كليلة و دمنة نجيب طلال - تأملات ابن المقفع في «الدولة والسياسة»[1]

ما الجديد في كتاب: الدولة، الأخلاق والسياسة؟
بداهة (أي) كتابة تحمل جديدا من خلال جديتها، ومن خلال أنها حرقة واختراق في التاريخ والتأريخ في آن، بحيث المؤلف يكشف لنا من خلال نفض الغبار عن تأملات في آداب السياسة الملوكية التي انبثقت من فكر يبدو لنا الآن (تراثيا) والمتمثل في ابن المقفع، هذا الأخير طواه النسيان بحكم أنه لم ينل حظه في مناقشة ومتابعة أفكاره وتصوراته وتأملاته، في وقته وقبله.

ونلاحظ أن المستشرقين بدورهم لم ينصفوه بحيث بالغ المسيو مرسيه، فحدثني في أحد أيام سبتمبر سنة 1929 أنه لا يعرفه على الإطلاق: يعني ابن المقفع[2]. ومهما يكن الاعتبار، أعتقد أن الدكتور حميد الدليمي سعى لإحياء رمز من رموز المتأملين في كيفية تدبير الرياسة التي لم تكن تجريدية بقدر ما هي عملية، وذلك بتقديم النصح للسلطان انطلاقا من الحجة، علما بأن التأليف السياسي في هذا المجال لم يكم مقرونا بعبد الله، بل هو ظاهرة أقدم ليها كثير من الفلاسفة والحكماء والأدباء، بحكم الوضعية التاريخية والسياسية التي ساهمت بدورها في انزياح الحاكم / الخليفة / السلطان عن مهامه المنوطة به. علاوة على ذلك ظهور (الاستبداد)، إذ جملة من الرسائل وجهت للحكام، مثل:« نصيحة ولي العهد الجديد » لعبد الحميد الكاتب، « العهود اليونانية » لأحمد بن يوسف، « السياسة في تدبير الرياسة » ليوحنا البطريق »، « سلوك المالك في تدبير الممالك » لشهاب الدين ابن أبي الربيع، « كليلة ودمنة » و« سير ملوك العجم »، و« الأدب الكبير والصغير » لعبد الله بن المقفع. والملاحظ أن الأدب الكبير خليق بالعناية؛ فهو كتاب منظم له مقدمة وبابان، أحدهما في علاقة الإنسان بالسلطان، والثاني في علاقة الإنسان بالإنسان[3].
ولكن يبدو أن كل كتب ابن المقفع تندرج في سياق واحد، وذلك لتوجيه القضاء السياسي الذي عم فيه الطغيان والاستبداد، علما بأن الآثار المقفعي يعد أكثر رصانة وجرأة اتجاه السياسة الملوكية. من هنا يفرض المشروع المقفعي على المرء إعادة كتابة تاريخ العلم السياسي، منذ الأصول حتى أيامنا هذه، ولكن مثل إعادة الكتابة هذه يجب أن تحترز من القبليات الإيديولوجية والسطحية التي جردت كتابة تاريخ الأفكار السياسية من طبيعتها[4]. فمن خلال قراءة عادية للكتاب يتجلى أنه يعد (مشروعا) للعلم السياسي، لكن مشروعية المشروع لا تنفلت عن التأملات المقفعية تجاه رهانات السلطة وما تحدثه من مكائد ودسائس سياسية، محررا من الأوهام[5]. ولكن لا يبدو أن الكتاب يمارس نوعا من التغريب الفكري من خلال استحضار ابن المقفع لتمرير خطاب سياسي على شاكلة (بيدبا). هنا يبدو من الصعب إمساك خيوط الطرح، من خلال المعنى، ولكن من خلال المبنى فالطرح وارد باعتبار أن من واجبه أن يصوغ فكره متغلبا على الكراهية والنفور الذين يوحي بهما إليه نفاق الحكومات، وعدم كفاءتها وغطرستها وكيفية استخدامها الدين لأغراض سياسية. الظرف مناسب أكثر من أي وقت مضى بحسبه لترك الكلمة للحكماء، لأهل العقل الذين ظلوا إلى ذلك الحين صامتين عن حذر أو عن وهم[6].
هنا فابن المقفع يعتبر مثقفا وأديبا وحكيما امتطى الوضعية التاريخية والسياسية ليمارس التلميح والتصريح في كتاباته التي هي إفراز لملتقى ثقافتين: الفارسية والإسلامية. علما أن الكتابات في السياسة الملوكية تحمل نفحات فارسية، وحتى بعد ظهور الترجمة يف العصر العباسي الذي تبنى التراث اليوناني، ظهرت كتابات تتشابه مع الآثار الفارسية. فحتى عمر لما أراد أن يضبط نفقات الجند وتوزيع العطاءات المالية، التي كانت الدولة مكلفة بها، لم يجد في الثقافة العربية ما يساعده على القيام بهذه المهمة. وحينئذ أشار عليه بعض الصحابة باستحداث الديوان الذي رأوه عند الفرس، فكان بدعة أثارت فضول الجميع[7]. فحتى السياسة الشرعية التي تولى أمرها أهل الدين لتقديم النصائح للحكام، كما فعل ابن تيمية، الحسن البصر، ومحمد التادلي...
نستشف بأن هناك عدة استبدالات لجملة من الأفكار والآراء الفارسية بنصوص شرعية من القرآن الكريم والسنة المحمدية. وفي هذا الإطار، يعتبر ابن المقفع ابنا للفضاء الإسلامي، ومن الطبيعي أن يتكيف مع محيطه المجتمعي ويتأثر بالمرحلة التاريخية. ومن ثمة، فهو لم يكن في موقف سلبي يحسب عليه، بل خرج من شرنقة الصمت والسلبية ليواجه الحكام من خلال النصح والإرشاد. لكن المثير في تأملاته تمركز حول توظيف (العقل) مؤكدا أنَّ: « على العاقل إذا اشتبه عليه أمران، فلم يدر أيهما الصواب، أن ينظر أهواهما عنده فيحذره »[8]. من هنا، فأطروحة ابن المقفع ترتبط ارتباطا وثيقا بالرأي / العقل، مبعد الهوى عن تأملاته مما ولد إشكالية مختلفة عن تلك التي نجدها عادة في الفكر السياسي الإسلامي، يتغلب الإنسان والدولة والمجتمع على الأمة والشريعة والخلافة، يختفي الدين والميتافيزيقا ليتركا المكان للحرية، للعقل والشأن السياسي والاجتماعي الملموس[9]، وما قلب المفاهيم المفاهيم من (الأمة * الشريعة * الخلافة = الدولة * العقل * الملكية) التي أنتجت إشكالية في الجهاز المفاهيمي للمتخيل الإسلامي. فما هي إلا محاولة لوضع القطيعة بين عهد وعهد وفي الوقت نفسه قطيعة بين الدين والسياسة. وهذا التصور مرتبط جداليا بالوضع الذي أدى إلى غموض الدين بعيد ثورة العباسيين، وبالتالي فابن المقفع يذهب إلى حد إحداث تمفصل بين (الأمة / الدولة)، بحث أن مفهوم الأمة يرتبط بالشرعنة الدينية، ومن ثمة الانفصام بين الدولة والأمة، حينما تحولت الخلافة العباسية إلى ثيوقراطية، وتبنت النموذج الفارسي في مظهرها وتقاليدها ورسومها، واصبح الخليفة يعيد النظام الساساني في قصره، حيث احتجب عن العرية واعتمد على الجيش والشرطة في حكمها وضبط شؤونها[10]. فهذا الوضع استفز ابن المقفع، فسعى إلى مواجهته من منظور عقلاني، مستهدفا بذلك تضئيل المقدس وهدم هلامية جوانية المجتمع، وبالتالي التركيز على اليومي والمعاش بغية تحقيق مشروع حضاري، علما بأنه يلغي المنقول معتمدا على العقل. وفي هذا الباب يدفع المرء بعدم التعلق بأية عقيدة تعلقا أعمى دونما عقل وتفكير / الإيمان، بما لا تعرف والتصديق بما لا تعقل.
وفي باب (برزويه) من كتاب « كليلة ودمنة »، يحاول أن يصل إلى المعرفة اليقينية انطلاقا من الفلسفة باعتبارها أسمى وأرفع من الإيمان الذي هو عنده معرفة ظنية، لكن نلاحظ أن ابن المقفع يعترف له بالوضع الاعتباري نفسه الذي يتمتع به الدين ويرى فيه وسيلة للوصول إلى السعادة في الحياة الدنيا، والعقل يسد (ثغرات) الدين لأنه يتطور بيما الدين ثابت لا يتغير، بدون العقل قد يكون الدين غير نافع[11]، وبالتالي فتأملاته ليست اعتباطية وجزافية، بل تمتلك تعقيدا وواقعية نتيجة ام هو كائن في حركية المجتمع.

الدولة في تأملات ابن المقفع
فالتراجم تؤكد بأن عبد الله بن المقفع لم يكن من الموالي الذين اعتمد عليهم السلطان، ولم يتقلد منصبا سياسيا ثم أقصي منه، بل كان خارج السلطة، ولم يطمح إليها في يوم من الأيام، وبالتالي فتأملاته في الآداب السلطانية لا تخفي نوايا مساندة النظام وطاعته. وما نصائحه الموجهة للأمير إلا نتيجة لما وضع [ابن المقفع] يده عليه من الانحرافات العديدة داخل المجتمع، فصاغ هذا التصور[12]. والتصور يرتكز أساسا على مفهوم الدولة التي يعتبرها مجموع المؤسسات التي تجسد السلطان والمجتمع، وظيفتها ضمان التوازن الاجتماعي والاستقرار السياسي حتى يتمكن كل امرئ من الانشغال بالمهام الخاصة به[13]. وهذا المفهوم الذي يعتبر تفعيليا يحاول من ورائه مأسسة المجتمع، وذلك من خلال تخليق الدولة. وهذا لن يتأتى إلا من خلال تحقيق وظيفة الدولة والمتجلية في الدفاع / التدبير) ونستشف ذلك من خلال تصوره الذي يجزم به أن الدولة قوة، يجب عليها أن تدافع عن نفسها وعن رعاياها، ثم لأن الدولة هي الوسلية التي توصل بها العامة إلى رخائها فإنه يجب عليها أن تتوفر على بنية لتدبير الشأن العمومي وتوزيع الثروة الاجتماعية بكيفية تجنب إفقار الرعايا[14]. لكن، كيف سيتحقق حسن التدبير في ظل أوضاع (استبدادية) بعيد الثورة التي تحمس لها ابن المقفع في البداية، علما بأن تأمل صاحب « كليلة ودمنة » يساهم من حيث لا يدري في أطروحة (الاستبداد) حينما يقترح إنشاء مصلحة الاستخبارات أو الجواسيس يف الدولة، وذلك لسد قصور السلطة السياسية بحيث أن مؤسسة مثل مصالح الاستخبارات إن كانت تلائم الإيديولوجيات التي تميل إلى تقوية الدولة والإيديولوجيات المنشغلة بإثبات النظام[15]، فمتى كان الجهاز الاستخباراتي أو ما كان يسمى (البصاصين) يدفع إلى تقوية الدولة، أليس هو المساهم الأول في تقويضها وخلق الفتن والفوضى في نظامها، بحكم موقعه في نسق السلطة، ومن ثم يساهم في القمع والترهيب، وفي هذا الصدد كيق يمكن للأمير أن يحسن اختيار أشخاص لتسيير هيئة الاستخبارات والانخراط فيها لكي يستطيع السلطان / الملك أن يعرف وضعية شعبه والتيارات التي تتحرك في المجتمع؟ فمن خلال التاريخ الذي يستند عليه ابن المقفع في تأملاته، في أكثر من وضع سياسي كان (الجهاز) وراء الانقلابات ووراء التنصيب، وبالتالي فهيأة المخابرات من ستخدم سلطان (الدين) بمعناه الواسع كما يوضح ابن المقفع أم سلطان (الحزم)؟ إذا كان الأول يرتكز على الدين ليحترم مصالح العامة، والثاني يعتمد على العنف لضمان استقرار النظام؟ تماشيا والواقع الذي يؤمن صاحب (الأدب الصغير) فالجهاز لن يخدم (الأول) ولما سيخدم (الثاني) باعتبار أن الاستخبارات جهاز الأ شرار لأن منطق الظاهر يكشف منطق الباطن حينما يقول: « ولا يجوز أن يفتح للأشرار المجال عن طريق التجسس ليرفعوا الأخبار للملك، ولو سار الملوك على هذا النهج والعياذ بالله، لما أمنت الرعية ولا استراحت، ولما استطاع الملوك أن يتمتعوا ويثقوا بطاعة الناس وخدمتهم »[16]، واقتناعا بهذا فالمسألة تغدو طرحا « يوتوبيا ». والغريب أن نجد البعد المثالي منطرحا قبل الميلاد وفي العصر الوسيط. ولنعد لهيأة المخابرات، فإنها ستخدم سلطان (الهوى) الذي يدينه ويمقته ابن المقفع في أكثر من باب... لأنه يزرع العطالة بين العامة كما بين حاشية الأمير[17] . وبعيدا عن التناقضات التي وردت في التأملات، نجد تأملا رهينا بالتأمل والمتمثل في طرحه مفهوم (الجهرية) بمعناها الحالي، وذلك من خلال طرح (اللامركزية) كتقنية واستراتيجية لضمان استمرار الدولة واستقرارها، لا سيما أن هته التقنية يستقيها بناء على ما صنعه (الأسكندر بإيران) بين أمرائه، لأن ابن المقفع يرى أن «من شأن استراتيجية اللامركزية أن تشكل ضمانة لاستقرار الدولة، بتقديمها اللأمير دعم سكان الأمصار، ومنذ اللحظة التي ستجتمع فيها هذه الشروط سيمكن الحديث عن دولة بالمعى المؤسساتي»[18].

قناعة ابن المقفع
انطلاقا من تملاته التي تبدو متفرقة ومضطربة شيئا ما نتيجة محاولته شكلنة السلطة السياسية الإسلامية على شاكلة الدولة الفارسية تحديدا كقناعة أولى، من خلالها يولي الطاعة المطلقة، لكن بمشروطية... لا يستحق الأمير الطاعة إلا إذا استجاب لتطلعات العامة والمهام المرتبطة بمرتبته[19]. ورغم هذا الشرط، فإنه يؤكد في مسعاه أن لا مكانة (لأي) نظام سياسي سوى (الملكية) لأنها، كما يقول، «هي الضرورة نفسها، ضرورة الحماية والعدالة، وتوطيد نوع من تفوق الكائن[20]. ورغم قناعته بضرورة النظام الملكي باعتباره هو السلطة السياسية ذاتها، فإنه وضع مسافة بين ما هو (كائن) وما يجب أن (يكون) ملوحا[21] نزع القداسة عن السلطان بحيث يشير إلى أنه «ليس من الضروري البحث عن أصول السلطة السياسية في ميتافيزيقا، ولو دينية، غير مؤكدة تماما. السلطة السياسية موجودة هنا. إنها واقع يومي يشكل جزءا لا يتجزأ من الحياة الاجتماعية، يخضع لتجاذباتها وصراعات مكوناتها[22] ليذهب بنا إلى التلويح بإحلال تصور وظيفي للسلطان لأنه، في نظره، « مناط بواجبات سياسية واجتماعية تقيده، بقدر ما تجعله لا يُعوَّض »[23]. والتلويجان يستهدفان إيجاد ملك (نموذجي/مثالي). هذا البعد يميل إلى الأبعاد اليونانية ما دامت مثالية ابن المقفع تركز على انوجاد أمير نموذجي صفاته المثقف / حكيما /سياسيا / فيلسوفا/...، أي مجموع الأفعال، أفعال تجاه نفسه. إنها مجموعة أفعال تميل إلى صنع أخلاق الأمير وجعله صورة لما يتطلبه حكم المجتمع[24]. ونستشف ها هنا أن الرهان السياسي لأمير نموذجي يرتبط بالرهان الأخلاقي، وبالتالي، فالأخلاق لا تنفصل عن الشأن السياسي من وجهة نظر ابن المقفع.

بنــاء النموذج
محاولة إيجاد ما يسمى بالنموذج مطمح كل مفكر / فيلسوف / مصلح... ومما لا شك فيه أن العملية مواجهة وطبيعة الكون، إذ منذ ظهور الخليفة والصراعات قائمة والاختلافات واردة والطوائف حاضرة. ورغم ذلك، فابن المقفع يؤكد على تحقيق (النموذج) وليس بالأمر إلا تحقيق.

العــــدل
يعد قيمة عليا يحتاج إليها المجتمع الإنساني، ومن خلاله يتم بتر الفوضى والجور والخروقات التي يمارسها الفرد، وبالتالي فالعدل ليس مجرد قيمة أخلاقية، وإنما هو بنية على إجماع تلك القيم في الفرد ودليل كماله، ومن ثمة فابن المقفع يؤكد على عدالة لبناء الأمير (النموذجي) باعتبار أن العدل أساس الملك، إذ يحدد في تأملاته: «... للعدل أولا بعد اجتماعي، وهو يدور حول الدفاع عن إنسان الشرط الوضيع ضد الإنسان المتميز بأصوله أو بثروته، وحول معاملة الضعيف والقوي معاملة متساوية وتقويم الأخطاء وإقامة الشروط لهذه العدالة نفسها (...) والحاكم الأفضل هو الذي يكون عادلا تجاه رعاياه [25]، ولكن أليست (العدالة) قيمة معقدة بحكم أنها تلعب دورا اجتماعيا بشكل مباشر يف البنية القانونية / المعرفية / السياسية / الاقتصادية/...؟ وفي ظل هذا التعقيد، فتصور ابن المقفع للعدالة يرتبط جدليا بالطاعة بمعنى أن تحققها يتجلى بتنازل كل الناس عن حرياتهم وتسلم أمورهم لفرد واحد (السلطان) يتمتع بكل الحقوق والسلط. مقابل هذا فالأمير لا دور له إلا في رفع وإبعاد الظلم والجور عن رعيته، وهذا ما يؤدي بابن المقفع إلى القول بأن العدالة فضيلة سلطانية. فهي في شكلها المنمى باستمرار لا تضمن إدراك الأمير مسؤولياته، على نحو جيد فحسب، بل تهيأ بالنصوص شروط قيام المجتمع المثالي[26].

المجتمع المثالـي
إيمانا بأن الإنسان كائن اجتماعي، فإنه لا مناص من وجود مسؤول عن هرم السلطة السياسية والاجتماعية، ينظم العلاقات على أساس نماء وتنمية المجتمع من خلال علائقه. هنا يشترط تأمل صاحب (الأدب الكبير) إيجاد مجتمع مثالي / نموذجي. ولكن بهذا الحلم الحالم، في سياق تمظهرات بورجوازية تولدت على أنقض النمط الإقطاعي الذي مازال فيه شيء من الحضور بعيد الثورة العباسية، وبالتالي فحركية المجتمع لا مفر بانوجاد صراع اقتصادي (المعاش) كما يسميه صاحب التأملات. فالعامل الاقتصادي ونموه ذاك الوقت، أنتج فئات وطوائف وفرقا بورجوازية، وكذا بروز الأقليات مع إحداث الامتيازات وشيوع الأسواق. وهذا كله من الطبيعي أن يفرز (الطبقية) بالمفهوم الحالي، وبالتالي كيف يمكن أن يتحقق مجتمع مثالي في ظل الراهنية الاقتصادية؟ فابن المقفع يجيب: «في الواقع بتحسين الشروط المادية للإنسان، يحسن نتيجة لذلك نمط عيشه[27]. وأعتقد أن خطابه الأخلاقي فيه نوع من المبالغة، انطلاقا من أن الإسلام يعتبر دين (توحيد المجتمع)، ولكن على مستوى العقيدة وليس في (المعاش). فرغم انوجاد الأمير الذي يربطه ابن المقفع بالرخاء والازدهار، فالنمط البورجوازي وصراعه بالنمط الإقطاعي أنتج سلاح الرامي بـ « الزندقة » لتنتهي حياة أهل العقل وذوي الفكر الحر منهم صاحب التأملات.

القانــون
انطلاقا من محاولة النموذجي تقدم « ابن المقفع » بنصائح للمنصور العباسي قصد سن قانون يرجع فيه إلى النصوص المجمع عليها وإلى العدالة. والهدف من ذلك السعي للتوفيق بين تيارين متصارعين: هذين التيارين كان بين المالكية والحنفية خصام ونزاع وفي التشريع[28]. ويحدد أحمد أمين في كتابه أن الخصام راجع إلى الصراع الاجتماعي. ولكن هذا الصراع بين حضور ظاهرة السلطة الفقهية في النسق الإسلامي، لكن ابن المقفع من منظوره يذكي أولوية القانون على الدولة، وذلك من خلال ما في عصره بأن الدولة يتحكم فيها قانون معين. يقصد هاهنا (الفقهي). أما سنة المحدثين، فليست سوى جذور وظلم يجب العمل على محو آثار الظلم قديمة كانت أو حديثة. وهذا الواجب يم رعبر إصلاح هذه القوانين التي تعتبر دينية والحال أنها لا تعدو مجرد أحكام صادرة عن قضاة يسفكون الدماء[29]. وتلك النصائح التي لا تفلت عن تأمل مادي صرف، يدفع بالدولة إلى تحقيق متطلبات ما ينبغي أن يكون، والمتمثل في بناء نموذجي للدولة عبر مأسسة المجتمع الإسلامي.


هوامــــش
[1] كتاب الدولة، الأخلاق والسياسة في السياق العربي الإسلامي للدكتور حميد الدليمي، ترجمة: الأستاذ محمد أسليم، الطبعة الأولى 1999، سندي للطباعة والنشر والتوزيع، مكناس.
[2] النثر الفني في القرن الرابع / ط. 2 / 1931 / ص. 71، مطبعة السعادة، مصر.
[3] حديث الشعر والنثر، المجموعة الكاملة / م الخامس / ص. 600 / ط. 1 / 1973، بيروت.
[4] الدولة والأخلاق والسياسة، ص. 122.
[5] نفسـه، ص. 124.
[6] نفسـه، ص. 124.
[7] مجلة الوحدة للمجلس القومي للثقافة العربية، محور رؤية تقدمية لكتابة التاريخ العربي، عدد 42 / 1988، ص. 66.
[8] رسائل البلغاء، تحقيق محمد علي كرد، ص. 14 / القاهرة 1946.
[9] الدولة والأخلاق والسياسة، ص. 9.
[10] مجلة الوحدة، مرجع سابق، ص. 67.
[11] الدولة والأخلاق والسياسة، ص. 69.
[12] نفسـه، ص. 13.
[13ٍ] نفسـه، ص. 48.
[14] نفسـه، ص. 52.
[15] نفسـه، ص. 56.
[16] نفسـه، ص. 57-58.
[17] نفسـه، ص. 43.
[18] نفسـه، ص. 19.
[19] نفسـه، ص. 24.
[20] نفسـه، ص. 85.
[21] نفسـه، ص. 33-34.
[22] نفسـه، ص. 87.
[23] نفسـه، ص. 95.
[24] نفسـه، ص. 98.
[25] نفسـه، ص. 99.
[26] نفسـه، ص. 102.
[27] ضحى الإسـلام لأحمد أمين، ط. 2، ص. 68-69.
[28] الدولة، الأخلاق والسياسة، ص. 71.
[29] نفسـه، ص. 51.


--------------
نشر هذا المقال، في الأصل، بجريدة «بيـان اليوم»، الجمعة 28 ينايـر 2000

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى