أدب أندلسي صلاح فضل - لا بد لي منه

تستمر الموشحة التي أملاها الأعمى التطيلي وجعلها مذيلة بجملة قصيرة تصلح لترجيع الجوقة المغنية عقب كل مقطع فتقول:
“أهلا وإن عرّض بي للمنون
بمائس الأعطاف ساجي الجفون
يا قسوة يحسبها الصب لين
علمتني كيف أسيء الظنون
مذبان عن تلك الليالي القصار
كأنما بين جنوني عرار نومي غرار”

يرحب الشاعر بمحبوبه وإن كلفه ذلك حياته، فهو يجمع بين القد المتمايل عجبا والجفون الساجية حياء ورقة، على أنه يتميز بصلابة يظنها العاشق لينا، ثم يلتفت الشاعر لخطاب المعشوق فيقول له إنك علمتني كيف أسيء الظن بالحياة، عندما غبت عن لياليّ التي كانت قصيرة، وأصبحت شديدة الطول بعدك، كأن جفوني قد حشيت بنبات العرار، مما حرمني النوم. ونلاحظ لعبة التقابل المنتظمة في أنساق الصيغ والإيقاعات، والأساليب والدلالات هي التي تضفى سحر الشعرية على هذه الأبيات، ثم يتابع:
“حكمت مولى جار في حكمه
أكنى به لا مفصحا باسمه
فاعجب لإنصافي على ظلمه
واسأله عن وصلي وعن صرمه
ألوي بخطى عن هوى واختيار
فكل أنس بعده باختيار طوع النفار”

من الطريف أن كلمة المولى في العربية تعني العبد والسيد طبقا للسياق الذي ترد فيه، والشاعر يقول إنه قد ترك زمامه وتبع من جار في حكمه، وهذه صيغة قابلة لأن تصح على المحبوب وعلى الحاكم الممدوح، وقد كان الوشاحون الأندلسيون مغرمين بهذا النوع من التمويه، فشاعرنا يحافظ على سرية اسم محبوبه أو ممدوحه إنصافا له مع أنه يشكو من ظلمه، ويستعين بالمتلقي كي يسأله عن الهجر الذي يقابل به وصل الشاعر ووده، ومع ذلك فهو راض بحظه. وبوسعنا أن نلاحظ استمرار الشاعر في توظيف لعبة التقابل على كل المستويات لتوليد عدد متصاعد من المفارقات المركبة.

أما المقطع الأخير، وهو الذي يتضمن الخرجة الأعجمية، وتأتي دائما مسبوقة بما يشير إلى أن المحبوبة أخذت تشدو بها، باعتبارها أغنية شائعة، فهو:
“لا بد لي على كل حال
مولى تجنى وجفا واستطال
غادرني رهن أسى واعتلال
ثم شدا بين الهوى والدلال
حبيبي مريض بعشقي
وكيف لا يصيبه الاعتلال
وهو محروم من قربي
لابد له أن يطال”

والنكتة الشعرية هنا هي اعتمادا لكلمة القشتالية الإسبانية “ كا دي استار” بمعنى “ لا بد له” مركزا لقافية الأغصان كلها، من أول “ ماء ونار” حتى “ طوع النفار” بإدخال الحروف الأعجمية ـ وهي هنا الراء ـ في بنية القوافي العربية الرائية، مما يجعل الشعر تمثيلا لبنية المجتمع في امتزاج الأعراق والأديان واللغات، الأمر الذي يجعله مجتمعا متحضرا ثريا باختلافه وتعدده، كما تنشده المجتمعات المعاصرة في رقيها الحضاري في العصر الحديث.


صلاح فضل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى