كليلة و دمنة عتاب ضاحي - قصص الحيوان في الأدب العربي

تعد القصة على لسان الحيوان أو الخرافة كما يسميها ابن النديم ومن نحا نحوه من القدماء من أقدم أنواع القص ومن الأنماط القصصية الضاربة الجذور في تراثنا السردي العربي تعزى فيه الأقوال والأفعال إلى الحيوان بقصد التهذيب الخلقي والإصلاح الاجتماعي أو النقد السياسي.
حيث كانت الصورة الأولية والبسيطة لحكايات الحيوان في نشأتها الأسطورية مجرد تفسير شعبي غير واقعي لحقائق علمية أو ظواهر طبيعية ثم انتقلت حكايات الحيوان من النشأة الفطرية “ الشعبية- الفولكلورية” إلى المكانة الأدبية السامقة إذ توضع بقصد الموعظة والتعليم وتنطوي على مغزى أخلاقي أو درس اجتماعي أو هدف تربوي أو مضمون سياسي ناقد وذاع هذا النوع نوعاً كبيراً في الآداب العالمية وقد كان للحيوان في الحياة العربية الجاهلية مكانة خاصة ولعل أجلى بيان على ذلك احتفاء الشعر العربي به فقد حفلت قصائد الشعراء الجاهليين بالحديث عن الحيوان فإذا به يحس ويتألم ويشعر بالغربة والحنين.‏
وغني عن البيان ان ابن المقفع هو إمام هذا الفن ورائده في الأدب العربي الإسلامي وأول من نقل هذا الفن القصصي من مرحلته الشفاهية “الشعبية” عند العرب إلى الأدب المدون “الكتابي” من خلال ترجمته لكتاب كليلة ودمنة الذي أثر تأثيراً كبيراً في الفن العالمي وحذا حذو ابن المقفع غير واحد من الكتاب فنسجوا على منواله أو نظموا كتابة شعراً بعد أن أدركوا أهمية ما قام به منهم أبان بن عبد الحميد اللاحقي وسهل بن هارون وعلي بن داود وأبو العلاء المعري ولعل من بين مؤلفات هؤلاء الإعلام ما هو ترجمة عن الفارسية أو الهندية إذ أن كثيراً منهم من أصل فارسي ويتقن لغة قومه.‏ غير أن المصادر لم تفصح في الأعم.
ومن قصص الحيوان في الأدب العربي غير المجموعة في كتاب واحد ما يطلق عليها خرافات الأمثال وقد روت كتب المصادر طائفة منها ولا تختلف عن أمثال كليلة ودمنة سوى أنها رويت مفردة في سياق أو موقف معين وتعد ضرباً من التمثيل الرمزي أو الكنائي الذي يتضح معناه بعد سرده سرداً تمثيلياً كاملاً أي بصورة المثل القصصي.
ولعل ما يلفت النظر في هذا الفن الأدبي هو المغزى الرمزي الذي تنطوي عليه القصص وتشف عنه أحداثها إذ أن ظاهرها لهو وباطنها حكمة بحسب تعبير ابن المقفع ومضمون الحكمة يتمثل في تحقيق الغاية التي يرمي إليها كاتبها فهي إما تربوية تعليمية تستهدف النقد الاجتماعي والأخلاقي من خلال نقد بعض العادات والتقاليد أو تأكيد قيم معينة أو كشف سلوك ما ومن ذلك قصة المثل الذي رواه الميداني وهو “كيف أعادوك وهذا أثر فأسك” ويضرب لمن لا يفي بالعهد في قصة يتجلى عذر الإنسان ووفاء الحيوان.‏
وقد تكون الغاية التي يرتئيها الكاتب سياسة أو مزيجاً من السياسة والاجتماع وهو الأعم الأغلبية إذن إصلاح المجتمع والرقي به تؤدي إلى تقويم سلوك الحاكم والمحكوم معاً على نحو تراعى فيه الحقوق والواجبات.‏
وقد كانت الغاية أو الوظيفة السياسية ماثلة في ذهن القدماء فصنفوا قصص الحيوان ضمن “علم تدبير الملك والسياسة أو السياسة الملوكية أو السلطانية، وكذلك ألمح كتاب هذا الفن إلى هذه الغاية في مقدمات كتبهم أو مضمونها مستعصمين بالحيوان بوصفه ستاراً للنقد السياسي.‏
وقد تمثل ابن خلدون في معرض حديثه عن “أسباب سقوط الدول وخراب العمران” بقصة رمزية على لسان حيوان تفيد أن الظلم مؤذن بخراب العمران” إذا عرض الموبذان صاحب الدين عند الفرس أيام الملك بهرام للملك في إنكار ظلمه وغفلته بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك صوتها وسأله عن فهم كلامها فقال له: إن بوماً ذكراً يروم نكاح نوم أنثى وإنه شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها وقال لها: إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام فتنبه الملك من غفلته وتحفل كثير من قصص الحيوان كما في كليلة ودمنة بالعديد من المبادئ والأفكار والمثل السياسية والإدارية والاجتماعية والتربوية التي تصلح في كثير من الأحيان لكل زمان ومكان ولعل الوظيفة السياسية لا تتمثل في كشف الظلم والفساد بل ربما تتخذ بعض الحكايات والأفكار بمنزلة دستور تعليمي يسير على نهجه الطامحون إلى الحق.‏
وقد رأى بعض الباحثين أن نشأة قصص الحيوان ترتبط أصلاً بالسياسة وأنها تنشأ في عهود الظلم والاستبداد والقهر حينما يكون التصريح سبباً في إثارة غضب الملوك وحنقهم وقد يستدلون على ذلك بأن أشهر كتابها كانوا من العبيد والأرقاء أي من المستضعفين المقهورين.‏
غير أنه ليس شرطاً أن تكون عهود الظلم والاستبداد سبباً في وجود هذه القصص أو خلقها إذ أن كثيراً منها إنما وضع للتسلية والإمتاع وللموعظة الأخلاقية المجردة أو لهدف تربوي تعليمي لا علاقة له بالسياسة ويرادفها البعد عن حدة الوعظ المباشر وصعوبته على النفس التي تشعر بالاستعلاء والفوقية من قبل الناصح.‏
وأخيراً فإن قصص الحيوان توفر للكاتب إمكانات تعبيرية أفضل وهي شكل فني ذو أبعاد دلالية واسعة إذ تتيح للمتلقين فسحة رحبة للتأويل وفقاً لآفاق توقعاتهم أو دائرة اهتماماتهم المختلفة.‏



كليلة ودمنة.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى