حسن إمامي - عتبة الوعي بين الذات والموضوع، الأنا والآخر..

حينما يكون الوعي إدراكا وامتلاكا لقدرة على الفهم والتحليل والاستنتاج، حينما يكون هذا الوعي مواكبة لتفسير الذات والعالم والتفاعلات التي تتم بينهما، حينما يكون الوعي فهما للآخر وللغته وثقافته، فهنا يحضر هذا الآخر كامتداد لحضارة ولثقافة ولغة وأسلوب عيش. فأن يكون هذا الآخر في درجة ما من التطور الحضاري والثقافي والمدني فذلك مقياس لاختبار درجات وعينا ونجاحه في التفاعل المتوازي والصحيح والسليم معه: هذا الآخر.
لكن المسألة أعقد من أن تكون مجرد تفاعل ومجرد وعي وفهم. ذلك أن درجات الوعي والفهم نسبية ومتفاوتة من شخص آخر. ستكون المسألة أعقد حينما تصبح الثقافة واللغة موطنين يتسلح بهما الآخر في رمزياته المتعددة ومؤسساته المتنوعة لغة وخطابا وأسلوبا وطريقة تعامل وتوازنات مصالح خفية أو ظاهرة داخل كل هذا.
فكيف سيكون الوعي بالآخر حينما نحدده في الغرب، في أوربا، في أمريكا الشمالية؟ وإذا حصرنا السؤال داخل دائرة اللغة والثقافة الفرنسيتين وداخل عاصمة الأنوار باريس وما تمثله من تطور حضاري وأدبي وثقافي، سنسأل أنفسنا: كيف سيكون الوعي كعتبة لطرق أبواب سحرها وجمالها وحقائقها الجدلية التي تخفيها ابتسامتها وألوان فنونها وموسيقاها؟
هكذا أجدني أطرق باب هذا العنوان: عتبة الوعي، في مرحلة عمرية سأحاول الاستفادة مما تراكم من تجارب ومن إدراك مرتبط بها، حتى أرى ما لهذا الوعي أن يشكّله عندي وما سأقدّمه معه لقارئ هذه السطور المتفاعل بكرم معها كمتلقٍّ وكمحاورٍ مفترضٍ معها ومعي في أفق ديمقراطي متكامل يؤمن بالنسبية وحرية التعبير والرغبة في الالتقاء مع الآخر ولو خطابا ومعرفة وإعلاما.
باريس، رمز لمبادئ الثورة الفرنسية، ورمز للعطر والحياة الثقافية. ومثلها مثل باقي العواصم العالمية الكبرى التي أوقعت تأثيرات متجددة على سكان العالم إنْ سياسة أو ثقافة أو فنا وأدبا، ستكون باريس هي كل هذا التمثيل والتأثير. تحضرني المؤسسات الجامعية والأكاديمية، المتاحف وقاعات العروض الفنية والسينمائية والمسرحية، المتاحف والأروقة… تحضرني الهندسة المعمارية للمدينة وجماليات فضاءاتها ومعالمها الكبرى التي تبتهج بها أمام العالم، وتلك الساحات الكبرى التي تحتضن قُبُلات العاشقين ونبضات السائحين ما يجعلها مدينة السياحة العالمية بامتياز… أجدني واقفا باحترام وإجلال لشخصيتها المعنوية: باريس. كيف لا أقدّر شموخ هذه المدينة وهي المغرية بعوامل العيش السعيد ورغده. لكنني على وعي بأن العيش واقع وواقعية، ظروف وإمكانيات، امتلاك شروط ووسائل، وكذا امتلاك ثقافة ووعي مناسبين لمناخ هذا العيش.
فكيف سيكون وعيي متلائما مع المطلوب في تفاعلي مع مدينة باريس؟ أي هوية تناسب تواصلي وتعاملي مع حضن باريس ورمزيتها الشاملة؟ سؤالان وأسئلة قبلهما يختلجان الذات ويدعوانها إلى إعادة ترتيب كل متحصَّل في الفهم والمعرفة والإدراك، في الوجدان والشعور، في القرب والبعد عن فضاء مدينة باريس.
لم أكن أول العاشقين ولا آخرهم. ولم أكن أول المنبهرين ولا نهايتهم. في نقطة من سيرورة الزمن التاريخي الذي راكم تفاعل أجيال من مجتمعي ومن ثقافتي ولغتي، أحضر هنا كباحث عن تشكيل لوعي متجدد مرتبط بمدينة باريس، مدركا وغير مدرك شتى أمور مع ذلك.
بدءا بالفلسفة، أقف عاجزا أمام عتبة الوعي وأمام عتبة باريس. كيف لي أن أستوعب المنتوج الفلسفي والأكاديمي المرتبط بالمدينة واللغة والثقافة؟ عروجا على الأدب والفن، كيف أستطيع أن أتذوق وأستهلك وأنتعش جماليا وتلقيا عطاء المدينة الزاخر بالقيم والجمال والحقائق والافتراضات؟
وما الذي لم أذكره في حضور باريس في علاقة مع ما يشكّل الوعي؟ باريس التاريخ ـ باريس السياسة ـ باريس المجتمع وأسلوب الحياة ـ باريس الخصوصيات الغريبة عن أناي والتي ربما لن تشكّلني فتدعوني إلى عدم الوقوع في الوهم والاستيهام حتى لا أنزلق في وعي وهمي زائف لا يبني علاقة موضوعية مناسبة في تفاعلي مع باريس: عتبة الوعي ـ وعي العتبة؟
طبعا هو أسلوب فني يجعلني لا أستبعد التأثيرات المشتركة للمد الحضاري والفكري والفلسفي والثقافي الغربي عموما. لكنني أنتمي في جزء من هويتي الثقافية إلى هذه العاصمة بحكم اللغة الثانية التي تعلمتها والتي أقرأ بها وأحاول تطوير تشكيل هذا الوعي بها. منذ طفولتي، تلقيت التعليم الابتدائي باللغتين العربية والفرنسية، منذ هذه المرحلة تميَّز في تجربة جيلي ذلك البون بين طريقة تعليم كل لغة على حدة. هكذا ارتبطت الذاكرة بالأسلوب البيداغوجي والطريقة. ربما، وعودة إلى المعلم أو المعلمة، كان التعنيف وأسلوب العصا حاضرين في تعلم لغتي العربية غائبين نسبيا في اللغة الأخرى. وربما يكون هذا حكما إسقاطيا وغير عام ولا منطبِق على جميع التجارب، ذلك أن العقليات هي التي تعلم. وإذا كانت العقلية المجتمعية تعلم وتربي بالعنف فإن تصريفه سيكون في جل المواد وبجميع اللغات في تلك المرحلة دون استثناء التجارب المخالفة والمتميزة طبعا.
ومع كل لغة نجد عوالم منقولة للذهن، صانعة لهذا الوعي المتنامي داخل الذات، كشجرة صفصاف تكبر وتكبر أو هي شجرة جوز تتفرع وتتشعب أو هو العقل في تمدده اللامتناهي… فمن شكَّل الآخر؟ الذات أم اللغة؟ !
وأسأل ذاتي: ما الذي يدعوني إلى استحضار أناي وذاتي في تجربتي وفي حديثي عن موضوع عتبة الوعي في ارتباط مع مدينة باريس؟ ألا يمكن الحديث عن نرجسية متمظهرة ومحبة لهذا الظهور؟
وطبعا فإن النقد الذاتي المتسائل ضروري حتى يكون التناول للموضوع متوافقا مع الاستنتاجات المرغوبة والمشتركة مع الآخر، موضوعية مستهدفة تصل إلى العمق وإلى الذوق وإلى جماليات تصوير ووصف.
هكذا يكون الغرض تحليلا لتجربة إنسانية تجعل التناص والتقاطع وكل مفاهيم الاشتراك الإنساني في الوعي وفي البناء للتاريخ والفهم والمعرفة. هو إيمان بديمقراطية عيش بشري يؤمن باكتمال الأنا بالآخر وبالتفاعل المطلوب بينهما في هذا التكامل.
وإذا كان البيت الشعري يقول: كل يدعي وصلا لليلى وليلى لا تقر لهم وصالا، أو ما جاراه معارضة، فإن الوجه الآخر للموضوعية هو التناول من زاوية وعي الآخر بذاتي وتواصلي، وما المشترك الذي سيجعله يتقاطع معي ويعترف به؟
الآخر. منذ بدأت دراستي الجامعية، كان تعرفي على مجال الدراسات الاستشراقية، وكان اكتشاف مصطلح المركزية الأوربية، وعبره اكتشاف حقل التحليل النفسي والحديث عن مركزية الذات. وبقدر الانبهار بقدر الشعور المرافق بذلك الشرخ الذي تبنيه الأنانيات في تواصلها مع الآخرين. وكان الشرخ في ذلك التواصل المثالي الذي قد يجعلني أعانق قيم وخطاب الآخر. حذر من تكريس تلك المركزية وتكريس مصالحها الممتدة جغرافيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا في ذاتي كما بلدي الذي أعيش فيه. لكن هذا الحذر بقي في تناقض بين القبول والرفض لهذا الآخر، خصوصا وأنني ألمس الذكاء الكبير والناعم في أسلوب مخاطبته ومحاورته والتعبير عن مقاصده وتحقيقها. بينما لا أمتلك منها إلا درجات محدودة، ولا يحضرني في مواجهتها بحكم التأخر الحضاري ونسبة الجهل والقيود التي تكبّل ذاتي أصلا، إلا الانفعال الذي أغلّفه بالتروّي المفترض في الشعور وفي الوعي وفي التعبير والسلوك.
يمتلك الآخر القوة التي لا أمتلكها. يمتلك تماسك الدولة المعقلن والذي لا أرى منه في بلدي سوى العنف المادي والقهر السياسي والخضوع القسري وغياب الحريات والتوافقات الديمقراطية والحقوقية مع الالتزامات: في بلدي !
هكذا أستغرب في تعبير شاعري معقلن في آن. هكذا قد أقف على جانب نهر السين لكي أمُدّ بصري في المدى البعيد الذي سيخترقه الوعي داخل هذا الواقع، تفاعلا بين الذات والموضوع، الذات والواقع الفردي والجماعي، الجغرافي والثقافي والحضاري. في حين، قد أقف في تناقض مشاعري بجانب الضفة الأخرى، شاعرا بغربة وعيش منفى، إن اختياريا أو قسرا. فكيف ستكون حياة المنفى في العاصمة باريس؟ وأي مدٍّ وجزر يشكّل عتبة المنفى على أبواب باريس بين جدلية السياسة والتاريخ في تفاعلهما مع الذات المنفية والمغتربة؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى