أدب أندلسي صلاح فضل - ليس في الهوى عار

كان الأعمى التطيلي يمزج في موشحاته بين مدح النساء بالغزل ومدح الأمراء برقة تفوق الغزل نعومة وظرفا، وكان يتغنى بجمال الممدوحات والممدوحين ويشغف بهم حبا، وكثير من قصائده تتوزع على هذين الطرفين بالتساوى، لكنها تختتم غالبا بالحديث عن فتاة عاشقة قامت تغني كاشفة عن وجدها وصبابتها، فالحب الأندلسي في مجمل تجلياته كان حسيّا حرا لا يلجأ للعذرية البدوية المشرقية سوى في النادر، فالوصال متاح، والمجتمع المختلط في أعراقه ودياناته ولغاته يسمح بهوامش عريضة من الحرية، أما الموشح الذي قرأنا في الأسبوع الماضي مطلعه المثير للتأمل (أنا والجمال/ وهم وما اختاروا) فيمضي فيه قائلا:
“قمري وشمسي/ كلما دجا زمني
لو ملكت نفسي/ لم أهن ولم أهن
دون ذاك أمسي/ وإليك فامتهن
حبذا دلال/ ليس عنه إقصارُ”

والطريف أن نموذج الجمال في المشرق العربي كان هو القمر ذو الضوء الفضي البارد الحنون في بلاد القيظ، بينما كانت الشمس في الأندلس والبلاد الباردة تعتبر مثلا أعلى للجمال، لكن شاعرنا يجمع بينهما في شطرة واحدة، فالمحبوب قمره كما جرت بذلك عادة الشعر العربي المشرقي، وشمسه أيضا كما يشعر به في الأندلس، وهو لا يستطيع أن يمسك عن حبه مهما كان فيه هوانه، بل كلما تدلل عليه أسرف في الولع به، فالمذلة في الحب عز وكبرياء وهي نتيجة الدلال.
“زين كل زين/ والذي وسمتَ به
ضاع كل دين/ قمت دون مطلبه
في يديك حيني/ فاقضه أو اقض به
صرّح الخيال/ ليس في الهوى عارُ”

ويحتمل هذا المقطع أن يكون استمرارا للحديث عن المعشوق، أو انتقالا للتغزل في الممدوح، فنغمة الغزل واحدة في كلتا الحالتين، وتركيزه على الجمال مستمر، فهو زين كل حسن، وفى يديه القضاء له أو عليه وجدا أو حاجة، فهو على كل حال يعلن هواه وولاءه، وليس في هذا أي عيب أو عار، أما أن يكون الخيال هو الذي يصرح بذلك فإنه هو المقابل الصوتي للدلال والمقال والاحتمال والجمال في الأبيات السابقة، ثم يختم الموشحة بقوله:
“لم أشب لسنّ/ يقتضي بي الكبرا
أنت حلت مني/ ما رأى الصبا وترا
ثم أن تغني/ كي تقرّ بي الخبرا
إست مال مالو/ طال علىّ قمارُ”

فهو لم يدركه الشيب لكبر سنه، بل لأنه قد حلت عليه نكبات الصبا في معاناة العشق، ثم ينتقل للأغنية الرومية التي ينبغي أن يختم بها الموشحة الأصلية، فتترنم الفتاة بكلمات أعجمية “إست مال” أي هذا الشر الذي يصيب العشاق دائما ليس منه بد، وأظن أن كلمة “ طال” تحريف لكلمة “ تال” التي تعني “هكذا يحدث دائما” وهنا نلاحظ ظاهرة لافته في الخرجات الأعجمية هي أن روايتها وكتابتها بالعربية تؤدي إلى تحريف نطقها كي تتوافق مع كلمات عربية مفهومة، لكن يظل هذا الإبهام في الختام مناط سر الموشحات ومصدر سحرها الدائم.



* جريدة الاتحاد



صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى