقطاع عن العمل وتناوله لعقاقير الوصفة الطبية دون حدوث أي تحسن بهتت ابتسامته الحلوة التي لم تنطفئ منذ عشرون سنة. تراخى كتفاه ونحل جسمه, فيما انقطع بتاتا عن الكلام لكن مواصلا بعناد المساعدة قدر وسعه في ترتيب شؤون العمارة.

لم تعد لوسيندة تنظر من خلف نافذتها عند العشي. سهت عن الاهتمام بتسخين القهوة في الوقت المعهود. أصص الأزهار ترعرع فيها عشب نافر. نوعية عملها تراجعت ووجهها تلبد بحزم مكشوف. لم تكن تشتكي ولا يوجد أحد له سعة الصدر لسماع شكواها. البشر هنا لا يعيرون مطلقا أي اهتمام لتعضهم, وشاغلهم الوحيد ترتيب العطلة المقبلة, وطريقة التخلص من الكلاب في هذه المناسبة, وضبط ميزانية التقاعد كي لا ينهوا حياتهم في أنفاق المترو. لم تفهم ما هو بصدد الوقوع أمامها, وبدت عاجزة أمام صمت جنائزي حط مثل الصخر على جحرهما. الطبيب نفسه قال بأن الأمر يحتاج إلى وقت طويل مضيفا الوصفة إلى الوصفة.

العجائز النمامات هن اللواتي لاحظن في وقت لاحق تغيا متواترا للوسيندة عن موقعها, وكان دافعهن الحقيقي رغبتهن في التعبير عن استيائهن مما اعتبرنه تدهورا في نظافة العمارة وتوزيع البريد الخ.. يرافق ذلك كله فضول محرق لمعرفة ما يحدث. فبابها الذي كان مفتوحا دوما تقريبا أمسى مغلقا بإحكام, وثرثرتها معهن عن كل شيء فلا شيء كلما استوقفنها لاستطلاع أسرار الجيران توقفت أو كادت بالمرة... وما بال لخضر لم يعد يظهر لهن عائدا من عمله أو موزعا للبريد شأن ما يفعل كل يوم سبت, وكن يحاولن استدراجه بغزل سمج بينما لا يبخل على كلابهن بأسخى المديح, وهو ما كان يخفف من حفيظتهن على سحنته الأجنبية... أجل إنها امرأة خدوم, طيبة بمعنى ما, وهي على كل حال برتغالية من ديننا, ولكن هذا لا يعني ... المفروض أن تؤدي عملها على الوجه المطلوب, وإلا... سنرى!

كان لخضر قد توارى فعلا عن الأنظار, وكانت لوسيندة وحدها تعرف أين يوجد. ولم يحرجها بالسؤال أو يلح تكتفي بالقول: لا بأس, هو متعب قليلا, وسيعود, شكرا على الاهتمام. هل كانت مقتنعة حقا بما تقول؟ وبعد أن أصبحت تراه يراها وكأنه لا يعرفها ولا يعرف ما حوله, فهل ثمة أمل حقيقي في عودته... وهذا الثوب الصداري الذي تغزله بأصابعها ثل سيقدر له أن يدفئه قبل رحيل الشتاء؟؟ ما أكثر أسئلتها وما أشد التياعها وما أقساه الفراغ الأصم حولها! لو كان له أصدقاء... لو كان له أهل هنا... ولكن لا أحد سواها, وهنا لا أحد لها سواه, وحين رن الهاتف الخميس الماضي, وكلموها من ذلك المكان في ساعة مبكرة, وهي تستجمع أطرافها لمواجهة أعباء يوم جديد, اخبروها أن عليها الحضور فورا, فقد صرخ الليل بطوله مهتاجا: الدجزاير... وين الدجزاير... يلعن دين فرنسا, يلعن... فينك يا لوسيندة... ثم هدأ دفعة واحدة ونام. كل ما في الأمر أنه نام عمقا وحين تفقدوا حالته صباحا بم يستيقظ وقالوا لها هذا أفضل له. لها, للجميع. لم تستطع البكاء وقتئذ, عمرها راح ولا تعرف من أين تجلب الدمع. همها الآن كيف ستدير الأمور, الطقوس. مرة كانا يتسامران, وتوقف فجأة عن الكلام وهو ينظر إليها بأسى وقال كمن يستدرك شيئا نسيه من وقت طويل: لا أحد يعرف متى يحل أجله... إنما أريد أن أموت وأدفن على ديني, عديني يا لوسيندة! بكت حينها. حاول أن يسري عنها ولكنها لم تنس قط. وهبت تطرق باب القاطن في العمارة, من الأكيد أنه يفهم في هذه الأمور. حتما سيسعفها, وما تشك في انه يفكر في ان يموت ويدفن إلا على طريقة دينه. كثيرا ما كانت تراه ولخضر يقهقهان في المدخل والعابرون الذين يجهلون الضحك ينظرون صوبهما شزرا واستغرابا...

هؤلاء العساء. وقال السيد المدني هوني عليك وسأتكفل بالأمر... وأكملا الإجراءات, ثم جاء العربي برجال لا تعرفهم. وهناك في ظاهر المدينة ساروا وراء النعش, نعشك يا لخضر, وسمعت ما كنت تردده مرة أخرى: الله أكبر , الله أكبر, كما سمعتهم يقرأون كلاما لا أفهمه وإن أيقنت أن كل شيء يتم حسب ما يرضيك.

هذا يوم آخر أمامك يا لوسيندة. هل هو الصباح أقبل بعد ما يزال يمد سدفه السميكة؟.. منذ متى نامت ومنذ متى لا تعي حقا كم يمر عليها في الفراش. العينان مفتحتان أم لعلهما في نصف إغماضة. تمرر تحتها أصابعها كمن يبحث عن أثر انتفاح في الجفنين, بعض تورم ربما, تجاعيد خفيفة لا شك من أثر تعاقب السنين. ورموشها أهي بليلة.. هل تملك بعد من دمع للبكاء؟!... العينان غارقتان في جو الغرفة البهيم ولا صوت يأتي من الخارج أو من فوق. سمك السقف رقيق مثل قشرة بسكوت, وليلة البارحة وصلت وحوحة الجيران فقوها حتى سريرها. في البداية تناهى الى سمعها ارتطام يشبه رفس الثران. وصرير خشب. ربما أضافت من خيالها أن السقف يهتز أو فراشها هي حين كان ذلك يحدث... آه... في تلك السنوات... واستمرا يوحوحان طويلا وسمعت آه... إيه... أووه جسدها ممدد بتخشب تماما كما رأت جسده ممداا داخل التابوت, والجفون مسبلة دون عينين كأنها تراهما يطلان عليها من أعلى. تتحدر النظرة منها منعشة مثل خيط ماء في شعب جبل, بل هي ترى يدا تقترب من وجهها فتتلمس خديها الباردين فتشعر للحظة أنهما يكتويان باللفح القديم. وتحت ذراعها المبسوطة إلى الجانب الأيمن من الفراش تتحسس رأسه بشعره العربي الخشن... ها هو الفراش يمتلئ, هو ذا ممتلئ: جسد نابض وأنفاس متقاطعة بأنفاسها: الصباح مشرق هذا اليوم, من قال إن باريس مدينة مصابة بالقبض, الشمس تشرق في باريس أيضا... كأن يدا تدعك صدرها, تصعد تهبط, أصبع تغور في سرتها, جهنم الشهوة تصعد إلى رأسها فتفتح ذراعيها في استدارة هوائية لتحيط ظهره, ولا تعرف إن كان بكاء أولهاثا ما يصدر منها, ما به تهمس:

تعالى يا لخضر تعال.

تململت لوسيندة للمرة الألف في الفراش رامية ذراعيها بتراخ كامل ذات اليمين وذات الشمال, أرادت أن تضعط على الزر لاستطلاع الساعة, ثم ما لبثت أن كبتت السؤال في داخلها: "لماذا؟ وأي جدوى من الإضاءة... من معرفة الوقت, من النهوض...

الآن أو بعد لأي. ولنفرض أن الوقت فات فما الذي سيغير في حياتها. ماذا؟

بعد كل الذي حدث؟ ماذا؟

أوه, كفى لا هذا لا يكفي, كفى, كفى!!"

باريس في 28-6-1995.


أحمد المديني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى