كليلة و دمنة عبد الفتاح كيليطو - تقريظ الحيلة (في الأدب العربي الكلاسيكي).. ت: نورالدين بوخصيبي

تلعب الحيلة دورا بالغ الأهمية في كتاب ” كليلة ودمنة” المنسوب لبيدبا. إنها تقابل القوة بالطبع، والضعيف هو الذي يلجأ إليها، بوصفها أداة في يد من هو في وضعية نقص، وهي بهذا المعنى لا تشتغل إلا حيث تنعدم القوة. إن الأسد ليس له من مبرر، سواء في خرافات بيدبا أو في غيرها، للجوء إلى الحيلة، ما دامت قوته تضعه فوق هذا الإجراء. و مع ذلك، فهو حين يجد نفسه مهددا بأسد يخمن أنه أقوى منه أو يكاد، مستضعفا بعامل السن، غير قادر على تدبر وجوده كما يشاء، عندها لا يستطيع فعل شيء آخر غير التسلح بالحيلة، الوسيلة الوحيدة للبقاء. ولكن في هذه اللحظة، هل ما يزال أسدا بالفعل
تفترض الحيلة خطابا مزدوجا: أو إذا شئنا القول، فجوة بين الوجود و مظهر الوجود. و نجد أيضا، في حكايات “ألف ليلة و ليلة” عدة إحالات للثعبان، هذا الحيوان المنشطر… إن الخطاب، باعتبار الموقف الذي يحتله من يتلفظ به، ليست له نفس القيمة. وإذا كانت الشخصية المختلفة لا تكف عن الكلام، والجدال، والحجاج، وقياس الحجة وضدها، فإن ما يفرض نفسه على الملاحظة بقوة أن الأسد هو الأقل ثرثرة بين سائر الحيوانات الأخرى. إن كلام هذا الأخير يستمد قوته من ندرته. عندما يرغب الأسد في مواجهة مشكل معين، يدفع المحيطين به إلى الكلام. إنه سيد الخطاب، ولكن بمعنى أنه يثير الخطاب، يأذن به ويلزمه.
و بصفة عامة، فإن الخطاب يهدف إلى إقرار صحة وجهة نظر معينة، أو قضية ما، وإلى إقناع المخاطب بصلاحية عمل ما.
و من المفروض أيضا أن تكون للمخاطب رغبة في الاستماع. كيف بالإمكان إرغامه على الاستماع؟ باستعماله الحيلة، والحيلة التي تفرض نفسها هنا هي المحكي. المحكي فخ منصوب، حسب تعبير لويس ماران. (2) إنه الحيلة بامتياز. في “كليلة و دمنة” يتجاور التأكيد مع السرد. إن الخطاب الاستدلالي غير كاف لوحده، إنه عاجز عن التدخل بفعالية قصوى إلا إذا كان مرفوقا، ومدعوما بخطاب غير مباشر: المحكي.
لكن من يحكي؟ يمكن تصور موقفين بهذا الصدد: في الموقف الأول يكون الخصمان متساويين ( ابنا آوى مثلا) يرويان حكايات بشكل تعاقبي، ومن يمتلك أكبر حظوظ للفوز هو من يقدم المحكي الأكثر إقناعا.
و في الموقف الثاني، يتموقع المتخاطبان في علاقة تراتبية، أحدهما في مرتبة عالية و الثاني في مرتبة سفلى، أحدهما قوي والثاني ضعيف، أسد وابن آوى مثلا. من يستشعر عندئذ الحاجة لأن يحكي؟ إنه الضعيف بطبيعة الحال . القوي، النافذ، لا يحكي. وإذا كان الأسد، ملك الحيوانات يسمع الحكايات، فهو لايرويها قط. ما ذا هو بحاجة إلى حكيه ، وإلى السعي إلى الإقناع به، في الوقت الذي يستطيع فيه، بضربة قدم واحدة، أن يقضي على مخاطبه؟ إن المحكي، تماما مثل الحيلة، هو سلاح المحتاج. ونحن نجد موقفا مماثلا لهذا في حكايات “ألف ليلة و ليلة” حيث الخليفة لا يروي قط حكاية، إلا إذا خارت قواه، وصار فاقدا لسلطته، ولم يعد أسدا.
والآن، ماذا عن “كليلة و دمنة” بوصفه كتابا، بوصفه مؤلفا مركبا و مرسلا ؟… لمن؟ لأسد. إنه مكتوب بالفعل لملك هو من طلبه. إذ لا ينبغي أن ننسى أن الأسد هو الذي يأذن بالكلام أو يأمر به. و " كليلة و دمنة” ألفه عالم هو بيدبا لأجل دبشليم ملك الهند. وليس من المستغرب أن تكون العلاقة بين الرجلين علاقة جد معقدة.
ومن التيمات الأكثر رواجا في هذا المؤلف، تيمة الخطر الملازم للكلام. ينبغي مراقبة اللسان، والأفضل السكوت. مع هذه المفارقة التي تسجل مع ذلك، وهي أنه للنصح بالصمت من الضروري المرور عبر الكلام.
ليس من الجيد قول الحقيقة. أو إن الحقيقة لا يمكن أن تقال إلا من خلال احترام بعض الشروط القبلية. ذلك ما تعلمه بيدبا الحكيم بالرغم منه. عندما لاحظ أن دبشليم، ملك الهند، يتصرف كمستبد وظالم إزاء الخاضعين له، قصد قصره ذات يوم وأنبه بصرامة ( تيمة كلاسيكية للتأنيب الموجه للأمير). صرح له، بتعبير آخر بحقائقه الأربع. والعاقبة كانت سيئة، فقد رمي به في السجن على الفور، ولم يفلت من الموت إلا بإحكام. كان خطأه ( أو شجاعته، حسب السياق) هو أنه تكلم بشكل مباشر، دون لف أو دوران، مهملا حيلة المحكي. تكلم بلسان واحد عوض اللسان المزدوج للثعبان.
بيد أن الأمير كان بحاجة إلى رجل حكيم، وفي حالة ملك الهند، هناك – و هذا أمر يستحق التسجيل- الحاجة إلى الكتاب، كتاب يظل مرتبطا باسمه ويحتفي بملكه. أعطى الأمر لبيدبا لتحرير كتاب لأجله. ومرة أخرى نلاحظ أن الخطاب تابع للأمير، الخطاب الشفوي والخطاب الكتابي في نفس الآن. في حكايات “ألف ليلة و ليلة” احتالت شهرزاد كي يعبر شهريار عن رغبته في سماع حكايات، أي لكي يأذن لها بالكلام.
ألف بيدبا إذن كتابا لدبشليم. شرع من جديد في تصحيح الأمير وإصلاحه، ولكنه بدأ بتصحيح موقفه الخاص. إنه لن يخاطب الأمير مباشرة، مثلما فعل ذلك حين قام بتأنيبه، ولكنه سيخاطبه بشكل غير مباشر، بوساطة المحكي. إنه يخفي تعليمه خلف الخرافات. هاهنا، كما سجل ذلك ابن المقفع، إحدى الحيل المبتكرة من العلماء الهنود ” ليفهمهم الآخرون” و“للتعبير عن ذواتهم بكل حرية”. ذلك يعني أن الكتاب مزدوج، بمظهرين اثنين، أحدهما بارز للعيان والآخر خفي، وأنه يستدعي بالتالي قراءتين، إحداهما “ للعقول المتسرعة”، والثانية لـ” الفلاسفة”. يتعلق الأمر هنا بفن الكتابة في علاقة بالظلم، إذا نحن استعرنا عبارات ليو ستروس. (3) في سياق يكون فيه الظلم، واقعيا كان أو افتراضيا، فاعلا تغدو الحيلة فنا. والخرافة إحدى المظاهر.
والتحكم في هذا الفن لا يقي مع ذلك دائما ضد التعسف. فابن المقفع، مترجم “ كليلة ودمنة” ومؤلف عدة كتب يبسط فيها قواعد التصرف مع الأمراء، تم إعدامه سنة 757، بأمر من الخليفة العباسي المنصور.

——————

(1) On sait que cet ouvrage, d’origine hindoue, a d’abord été traduit en persan, avant d’être
traduit en arabe par Ibn al-Mugaffà , au Ville siècle. Je me réfère ici à la traduction française
d’André Miquel, Le Livre de Kalita et Dimna , Paris, éditions Klincksieck, nouvelle édition 1980.
(2) Le Récit est un piège, Paris, édifions de Minuit, 1978.
(3) La Persécution et l’art d’écrire , traduction française par O. Berrichon-Sedeyn, Press
Pocket, 1989.


كيليطو.jpeg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى