الأستاذ الحوماني - الفن والروح

الفن في الأثر بدعة، وفي المؤثر بدعة وإبداع

فهو في قول إحدى جواري العباسيين وهي تقلب تفاحة أهداها إليها سيدها

يا رب تفاحة خلوت بها ... تشعل نار الهوى على كبدي

لو أن تفاحة بكت لبكت ... من رحمتي هذه التي بيدي

هو بدعة أنشأها الفكر بين عاطفة الحب ودقة التصوير، وإما الفن في الشاعرة نفسها فهو بدعة الجمال وإبداع الخيال

ففي الطبيعة في الإنسان جمال تام، وفي غيره جمال ناقص

والفن في الزهرة مثلا شكل ولون وعطر، إذاصح أن العطر في الزهرة مقابل الروح في الفنان، وهذه كل ما في الزهرة من جمال، ولكن الفن فيك - إلى هذه الثلاثة - فكرة تخلق الزهرة في نفسك جميلة الشكل واللون والعطر

الفن في المرئيات نتيجة الفكر والجوارح، وإما هو فيما وراء ذلك فقد يكون وليد الفكر كالفن في الشعر، وقد يكون نتاج الفكر والجوارح أيضا كالموسيقى والخطابة ونحوها

تستطيع أن تتصور حبيبك تصورا تاما، وإما أن تصفه للسامع وصفا دقيقا، أو أن تتناول الريشة وترسم ما تتصور فذلكما ليس في طوقك ما لم تكن فنانا في الشعر والرسم. من ذلك يتضح لديك الفرق بين العلم والفن، فنواة العلم أن تتصور، وإما نواة الفن فأن تتصور ثم تتصور. فتصورك المسألة علم، ثم تصورك إياها فن. من ذلك تدرك فضل الفن على العلم وأنه احفل منه بالخلود

فالأثر الذي ينشأ عن الفكر وهو يكشف عن حقيقة ستار الجهل هو دون الأثر الذي ينشأ عن الفكر وهو يخلق الحقيقة خلقا

فليس للحكمة أن تهب الخلود للشعر وهو عار عن الفن، ولعل النظم الفصيح القاصر على الحكمة بعيد عن حظيرة الشعر للفرق بين قوله:

كبير النفس تلقاه ... هزيل الجسم من سقم

وقول الآخر في معناه: إذا سمنت همة في الضلوع=فآيتها البدن الناحل

فليس الجمال في بيان أن هزال الجسم في عظام الرجال ينم على كبر نفوسهم، فقل من تأخذه الروعة لهذه البيان، إذ هو حقيقة مجردة، والعلم بالحقيقة المجردة أزلي في النفوس، ولكن إلباس هذه الحقيقة لونا من الخيال يجعلها حقيقة ثانية لم يسبق لها وجود في النفس فتظهر بها في مظهر الروعة والجلال.

فقد لحظ الفكر في البيت الأخير بعد تصوره المعنى الحقيقي الثابت وهو استلزام كبر النفس إجهاد الجوارح، واستلزام هذا نحول الجسم. . . لحظ الفكر ما يقابل النحول وهو السمن، فشاء أن يجعل السمن الذي هو مقابل النحول علة له وهو من الغرابة بمكان، ثم لحظ الهمة التي هي مناط الطموح المفضي إلى إجهاد النفس فاسند إليها السمن بجامع العظمة بينه وبين الكبر، فصح له إذ ذاك أن يعلل به النحول، فكان من المجموع ذلك خيال يوهم النفس انه حقيقة جديدة فيستهويها بما يبتدعه من خلق ما لم يكن وإيهامها انه قد كان

وإما الفكر في البيت الأول، فقد مر بالحكمة فأبرزها عارية من جمال الفن، فكانت بعيدة عما يصعد بها إلى سماء الشعر، ثم يطبعها على مرآة النفس حية خالدة

فالشعر البسيط المعنى، هو بجمال فنه اعلق بالنفس الشاعرة منه بجلال معناه، وهو بعيد عن جمال الفن

والنفس بطبعها ميالة إلى البحث عما تجهل (حب الاستطلاع) من اجل ذلك يستهويها الغريب فتعلق به حتى إذا الفته وأحاطت به هجرته وملت صحبته، فهي والحقيقة الراهنة قيد حواسها، تتشوف إلى ما وراء الحقيقة، فإذا أخفقت فزعت إلى الفكر فراح يعبث بها ويملأ زواياها إعجابا بما يصوره من أخيلة تتراءى لها حقائق جديدة

فإذا علمت أن الحياة إنما هي حكمة وفن، وأن الحكمة نواميس يسنها في الطبيعة المبدع الأول، وفي الاجتماع المبدع الثاني، وأن الفن هو ما فيهما من جمال، وأن مناط هذه الحكمة العقل، والعقل عرضة للزوال، ومناط ذلك الفن الروح، والروح الخالدة؛ إذا علمت ذلك علمت أن الفن إنما هو قوام الحياة الأسمى، فلم نكن لنرتاد المروج والحدائق لو لم تؤخذ العين بسحر ما في زهورها وشجرها وثمرها من جمال الفن، ولا لندخل منزلا لم تسبغ عليه يد الفن جمالا يستهويك بين آرائك تتخللها المناضد، تعلوها الآنية على احدث فن يجلل الجدار بالرسوم، والأرض بالفراش والرياش

وقد يستهويك ما تسمع وترى من جمال الفن فيك فيخلق فيك فكرة الإبداع، فيسوغ لك إذ ذاك أن تقول: أن الفن في الأثر بدعة وإبداع ايضا، على انه إبداع الفن في النفس، يؤول إلى إبداع النفس في الفن آخر الأمر

ثم أن للفن في المسموع لطف وقع على السمع، وبعد اثر في أعماق النفس، لن يتوفر في الفن المنظور من حيث تراك وأنت تسمع الصوت الجميل فتهتز، تتصور جمال العازف وهو بعيد عنك بجسمه، وقريب منك بروحه الموقعة على الأوتار ينقلها إليك الحاكي، أو يبعثها إلى روحك توقيع الفنان من وراء الستار، فيتوفر لديك مؤثران: الفن الذي نحسه، وجمال الفنان الذي تتخيله ضرورة انك لا تلحظ الصوت وأنت ترى الشخص الجميل، بينما لا تسمع الصوت الجميل إلا وتتصور جمال الشخص من ورائه

الروح في الفن

في كل كائن ثلاث ميز: جنسه، ونوعيته، وذاته؛ ففي الإنسان مثلا ما يميزه من العجماوات وهي إنسانيته، ثم ما يميز من غيره من أبناء نوعه وهي شخصيته. والشخصية هنا هي ما يميز الشخص من أفراد نوعه في شكله لا في روحه، فالروح لا تلمس إلا بآثارها، ولا يمكن للرسام وهو الشاعر الصامت أن يصورها وهي متصلة بالروح (سر الحياة الغامضة) ولكنه يستطيع إبراز شخصية النوع كآثار النفس الناطقة لما يدل عليها من أمائر تبدو على أسرة الوجه، ورسم الأعضاء على كيفية تشير إلى النفسيات بما عودت الناظر عليه في حقيقة الحي قبل رسمه

فريشة الرسام لا تتناول رسم الأعضاء بما يميز الشخص في جنسه أو نوعه فحسب حتى تتناول شخصيته أي تميزه من غيره من أفراد نوعه، ومناط التفاضل بين أولي الفن إنما هو في إبراز هذه الشخصية مشفوعة بميزة النوع

فإذا لم تقرأ في الرسم ما يقفك عل خصائص نوعه كآثار النفس الناطقة في الإنسان من حيث تفكيره وعواطفه، ثم نسبة هذه الخصائص الكلية في النوع إلى الخصائص الجزئية في الشخص، فلن تستطيع أن تقف من هذا الرسم على روحتلمس من وراءها جمال الفن فيه فالروح في فن التصوير هي أن تجمع إلى خصائص النفس النوعية فيما تصور خصائصها الشخصية التي يمتاز بها الفرد من غيره من أبناء نوعه

فإذا توفرت هذه في الرسم خلق في نفسك - وأنت تراه - الروعة بما يمثل لك من حقيقة في الخارج حتى كأنك تلمسها بروحك

وهكذا هي - أي الروح - في تصوير الأشياء: جمال في الرسم يلمسك حقيقة ما أوخذ عنه لما تجدك معه معجبا بما تنصفح من خيال رائع

أما الرسوم الخيالية (كاريكاتور) كرموز الآلهة وصور الشياطين ونحوها فمناط الإبداع فيها انفعال نفس الناظر إليها بما خلقت له كالجمال والحب والخير والشر في رسوم الآلهة، وكالإرهاب والتفكهة والحمل على السخرية فيما عداها من الرسوم فروح هنا هي تأثير الرسم في النفس بما رسم له ليصح معنا أن الروح في كلا الأمرين: نقل الحقيقة وخلقها، إنما هي إلماس الرائي حقيقة ما ينقل الراسم أو حقيقة ما يتخيل والروح الفنية تختلف باختلاف فنونها، فالروح في فن الرسم هي غير الروح في فن النظم، والروح في هذين غيرها في فن الموسيقى، فهي في الرسم منتزعة من المرسوم، وإما في المنظوم فهي منتزعة من الناظم. إذ الشاعر يصور غيره في طريقه إلى تصوير نفسه، وإما الرسام فيصور نفسه في طريقه إلى تصوير غيره، فنظم الشاعر مرآة تريك نفسه ونفس الرسام مرآة تريك رسمه

وبأوضح من هذا إنك وأنت تدرس فن الرسم تتلمس روح الفن من حيث اتصالها بالمرسوم قبل الراسم، وفي درسك فن الشعر تتلمس روح الفن من حيث اتصالها بالشاعر قبل ما يشعر به، من أجل ذلك تراك شديد الحرص على معرفة الشاعر لدى سماعك قطعة من شعره هي غاية في الإبداع، بينما ترى الصورة الجميلة على الجدار فتفتتن بها من حيث فنها، ثم لا تجدك شديد الميل إلى معرفة من أبدعها. فلحاظك الشاعر وهو يستهويك بشعره، فوق لحاظك الرسام وأنت تعجب بما يرسم

على أن الفرق بين روحي فن الرسم وفن الشعر جد دقيق، لدقة الفرق بين الرسام والشاعر، ولعل الرسام شاعر صامت

فالرسام وهو يصور لك الحقيقة في الخارج تصويرا حقا هو ابلغ أثرا في الفن منه وهو يخلق حقيقة ما يرسم، وإما الشاعر فمناط خلوده أن يخلق ما يصوره من الحقائق، لما مر بك من أن الفن إنما هو إبداع، على أن كليهما مبدع كما سيجيء

فليس للفنان في الرسم مهما أبدع في خلق الصور الخيالية (كاريكاتور) ما للفنان في الشعر وهو يتخيل فينتزع لك من الصور الحقيقة صورا خيالية يوهمك إنها حقيقة جديدة

وإذا قصرنا إبداع الفنان في الرسم على تصوير الحقيقة الخارجية تصويرا بالغاً فليس معنى ذلك أن الفنان لم يأت بجديد فيكون هذا القول معارضاً لما سبق من أن الفنان يخلق الحقيقة خلقا، لانا نعتبر تصويره البالغ للحقائق هو خلقا جديدا لها، إذ يوهمك انه عين ما يصور من حقيقة، فيكون هذا الإيهام إبداعا يشير إلى حقيقة ثانية خلقها فكر الفنان.

فالحقيقة التي يخلقها الفنان إما أن تكون متحققة في الخارج مادة وشكلا ثم يصورها لك بشكلها ومادتها حتى كأنك تحس بها حقيقة فيثير فيك الإعجاب لما يوهمك من إنها هي فكأنما قد خلقها خلقا، أو أن الحقيقة التي يخلقها هي نفس الإيهام مشفوعا بما يبعثه فيك من الروعة ولإعجاب

وأما أن تكون تلك الحقيقة المخلوقة متحققة في الخارج مادة لا شكلا كالخيال الذي يبدع الشاعر فانه ينتزع من صور الحقائق الخارجية حقيقة جديدة يوهمك إنها موجودة في الخارج كما في قول ابن خفاجة في نارنجة

وحاملة من بنات القنا ... أما ليد تحمل خضر العذب

وتندى بها في مهب الصبا ... زبرجدة أثمرت بالذهب

فالزبرجد والأثمار والذهب كل منها موجود في الخارج، ولكن الشكل الذي أبدعه الخيال منها وهو أثمار الزبرجد بالذهب هو غير موجود في الخارج ولكنه من خلق الخيال.

فالإيهام أذن لا يفارق الفن في الشعر والرسم، فمناط الإعجاز في فن الرسم هي الحقيقة الأولى، ومناط الإعجاز في فن الشعر هي الحقيقة الثانية، وقد يعجز الشاعر في تصويره ما في الخارج من حقيقة كما قد يعجز الرسام في إبداع ما يخلق من حقيقة ليس لها وجود في الخارج

والروح في فني الشعر والموسيقى مصدرها واحد وهو العاطفة، على أن الروح في فن الرسم مصدرها الفكر والخيال، والفرق بين الروح الشعرية وروح الفن الموسيقى هو أن مظهر هذه هو الصوت من حيث توقيعه وترجيعه، ومظهر تلك هو اللفظ من حيث يبعث في نفسك ما انفعلت به نفس الشاعر وهو يلفظه، وهذه الروح التي نفرق بينها وبين روح الفن الموسيقى، إنما هي الروح التي تقابل الفن والعلم في الشعر لا الروح التي هي داخلة في قوام الفن في الشعر، فان في الشعر روحين أحدهما داخلة في قوام الشعر وهي هذه المعبر عنها بالتأثير النفسي المنتقل باللفظ من نفس الشاعر إلى نفس السامع أو المطالع كما تنقل الأوتار تأثيرات الموقع عليها إلى سامعها

وثانيتهما داخلة في مفهوم فن الشعر وهي المعبر عنها بالذوق الشخصي في الشاعر ينقلها اللفظ من حيث تصويره للحقائق منقولة أو متخيلة، وهذه تتفق مع الروح في فن الرسم من حيث المصدر، فكلتاهما تصدر عن الفكر والخيال

فالروح في فن التصوير تتفق مع الروح في فن الشعر من حيث مصدرهما وهو الخيال والفكر , وتختلفان من حيث إعجازهما في الإبداع؛ فالأولى إنما تعجز في نقل الحقائق، والثانية إنما تعجز في خلقها

والروح الشعرية التي تقابل العلم والفن تتفق مع الروح في فن الموسيقى من حيث المصدر الذي هو العاطفة، وتختلفان من حيث المظهر، فان مبعث التأثير في نفسك من الأولى هو الصوت من حيث التوقيع والترجيع، ولا مدلول له إلا انفعال النفس من ورائه، وإما مبعث التأثير من الثانية فهو اللفظ من حيث نقله التأثير إليك بواسطة حروفه لا صوته

فمدلول الصوت طبيعي من حيث يتناول ما يختلج في الصدر بلا واسطة، ومدلول اللفظ وضعي يتناول روح اللافظ بواسطة مدلوله الخارجي

فلا بد لنا أذن من العود إلى أن نعيد قولنا في الشعر من أنه علم وفن وروح، فقوام العلم الفصاحة، وقوام الفن الخيال، وقوام الروح العاطفة


للأستاذ الحوماني أستاذ الأدبالعربي بكلية طرابلس

مجلة الرسالة - العدد 27
بتاريخ: 08 - 01 - 1934

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى