أدب أندلسي صلاح فضل - يا جنة للمنى

كان أول موشح اجتهد العالم الإسباني الكبير إميليو جارثيا جوميث (1905 ـ 1995) في فك شفراته، وقراءة خرجته الرومية هو لابن عبادة الملقي الذي ينتمي إلى القرن الخامس الهجري الموافق للحادي عشر الميلادي، ومطلعه طريف وملغز مثل خرجته إذ يقول:
“من مورد التسنيم/ من سلك فلج/ ذي غروب/ في قَلْتْ
إن ذاقه عاطش/ مُلظّى وحجيب/ أطفأ/ اللهيب/ في الوقت”


والتسنيم هو ماء في الجنة، ينهمر من شقّ متدفق (فلج ذي غروب) من نبع منبثق في الأرض (قلت) إن ذاقه عاطش قد أنهكه لظى الحرّ أطفأ لهيبه، في التوّ واللحظة. لكن جارثيا جوميث يتصرف في ترجمة هذا المقطع للإسبانية، كي يضفى عليه شعرية فائقة تتجاوز صعوبته اللغوية فيجعله هكذا:
“من رحيق جنة عدن/ من عصير الزهور/ الراقد في الغابات
يتذوقه من ينعم/ بلذة العشق/ فيطفئ فجأة لهيبه”


والملاحظ على الصيغة العربية الأصيلة أنها تعمد لمفردات غريبة مثل “قلت” و”ملظى”، لكن الشاعر لا يلبث أن يرق ويصفو في الفقرة الأولى من الموشحة، فيطيل الأشطار التي قصرها في المطلع، ويخفف الصعوبة التي تعمدها في المعجم فيقول:
“أهوى حبيبا دنا/ رقيبه من داره
يمنع أن يُجتنى/ منه جنى أزهاره
يا جنة للمنى/ تُحفُّ بالمكاره
ريح الجنوب أنا/ المصطلى بناره
فبلّغي التسليم/ في طيّ وهج/ يا جنوب/ سلمتِ
ولتسعدي ..../ يلقى الحبيب/ خوف الرقيب/ ذا صمتِ”


والمقطع يتضمن غصنا يتحرر من مفرداته وقوافيه، وقفلا يضاهي المطلع في ترصيعه وتقطيعه، لكنه يمضي على نسق إيقاعي ودلالي ممتع، خاصة عندما يخاطب محبوبه قائلا “يا جنة للمنى” الخ.. ثم يقول في الفقرة الثالثة:
“وأغيد أحورا/ كالغصن لدن الملتطى (القوام)
مهفهف صيَّرا/ قلبي كأجواف القطا
عُلّم أن يحذرا/ لكنه قد أسقطا
فكلما أبصرا/ ثماره تنشطا
لم يُنجه التعليم/ وكيف ينجي/ من رطيب/ في شخت (ضامر)
هيانه الطائش/ على قضيب/ فوق الكثيب/ مُنبتِّ”


ولما كان الشاعر قد انتقل في المقطع الثاني الذي أغفلناه لخطاب من يسمى “أبا عمرو” كي يعينه على تحمل هذا الوجد القاتل بالحسان، فإنه يبدو في هذا المقطع الثالث كمن يستأنف الحديث عن معشوقه، مركزا الوصف هذه المرة على قلبه الذي يخفق بالحب بعنف، دون أن يلتفت لما تعلمه من ضرورة الحذر، لكنه كلما أبصر ثمار الجمال والحسن نشطت مشاعره دون أن ينجيه التعليم من مصيره، وكيف له أن ينجو من فتنة من تبدو مثل الغصن الطيب الضامر، فتثير هيام من يرقبها وهى تهتز فوق عجيزة ممتلئة مثل كثيب الرمل. أما أهم ما في هذه الموشحة فهو القفل الرومي الذي تختتم به، والتمهيد الذي يقوم بين يديه.


د. صلاح فضل



صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى