محمد علي شمس الدين - خطوات الطائر المكهرب.. شعر

أدور وحدي في شوارع المدينة
وربما يدور ظلي وحده
فيلتوي على الجدران ينطوي على المنازل التي يمسها
كغيمة سوداء, فكرة بلا جسد
أنا الغريب
كان لي هناك صاحب ومات
منزل وآل للذي أدانني النقود واستردها
تركت منزلي
ولم يعد لروحي الخفيفة المتاع غير نعلي القديم
ووحشتي التي ورثتها مع السعال عن أبي
حملتها وسرت واضعا يدي في جيوبي
لاشيء في الشوارع الكثيرة الضوضاء يبصر الخيوط وهي في يدي
كالشباك ترتخي
أو يبصر العصفور حاملا في صدره
وتحت ريشه الجميل خردق المساء طائرا به ونازلا على الغصون
أردت وحدي أن أضم طائري إلي
وأن أسير في شوارع المدينة الخرساء حين يهبط الظلام
كالمسافر الذي يدور في (حكاية بلا بداية ولا نهاية)
يهب فوق وجهي ريحها, ولم يكن من الشتاء قادما
لكنه يجتاحني من أسفل العروق حتى آخر القدم
وربما سمعت قطة تموء
أو رأيت كلبة من الرياح تعوي
وربما يكون ذاك في قميصي- وليس في الفضاء-
أو تحت شوك العوسج الهزيل في يدي
أو على السرير, حيث لا يزال نائما أخي الذي تركته وسرت
نحو إخوتي في الشوارع الطويلة
- وليس لي أخ سوى العصا
وليس لي أب سوى الطريق-
وكان أن علي قطعها
كما تناول الحياة بالملاعق الصغيرة
على امتداد عمره الطويل
قبل موته بجرعة واحدة
(إليوت)...
ياأيها الهواء في الشوارع
ياأيها الهواء في النوافذ المشرعة
وفي مفاصل البيوت والتنك
وفي التخاشيب التي عمرها المهجرون والمشردون والمغامرون والعسس
ياأيها الهواء فوق ناطحات الأنف والسحاب والجسور والمقاولين
وفي الأسواق حيث يستريح عجلها السمين
ياأيها الفراغ كن لي
فلم يعد لدي غير وجهك المجوف الأمين
لأسترد اليوم منه منزلي
كما تعود جِثة القتيل نحو أهله, فيفرحون
وأسترد هذه الشوارع التي خسرتها في الحرب مرة
لكنني خسرتها في السلم مرتين
أسير وحدي بين ما تدلى
من الغصون والصراخ والدماء فوق رأسي
أسير هكذا, مشردا وحرا
وقابضا على أسرار لوعتي ونشوتي
كأنني الملك
وكل ما يدور في الأزقة السوداء
من مباهج الحياة أو عنائها
ومن مفاتن العيون أو شقائها : رعيتي
أدير وجهي نحو شرفة معلقة
أرى الغسيل ناشرا أعلامه البيضاء في الهواء
هادئا مستسلما
وبينه يطل رأس امرأة صغيرة
وحول وجهها ملاءة من الشغف
والخوف يحجب الفضول في عيونها
تغيب خلف غيمة من الثياب, ثم تنحني
لكي تراقب الغريب وهو سائر
على امتداد عينها السوداء
لا ترى سوى ثيابه
تخفق فوق جسمه النحيل
يسير مائلا كأنه العربة العرجاء
ويغزل الهواء في ثيابه, غزاله الخفيف...
زوبعة صغيرة من الغبار, أعلنت قدومها إليه
وارتقت لكي تقول: ها أنا .. وأدخلت خرطومها
الدقيق في مسامه الكثيرة
- أحس أنه مسلة من الغبار-
ومثلها ارتقى
كأنه ورقة بيضاء شالها الهواء في فضاء
الشارع المضيق.. ولولت , ترنحت
ورنقت على الإسفلت خدها الضئيل...
وها ترى الوجوه وهي تحتويه تارة
وتقتفيه تارة
كل شيء حوله
يدور كالظلال ثم يختفي
وكان في الطريق ثلة من الجنود
خلفهم يسير عامل يكاد يمحي من التعب
سمعته يقول: ياصبي دع خبائث المدينة
ولذ إلى الجبال حيث كنت صافيا وعاريا
وكنت تأكل الثمار حينما تجوع من غصونها القريبة
وتشرب المياه من قرارة الينبوع
وتنشق الهواء مثل نسر الجو من ذؤابة السماء
وكيف قيدوك بالحياة وهي سرك الجميل ?
وكيف أسدلوا يديك في المدن
وكانتا كالسرو حرتين ?
وكان كلما مشى
يمتصه الظلام, والكلام في شفاهه يفور مثل نبع
جف ماؤه
تركته ينام في شقائه العميق
وسرت رافعا عقيرتي
بجملة حفظتها عن السلف:
ما كل ما تطلبه تناله
والريح تجري عكس ما ترى السفن
- ياوحشة الغريب في المدن-
المرأة العجوز لم تزل هناك واقفة
تمد كفها إلى الذي يمر قربها مواربا
تقول يابني ساعد هذه العجوز قبل أن تموت
تموت لا تموت
ليس هذا شأن عابر السبيل
وليس هذا شأن حارس المدينة
وليس هذا شأن سيد المكان والزمان والبيوت
سمعت سائقا يقول: إنها ممثلة
وإن هذه الأصباغ فوق وجهها
لا تحجب الخديعة
وكان يهذي
وربما يواصل الحديث بينه وبين نفسه
عن المطربة الصلعاء
والمسارح المخربة
ومعرض الأسواق بعد أن تقاسموه بالتساوي
وطردوا الجمهور والممثلين
ولم يكن ليبصر العمال فوق المسرح الجديد يرفعون صورة كبيرة
لسيد المدينة
عيناه تجحظان
نعمة
وطربا
وفوق خده الورود قد تراكمت
أكثر مما فوق مقبرة
وفي انكسار لحظه الأسيل فن الكسب في الخسارة
تخنقني العبارة
ولم أكن ممثلا, يحترف الأدوار, بهلوانا
راقصا على الحبال
أدور من يمين الأرض للشمال
فما الذي أقول ياصديقتي العجوز
ما الذي أقول ?
كتمت شهقتي
وسرت خائفا كأنني مطارد
وليس لي سوى الرصيف من ملاذ
أنا ها هنا: وسادتي الحجر
وحول مرقدي الكلاب والذباب والبشر
تجمعوا
فإخوتي هم الذين يشبهوني
من قال إنني رغبت أن أكون ما أكون ?
من جاء بي كذرة صغيرة في كرة الجنون ?
ومن رماني هكذا كطابة مفقوءة العيون فوق ملعب الأقدام ?
أنا الذي أنام لا أنام ليس هذا رغبتي
(فحيرتي )
تفاحة جالسة على بحيرة السكون
تفاحة شممت من بعيد ريحها
وكنت لا أزال طالبا على مقاعد الدراسة
تفاحة كامرأة وراء مشغل على الطريق لا أزال أذكر
الذي أمضّ روحي من جمالها
وكم مرضت منها أول النهار
وكم وقفت دونها
كالطائر المكهرب
وها أنا
وبعد أن مضى علي ألف عام, أو أقل
أسير في الطريق نحوها
كأنني رجعت في الحياة قهقرى
وما الذي يدور في الخفاء
خلف آلة النسيج ياترى ?
تغيرت معالم البيوت والأشجار
والريح أسدلت ستائر النسيان فوق المسرح القديم.
  • Like
التفاعلات: فائد البكري

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى