عبد الجليل سليمان - ذاكرة عرقي العيش.. قصة قصيرة

يجُرّه من أُذنه تارةً، وأخرى يدفع بنتوءِ أسفل ظهره إلى الأمام، فيثغو التيس الأسود، ويلهث هو لُهاثاً مُتقطعاً كنياطِ قلوبِ العاشقين، المطر يرشح وجهه، يغسل البثور المتناثرة عليه جراء (فقعة) بطريقة قاسية لحب الشباب الذي احتل صفحتيه في مراهقته المبكرة.
يتحسس وجهه، وبسبابته المُقوسةِ يُزيح عنه قطرات المطر، يأخذ نفساً عميقاً، يتذكر إذ ظل يطاردها سنيناً، وتتمنع عنه، يتذكر لقاءهما العاصف على مشارفِ سفح جبل “مكي الشابك”، والشمس ترسل أشعتها المطفأة على وجهيهما كأنها تريد أن تخبرهما بأن أزف الرحيل، رحيلها ورحيلهما، قالت له بصرامة: (هووي يا أب وشاً مطقع زي صحن الطلس، أختا دربي دا، أنا عندي مُستقبل وما فاضية ليك).
وكأن ثُعبان اندفع مارقاً من هامةِ رأسه، تاركاً سُمه يسري في بدنه، انهال عليها صاعاً بصاعين وأكثر: (أخير أنا الطِّقيع دا بتعالج، بعدين أنا راجل، إنتِ الدنيا دي عارفاك وعارفه أنو أمك بتبيع العرقي، والسكارى البتلموا في بيتكم ديل، ما بكونوا…)، وطاخ، هوت على وجهه بصفعة داوية خلخلت ضرس عقله، وأعادته إلى رشده.
(1)
يدفع بمؤخرة التيس الأسود الناتئة، يرفض أن يتحرك، المطر ينهال بكثرة، التيار الكهربائي ينقطع، أرعدت، البرق يخطف ما تبقى من بصرة، يكاد ينهار.
يُمسك بقائم التيس الخلفي، أهو اليمين أم الشمال، لا يتذكر الآن، ويجلس على الأرض اللزجة، يا لتلك الليونه إذ تتسرب أسفلك، تُعيدك إلى طفولتك، إذ لم توفر (لحافاً) إلاّ انفتح عليه صنبورك البيولوجي، كما كان يسميه أخوك الضالع في اليسار. قررت والدتك أن تشتري لك (برشاً)، حتى تنضبط مثانتك فتعيدك إلى اللحاف القُطني الوثير.
(2)
تحسس أداة جلوسك بيد، وتختبر عناد التيس بالأخرى إذ تهز قائمه بحنق، فيرتمي جوارك أرضاً. تكاد دموعك تحاكي المطر، خرير (خور مقاديم) يصك أذنيك، يهرج فيهما مثل (أبي مريومة)، تنهض ويدك ممسكة بقائم التيس، تنهض بقوة، ثم بكلتا يديك ومرة واحدة ترفعه على كتفيك، وتمضي تترنح على الأرض الزلقة، بالكاد تحافظ على توازنك، تئن ويثغو، جسدك يتعرق، وكتفيك تؤلمانك، قواك تكاد تخور.
(3)
كن قوياً، (خليك راجل)، عباراتها المؤلمة لا زالت تغشاك، تماماً كصفعتها الداوية. تُطلق رئتيك بأنفاسٍ مُتقطعة وأنت تطرق باب الفكي “صبو صافي” بعنف، ترخي حواسك كلها لترصد بدقة إيقاع قدمين محتملين، تطرق بعنف، مرة، اثنتيْن، ثلاث، أربع، ثم صوت هامس، يأتيك (أيوه أيوه)، فترفع مفاصل أصابعك الخمس عن لوحِ البابِ المصنوع من بقايا صفيح فارغ يخص (حلاوة طحنية سعد).
(4)
رائحة (عرقي العيش) الفائحة من فمِ ومنخري (حُوار الفكي)، تُنعشك، تستدرك، تتحدث لأحشائك فقط: (هو الفكي اسمو صبو صافي، يعني حوارو، ح يشرب مِحاية)، ثم تُدندن بأُغنيةٍ قديمةِ (عرقي العيش سوّاها فينا).
(فدّل)، أي (تفضل)، يأتيك صوت الرجل الأجش وكأنه حمولة تفوق هذا الكائن الأسود على كتفيك، فتتنزع نفسك بعسرِ شديدِ عن ذكرياتك المؤلمة، ها أنت تضع قدمك اليُسرى على عتبة الباب، وترفع باليمنى إلى الخطوة الأولى نحو (قطية الفكي صبو صافي)، لكن خطوتك تطيح إذ تطيح قدمك في فراغ الأرض الواطئة تحت (العتبة)، فتسقط، ويفزع الذي على كتفيك ويرسل إلى وجهك (رفسة) قويّة، فقأت عينك اليسرى، رفسة غيرت حياتك كلها حتى اسمك انطمس تماماً، لا أحد يعرف اسمك الحقيقي فالكل ينادونك (طافي لمبة).
(5)
حوار الفكي، يتركك مغشياً عليك، وبخطوات مترنحة، وطريقة مضحكة يجري وراء التيس الأسود الهارب، لكن “الفكي صبو صافي” الذي كان يراقب المشهد برمته من كوة صغيرة على باب كوخه (أشبة بالنافذة) زجرة بعنف (إنت يا هارون، تيس دا داخل لجوة، جاري وراهو ليه، أمشي شيف زول واقع دا)، فاستدار “هارون” دورة كاملة، ليفجع بعينك اليسرى وهي تنزف.
إلى مذبحِ القرابين من (ديوك بيضاء، تيوس سوداء، وخراف قرناء)التي تقدم لـ” صبو صافي”، أُقتيد التيس وأنت، وبينما كان “الحوار هارون” الثمل يطأ عنق التيس و(يشلح) مديته الحادة المربوطة على عضلة ذراعه الناتئة، وهو يهلل ويكبر، كان “صبو صافي” يضع خلطة ذات رائحة نافذه على عينك المفقوءة وهو يهمهم بكلمات سحرية.
عنق التيس تحت رحمة السكين، عينك تحت الضماد ذي الرائحة النافذة، غرغرات خروج الروح تصدر عن حلقوم التيس، بينما روح عينك تخرج عن بؤبؤها مرة وإلى الأبد.
(6)
انتظرت حتى توقف المطر، توقف نزف عينك، لكنك فقدتها، لم تمضِ أيام قليلة، حتى صار اسمك (طافي لمبة)، لم تمضِ شهور قليلة حتى اُختُزِل في (طافي). نفحك الفكي “صبو” هكذا كانوا يختزلون لقبه كما يختزلون لقبك، نفحك بعض النفاثات و الطلاسم والأعشاب، و ردد لك بإلحاح طريقة استعمالها ثلاث مراتك (شيف مرة دا مسهور، دا يستهما بي، ودا يشربو شراب، ودا يمدغو مدغ).
خرجت بعين واحدة، وبدون تيس، وتحت سماء صافية كنت تضع يدك على عينك، وتحمل بالأخرى الكيس الورقي المحتشد بالطلاسم، وتمضي إلى بيتك مثقل الخطى، كسير، بعين واحدة واسم جديد.
(7)
ها أنت تولد الآن، عقيقتك تيس أسود، و وسمك عين واحدة.
تكترع كباية عرقي العيش جرعة واحدة، وتحكي: يوم قال لي ( لما لطشتني أم كف، وقالت لي: (هووي يا أب وشاً مطقع زي صحن الطلس، أختا دربي دا، أنا عندي مُستقبل وما فاضية ليك)، قلت إلاّ أعرسها، ود عمي “علي” ساقني لـ” صبو” أداني عروق كدا ” شكل سفوفة”، قال تكشحو في بولها، طوالي تقبل بيك، طبعاً زمان ما كانت في أدبخانات في البيوت، كنا بنطلع الخلا، الرجال بالنهار والنساوين بالليل، أها قمت لبدت ليها، لمن خلصت (زي الناس) قمت كشحت فيهو السفوفة، أقسم ليكم برب الكعبة اليوم التاني جات بيتنا من دُغش الرحمن، قالت لي: لو عايزني اتقدم، ويا هو زي ما انتو عارفين مما اتقدمت ليها ولهسي أنا راجع لورا، لمن بقيت (نص زول).
(8)
يتجشأ “طافي” كأسه السابعة، تنطفئ عينه الأخرى، كعادته يقوس سبابته لينفض عن جبينه العرق برائحة (عرقي العيش)، ثم يدندن بصوت خفيض (ما نسيناك، نسيناك.. جاي تعمل إيه معانا.. بعد ما بدلتنا)، فيرد عليه نديمه (ما سقيناك، سقيناك)، ويتوقفان برهة، ثم يواصلان الأغنية وهما يقهقهان بصوت عالٍ ومتهدج (سقيناك السم الهاري)، ويحضنان بعضهما مُنخرطين في نوبةِ بُكاء طويلة.

قصص قصيرة سودانية: عبد الجليل سليمان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى