كليلة و دمنة سعيد محمد سالمين - كليلة ودمنة.. أول كتاب في أدبياتنا السياسية أو «علم تدبير الملك»

لم يكن الصراع بين السلطة والثقافة وليد اليوم في هذا العصر الذي نعيش فيه، بل كان هذا الصراع أزليا، وموغلا في القدم، منذ نشوء السلطة في المجتمعات الإنسانية. ولهذا جاءت الحكاية على لسان الحيوان نمطاً من الأنماط السردية الذائعة في الآداب القديمة. ولعل أهم ما يميزها عن غيرها من الأجناس القصصية أن الحيوان هو الذي يلعب فيها دور البطولة، بل ويلعب فيها دوراً إنسانياً، ومن ثم فإن حكاية الحيوان الأسطورية(التعليلية) تحمل طابعاً إنسانياً، عالمية المضمون، ذلك أنها قادرة ببساطتها البنائية، ورمزيتها المجازية، وعبقريتها الجمالية، وبتراثها في التأويل، على أن تنفذ إلى المتلقي في أي زمان ومكان، على اختلاف مراحله العمرية، ومستوياته الثقافية، وأن ظاهرها و باطنها حكمة.
و اللهو هنا ليس إلا السرد القصصي على لسان الحيوان وغرائبيته، وفيه تكمن قيمها الجمالية والامتاعية، وحكمتها العلمية أو قيمتها التعليمية، والوظائفية، ولاسيما في مواجهة المسكوت عنه سياسياً ودينياً واجتماعياً وأخلاقياً، ومن الوقوع في براثن الصدام المباشر مع السلطة والمجتمع.
و(كليلة ودمنة) هو أول كتاب في تراثنا الحكائي انتقل بقصص الحيوان من مرحلتها الشفاهية إلى مرحلته الكتابية الأدبية ومن هنا تتجلى قيمته التاريخية والفنية، باعتباره أول كتاب قصصي في تاريخ الأدب العربي، مجموع في صعيد واحد، متخصص في فن سردي واحد، هو قصص الحيوان الرمزية، وتضمه حكاية إطارية واحدة هي حكاية دبشليم الملك وبيدبا الفيلسوف «على غرار حكاية شهريار وشهرزاد».

والكتاب في بنيته العميقة وغاياته البعيدة كتاب سياسي على لسان الحيوان، يعكس قصة الصراع الأولي بين السلطة والثقافة «السيف والقلم»، ومؤلفه هو أبن المقفع «ت 145هـ» ولأن الكتاب ينطوي على غايات سياسية تحريضية ضد سلطة بيروقراطية قوية، وقد ادعى أبن المقفع أنه من وضح علماء الهند، وأنه نقله ـ عبر البهلوية الفارسية ـ إلى عربية.
ويقال إن هذا الإدعاء غير صحيح، وأنه زعم ذلك، كما يقول بعض معاصريه ومنافسيه من باب التقية، وهو ما اثبتته الدراسات النصبية المقارنة، بعد العثور على الأصل الهندي. وبالرغم من ذلك، فقد دفع أبن المقفع الثمن غالياً، بمقتله على هذا النحو الفظيع عندما كشف أمره لأبي جعفر المنصور.
وكليلة ودمنة ـ أيضاً ـ هو أول كتاب في أدبياتنا السياسية أوعلم تدبيرالملك»، وفيه نرى أن أبن المقفع لا يكتفي بالسعي إلى تقويض نظرية التفويض الإلهي «حيث الخليفة ظل الله في الأرض» أوبرسم قواعد السياسة الداخلية، بمعنى تحديد الحقوق والواجبات، لكل من الرعية والسلطان، حيث يهدف ـ كما يقول ـ إلى أن «يكون ظاهرة سياسية العامة وتهذيبها، وباطنه أخلاق الملوك وسياستها للرعية»، بل يتحدث كذلك عن رسم السياسة الخارجية، على نحو ما نلمح في باب البوم والغربان (حيث العداوات التاريخية الموروثة بين الدول أو الشعوب ـ قديماً وحديثاً ـ لايفلح معها صلح، وأن سياسة «التطبيع» أحياناً قد تكون ضرورة تكتيكية لا استراتيجية).

ومن المعروف أن الكثير من قصص الحيوان ونوادره تراث شعبي مجهول المؤلف، الأمر الذي يعني قيمة مضافة إلى مساحة الحرية المتاحة خلف الاقنعة الحيوانية، في هذا الأدب، في مجال النقد السياسي والاجتماعي والأخلاق، وما كتاب «كليلة ودمنة» إلا نوع من هذا الأدب السياسي على لسان الحيوان، يعكس قصة الصراع الأزلية بين السلطة والثقافة «السيف والقلم».

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى