نشر في الأهرام اليومي يوم 02 - 04 - 2010
دخل دون داميان بسرعة مرحلة فقدان الوعي مع ارتفاع درجة حرارته الي ما فوق39 درجة وأحسست روحه بعدم الارتياح بدرجة خطيرة كما لو أنها تقريبا تحترق, ولذلك فلقد بدأت تستمع نفسها وتنسحب باتجاه القلب, وكانت الروح تمتلك عددا لايحصي من المجسات مثل أخطبوط بأقدام لاتحصي, بعضها في الشرايين والأخري رفيعة جدا في الشعيرات الدقيقة للأوعية الدموية وشيئا فشيئا كانت تدفع بتلك الأقدام للخارج وكانت نتيجة لذلك أن تغيرت حالة دون داميان فأصبح جسمه باردا ووجهه فقد لونه ولقد بدأ البرد في يديه وبعد ذلك في ذراعيه وساقيه والوجه بدأ يشحب بشكل فظيع وهذا الأمر بدأ يلاحظه الأشخاص المحيطون بسريره البالغ الفخامة, وانتبهت الممرضة الخاصة به وأصيبت بالفزع فقالت ان الوقت قد حان لاستدعاء الطبيب وسمعت الروح هذه الكلمات وفكرت: يجب علي ان أسرع وإلا فإن وإلا فإن هذا السيد سيأتي ويجبرني علي أن أبقي هنا تحرقني الحمي.
بدأ نور الفجر يشقشق, ومن خلال زجاج النوافذ تسلل ضوء واهن ليعلن ميلاد يوم جديد, وأطلت الروح من فم دون داميان, الذي بقي مفتوحا الي حد ما ليسمح بمرور القليل من الهواء لا حظت الروح الضوء وقالت لنفسها انها اذا لم تتحرك بسرعة فلن تستطيع أن تقوم به لو تأخرت أكثر من ذلك ولابد ان الناس ستراها خارجه فتعرقل مغادرتها لجسد صاحبها, وكانت روح دون داميان جاهلة تماما لما يخص عدة أمور, فمثلا هي لاتعرف أنها ما أن تتحرر دفعة واحدة حتي تكون النتيجة ألا أحد يمكن ان يراها مطلقا.
كان هناك هرج ومرج لوقت طويل من النساء وهن تحمن حول السرير البالغ الفخامة حيث يرقد المريض, وقلن كلمات طائشة لم تهتم الروح بأن تسمعها لأنها كانت منشغلة بكيف ستهرب من سجنها, ودخلت الممرضة وحقنة مما تعطي تحت الجلد بيدها:
أي يا إلهي ياإلهي أرجو ألا يكون ذلك متأخرا!! علا صوت الخادمة العجوز لكنه كان متأخرا ففي الوقت نفسه التي كانت تنغرس فيه إبرة الحقنة في ذراع دون داميان كانت الروح قد اخرجت من الفم آخر مجساتها, وفكرت الروح بأن الحقنة تكلفة بلا حدود وبعد فترة قصيرة سمعت صرخات شتي وخطوات مندفعة وبينما كانت أحداهن ومن المؤكد انها الخادمة, لأنها لايمكن ان تكون قد صدرت من الحماة أو زوجة دون داميان إندفعت في العويل فوق السرير والروح انطلقت في فضاء الحجرة متجهة مباشرة الي المصباح الزجاجي المصنوع في بوهيميا والمعلق في منتصف السقف وهناك قبضت عليه بكل قوة ونظرت الي الأسفل تحتها: دون داميان وقد صار بالفعل جثة صفراء, بقسمات وجهه التي استحالت تقريبا في صلابة وشفافية زجاج بوهيميا, وعظام وجهه بدت أكثر بروزا وجلده اتخذ لمعة منفرة وبجواره كن يتحركن الحماة, والسيدة, والممرضة, بينما الخادمة العجوز تنخرط في البكاء وهي تدمن وجهها في الأغطية والروح عرفت تماما ما الذي تفكر فيه كل واحدة منهن, وما الذي تشعر به إلا أنها لم تحب أن تضيع الوقت في مراقبتهن كان الضوء يزداد كل لحظة, وكانت هي خائفة من أن يلمموها في المكان العالي, حيث هي موجودة جاثمة علي المصباح متشبثة به وبها خوف لايوصف وفجأة رأت حماة دون داميان تأخذ ابنتها من ذراعها وتمضي بها الي الطرقة, وهناك قالت لها بصوت شديد الخفوت.
وهنا الكلام الذي سمعته الروح.
لاتتصرفي الآن بشكل فيه قلة حياء, وعليك أن تظهري أنك متألمة.
عندما يبدأ الناس في الحضور, ياماما قالت لها الابنة هامسة.
لا من الآن وتذكري أن الممرضة يمكن ان تحكي عن كل شئ فيما بعد
وعلي الفور جرت الأرملة حديثة الترمل الي السرير كالمجنونة وهي تقول:
داميان, داميان يازوجي, آي ياداميان يازوجي! كيف سأقدر علي الحياة بدونك؟ يادميان ياحياتي؟
روح أخري في عالم أقل خبرة كان يمكنها أن تصعق من الدهشة, لكن روح دون داميان هذه تشبثت بالمصباح, وأعجبت بالطريقة التي لعبت بها الدور لأن دون داميان نفسه كان يلعب بعض الأدوار في مناسبات معينة, وفوق كل شئ كان يلعب الدور, لما خطط له دفاعا عن مصالحي والأرملة تبكي الآن دفاعا عن مصالحها, فهي مازالت شابة وجذابة, وعلي العكس منها دون داميان فهو قد تعدي الستين من عمره, وفي بداية تعرف دون داميان بها, كان لها خطيب, وقد عادت روحه في بعض الفترات بشكل بالغ السوء بسبب الغيرة من الحبيب المجهول, واسترجعت الروح تلك الفترة التي استمرت لعدة شهور عندما واجهته وأعلنت إمامه بوضوح:
- أنت لن تستطيع منعي من أن أكلمه فأنت تعرف أنني تزوجتك من أجل أموالك.
مما دفع دون داميان بأن يرد عليها بأنه قد اشتراها حتما بأمواله, لكن ليس لتجعله مثارا للسخرية, لقد كان مشهدا كريها للغاية, ومع تدخل الحماة كانت هناك تهديدات بالشروع في الانفصال, باختصار كانت لحظة سيئة, زادت سوءا للظروف التي جعلت المناقشة تتوقف فجأة وبشكل قاطع عندما حضر بعض الضيوف وكان علي الزوجين أن يرحبا بهم بابتسامات آسرة وباشكال بالغة الرقة مما جعلها هي فقط, وروح دون داميان تظهر قيمتها الحقيقية.
كانت الروح لاتزال موجودة عاليا فوق المصباح تسترجع مثل تلك الحوادث عندما وصل بسرعة شديدة القسيس ولم يعرف أحد لماذا أحضر في مثل هذا الوقت فالشمس لم تكد تستكمل شروقها والقسيس كان قد قام بزيارته خلال الليلة الماضية.
لقد جئت لأنني تساورني الشكوك, فجئت لخوفي من أن يسلم دون داميان الروح دون اعتراف حاول أن يشرح سبب حضوره.
وحماة المرحوم والتي لم تكن تثق فيه, سألته.:
لكن ألم يعترف الليلة الماضية يا أبانا؟
كانت تشير بذلك الي ان السيد القسيس وكان خلال مايقرب من الساعة في لقاء منفرد خلف باب مغلق مع دون داميان في الليلة الماضية.
وكل واحد اعتبر ذلك أمرا مفروغا منه, وهو أن الرجل المريض قد أفضي بالاعتراف غير ان ذلك لم يكن ماحدث. والروح تعرف ان ذلك لم يكن, وبالطبع فانها تعرف ايضا لماذا حضر القسيس في مثل هذا الوقت الغريب فموضوع الحديث في هذا الاجتماع الطويل كان يفتقر, الي حد بعيد, للجانب الروحي, فالقسيس كان يريد من الدون داميان أن يخصص قدرا كبيرا من أمواله وقفا من أجل الكنيسة الجديدة التي تبني في المدينة, في الوقت نفسه كانت رغبة الدون داميان ان يترك من أمواله قدرا أكبر من ذلك وليس لما كان القسيس يريده, بل من أجل مستشفي, ولم يتوصلا بالتالي الي اتفاق, وغادر القسيس وما أن وصل الي بيته حتي اكتشف الأب أنه لايحمل ساعته وياله من أمر عجيب ذلك الذي حدث للروح اذا تحررت مرة واحدة وتلك القدرة التي صارت لها علي أن تعرف أمورا. يحدث أمامها, وان تتوصل بحدسها الي مايمكن أن يفكر الناس فيه أو يمكن ان يفعلونه لروح قد عرفت ماقاله الروح بينه وبين نفسه: أذكر انني أخرجت ساعتي في منزل دون داميان حتي أعرف كم كانت الساعة في ذلك الوقت, ومن المؤكد أني تركتها هناك إذن فالزيارة في مثل هذه الساعة الغريبة لن تجدي شيئا يمكن أن نراه يتصل بملكوت السموات.
لا, لم يعترف كان هذا رد القسيس وهو ينظر مباشرة الي حماة دون داميان لم يصل الي أن يعترف ليلة أمس, وأبقيناه الي حين أن آتي اليوم في الساعة الأولي لكي يعترف وربما يتناول القربان, لقد جئت بعد فوات الأوان, وإنها لخسارة كبيرة قال ذلك بينما يتلفت بوجهة الي الأركان والمناضد المذهبة وهو يأمل بلا شك في أن يري الساعة فوق واحدة منها.
والخادمة العجوز, والتي كانت تعتني بدون داميان لأكثر من أربعين عاما, رفعت رأسها فظهرت عيناها حمراوان من البكاء.
بعد كل شيء فسيدي لم يخطيء أكدت وليسامحني الرب لم يكن في حاجة الي الاعتراف لأن له روح حلوة, له روح حلوة للغاية دون داميان.
ياللعجب! إن هذا بالفعل شيء يثير الاهتمام! فلم تفكر أبدا روح دون داميان بأنها كانت حلوة, فصاحبها عمل أشياء معينة نادرة, ومثلما كان نموذجا جميلا للرجل الثري, ويرتدي ثيابه علي أكمل وجه, واتسمت إدارته بنظرة ثاقبة للغاية في معاملاته في البنك, ولم تكن روحه تجد وقتا للتفكير فيما اذا كانت حلوة أم قبيحة, ومثالا علي ذلك, فقد تذكرت للحظة كيف أن صاحبها أمرها أن تشعر بالراحة عندما يعد مقابلات مجهدة مع المحامي, وجد دون داميان طريقة لأن يحتال علي أحد المدينين ويستولي علي بيته فضلا عن أن هذا المدين لم يكن له مكان ليعيش فيه بعد ذلك أو عندما بسلطان الأحجار الكريمة وبمساعدة بالنقود لأخذ الدروس, أو لعلاج صحة الأم المريضه لشابة جميلة من أحياء العمال رضيت بأن تزوره في شقته الفاخرة التي يحتفظ بها لنفسه, فهل كانت روح حلوة أم روح قبيحة؟
منذ أن نجحت في أن تحرر نفسها من شرايين صاحبها حتي صارت موضوعا يذكر من جانب الخادمة كان قد مر حسبما قدرت الروح, وقت قصير جدا, دون المحتمل أن يكون الوقت الذي مر أقل مما تخيلته, لأن كل شيء قد حدث بأقصي سرعة, وفي فوضي هائلة: فلقد أحست بأنها تطبخ داخل الجسد من المرض وأدركت أن درجات الحمي ستستمر في تصاعدها, قبل أن ينصرف, بعد أن تجاوز الوقت منتصف الليل بكثير, كان الطبيب قد صرح لهم بقوله:
يمكن أن ترتفع حرارته عند طلوع النهار وفي هذه الحالة, عليكم أن تراقبوه بعناية, واطلبوني إذا طرأ أمر مقلق.
هل كان علي الروح أن تترك نفسها تحترق؟ لقد كانت هذه هي مشكلتها الأساسية, وإذا كانت تلك هي النهاية المحتملة, التي كانت قد اقتربت من أمعاء دون داميان, والتي كانت تنبعث من الأمعاء حرارة كالنار, وإذ ا ظلت الروح باقية في جسده فسينتهي بها الأمر إلي أن تهلك مثل حيوان مشوي, ولكن كم مضي بالفعل من الوقت منذ غادرت جسده؟ لقد مر وقت قصير, إذ أنه مازال لم يحس بأنه تخلص من السخونة بالرغم من البرودة الخفيفة المنعشة التي انتشرت مع طلوع النهار. قفزت راقية نفسها فوق الأواني الزجاجية للمصباح المطبوعة في بوهيميا التي وجدتها في مكانها. فكرت بأن الاختلاف في المناخ لم يكن كثيرا بين أحشاء صاحبها السابق وآنية المصباح الزجاجية, وبفضل أنه مثله فلم تصب بالزكام, لكن مع أو بدون اختلاف كبير, ما الذي كان من الكلمات التي قالتها الخادمة؟ حلوة قالتها الخادمة العجوز. الخادمة العجوز كانت امرأة صادقة, وهي التي تحب سيدها لأنها تحبه, ليس من أجل صورته المميزة, وليس لأنه يعطيها هدايا, ولم يبد للروح إخلاصا فيما سمعته واستمر, إذ أكد القسيس:
واضح أنه كانت له روح حلوة.
وأكدت الحماة:
كلمة حلوة قليلة بالنسبة له, ياسيدي.
وتلتفتت الروح لتنظر وتري كيف أنها, بينما هي تتكلم, كانت تغمز بعينها لابنتها في مثل هاتين العينين وفي مرة واحدة أمر ولعنة, بدتا تقولان: إنهاري باكية في هذا الوقت نفسه, ياعبيطة, لا تتصرفي هكذا حتي لا تكوني عرضة لأن يقول عنك القسيس أنك سعيدة بموت هذا البائس, والابنة فهمت في الحال باللغة الصامتة والحادة, ثم انخرطت في البكاء وهي تندب بشكل مؤلم:
أبدا, أبدا ما وجدت روح حلوة أكثر من روحك! أي يادميان يارجلي, يادميان يارجلي, يانور حياتي!
لم تتحمل الروح أكثر من ذلك, كانت ترتجف من الفضول والاشمئزاز, أرادت أن تتأكد دون أن تضيع ثانية واحدة إذا ما كانت حلوة, وأرادت أن تبتعد عن مكان كل واحد فيه يحاول أن يخدع الآخرين, فضولية ومشمئزة, وإذن, فقد قفزت من عند المصباح مباشرة إلي الحمام, والذي كانت حوائطه مغطاة بمرايا كبيرة, لقد حسبت جيدا المسافة لكي تقع فوق السجادة بحيث لا تحدث صوتا, فضلا عن أنها تجهل أن الناس لا يمكنهم أن يروها, فالروح تجهل أنها ليس لها وزن, وأحست بارتياح بالغ عندما لاحظت أنها عبرت دون أن يلاحظها أحد, وجرت حزينة, وجمعت نفسها أمام المرايا.
لكن ويالعظمة الرب, ما الذي حدث؟ أول ما تبادر لذهن الروح أنها كانت قد اعتادت طوال أكثر من ستين عاما أن تري الأشياء حولها من خلال عيني دون داميان, تلكما العينان اللتين كانتا بارتفاع يزيد علي المتر والستين سنتيمترا, أيضا اعتادت أن تتطلع إلي وجهه المفعم بالمرح, وإلي عينيه الصافيتين, وشعره اللامع بدرجات اللون الرمادي, والزهو الذي ينتفخ به صدره, والملابس الفخمة الغالية التي يرتديها دائما, لكن ما تشاهده الروح الآن ليس فيه إطلاقا شيء مما كان, بل شيء غريب يصل طوله بالكاد إلي قدم واحد, باهت, أقرب إلي سحابة رمادية, بلا شكل محدد, وبدلا من أن يكون لها بالضرورة ساقين وقدمان مثلما كان لجسم دون داميان, كان الموجود عنقود شنيع من الأطراف الحساسة كتلك التي لأخطبوط, إلا أنها غير متناسقة, بعضها أقصر من الأخري, وبعضها أرفع, وكل منها يبدو مخلوقا من دخان داكن متسخ, من وحل مائع لا يمكن الإمساك به, يبدو شيئا, لكنه ليس كذلك, وتبدو الأطراف رخوة تتدلي فاقدة القدرة, وهائلة القبح.
لقد أحست روح دون داميان بالضياع, ومع ذلك فقد واتتها الشجاعة لأن تتطلع إلي أعلي, فلم تجد لها, في الحقيقة, خصرا, ولا جسما, ولا عنقا, ولا شيئا بالمرة, وحيث كانت تلم نفسها, ظهر لها مجرد أذن ملتصقة بجانب من جانبيها, أذن تبدو في بروزها مثل قشرة تفاحة معطوبة, كما ظهرت كومة من الشعر الخشن علي الجانب الآخر بعضها أكرت, وبعضها واقف, إلا أن ذلك لم يكن أسوأ ما في الأمر, ولا حتي كان الأسوأ ذلك الضوء الغريب الأصفر المائل إلي رمادي, والذي ينبعث منها, لكن الأسوأ في الحقيقة كان شكل فمها, الذي لم يكن سوي تجويف عديم الشكل أقرب إلي أن يكون نقرة, ممتلئ بالبثور كفاكهة أصابها العطب, شيء مقزز مثير للفزع, وفي عمق تلك النقرة عين تلمع, عينها الوحيدة التي تتطلع من جوف الظلال إلي الخارج بتعبير يجمع بين الخوف الشديد والمكر.
كانت المرأة لاتزال هي والقسيس في الغرفة المجاورة, حول السرير الذي يتمدد فيه المتوفي, والذي قالت عنه إن روحه حلوة!
كيف يمكنني أن أسير في الطريق وأنا بهذا الشكل؟.
سألت الروح نفسها وهي تلملم نفسها في نفق مظلم من الفوضي, ما الذي كان عليها أن تعمله؟ لقد رن جرس الباب, وعندها صاحت الممرضة: إنه الطبيب ياسيدتي, سأذهب لأفتح له, وعلي الفور انخرطت زوجة دون داميان في الانتحاب والعويل مرة أخري, منادية علي روح زوجها الميت, وهي تندب قسوة الوحدة التي تركها فيها.
صعقت الروح أمام صورتها الحقيقية, مدركة أنها قد ضاعت, فقد اعتادت أن تستتر في مأواها بطول جسم دون داميان, واعتادت علي كل شيء, بما في ذلك رائحة الأمعاء الكريهة, وسخونة أحشاء البطن, وانزعاجها من نوبات البرودة, ونوبات الحمي, وفيما هي غارقة فيه سمعت الدكتور وهو يحييهن, وصوت الحماة يعلو بالصراخ:
آه يادكتور, أي مصيبة هذه التي حلت بنا!
اهدئي ياسيدتي, اهدئي.. رد عليها الطبيب.
أطلت الروح علي غرفة المتوفي, هناك, وحول السرير تكومت النساء, والقسيس يتلو صلواته عند قدميه, والروح قاست المسافة وقفزت بسهولة لم تكن تعرف أنها تمتلكها, وهبطت علي الوسادة مثل نفخة هواء, أو حيوان غريب قادر علي أن يتحرك دون أن يحدث صوتا, ولا أن يتمكن أحد من رؤيته, وكان فم دون داميان مازال مفتوحا فتحة صغيرة, وكان باردا برودة الجليد, لكن ذلك لا أهمية له, فقد تسللت الروح إلي داخل الفم ثم بدأت تدفع أطرافها بقوة لتستعيد مكانها, وكانت لاتزال تمكن لنفسها من الاستقرار كي تحل في الجسد عندما سمعت الدكتور يتحدث إلي الحماة:
لحظة واحدة, ياسيدتي, من فضلك.
واستطاعت الروح أن تري الدكتور بالرغم من عدم وضوح الرؤية بدقة, اقترب الطبيب من جسد دون داميان وأمسك بمعصمه, بدا عليه القلق والارتباك, انحني بوجهه علي صدره ووضعها عليه لبرهة, وعندئذ فتح حقيبته وأخرج سماعته, وبتأن بالغ ثبت طرفي السماعة في أذنيه, ووضع قرص السماعة فوق الصدر, فوق المكان الذي يوجد فيه قلب دون داميان, وتزايد اهتمامه أكثر فرفع السماعة وركنها جانبا, وأخرج حقنة وأمر الممرضة أن تملأها, بينما كان هو يربط قطعة خرطوم رفيع من المطاط حول ذراع دون داميان.
فوق الكوع, كان يتصرف بمزاج ساحر علي وشك أن يؤدي خدعة مثيرة, وعلي ما يبدو أن هذه التحضيرات تسببت في إزعاج الخادمة العجوز فتساءلت:
لكن لم تفعل هذا كله, إذا كان هذا المسكين قد مات؟
نظر إليها الطبيب بتعال, وما قاله موجها الكلام إليها, لم تكن هي وحدها المقصودة بأن تسمعه, بل كان من يسمع, وفوق كل شيء زوجة وحماة دون داميان.
ياسيدتي, الطب هو الطب, وواجبي هو أن أعمل أقصي ما يمكنني حتي أعيد الحياة إلي دون داميان, فأرواح حلوة مثل روحه لاتأتي كل يوم, ولا يمكن أن يترك ليموت حتي نحاول لآخر ما عندنا.
هذا الكلام المختصر الذي قيل في هدوء شديد, وبعظمة, قلب حال الزوجة, ولم يكن من الصعب أن يلاحظ لمعانا باردا في عينيها, ورعشة شديدة في صوتها وهي تسأل:
لكن أليس هو ميت؟
كانت الروح قد حلت بالفعل بكاملها في الجسد, وفقط كانت هناك أطراف ثلاثة تتلمس مكانها إلي أوردة شاخت, ولم تكن تسكنها من سنوات, والانتباه الذي أولته هذه الأطراف لتوجهها لأماكنها الصحيحة, لم يمنعها في الحقيقة من سماع ذلك السؤال المزعج, حيث لم يكن من الواجب أن يسأل, ومع ذلك فقد لاحظت الفضول من اللهجة التي طرحت بها الزوجة السؤال.
لم يجب الطبيب علي السؤال, أمسك بذراع دون داميان وبدأ يدلكه براحة يده, وفي ذلك الوقت أخذت الروح تحس بأن حرارة الحياة أتت لتحتويها, وتتخللها لتملأ الشرايين التي شاخت وكانت قد غادرتها هربا من الحرق, عندئذ وفي وقت موقوت مع بدء انبعاث هذه الحرارة كان الطبيب يغرس إبرة الحقنة في أحد الأوردة بالذراع ويفك قطعة الخرطوم المطاطي من فوق الكوع, ويبدأ في دفع سن إبرة الحقنة شيئا فشيئا, وبدأت موجات خفيفة من حرارة الحياة تصعد إلي جلد دون داميان, وهمهم القسيس:
معجزة, ياسيدي, معجزة!
ثم فجأة, وأمام هذه القيامة من الموت, سحب وجه القسيس, وأطلق لخياله العنان, إذ أصبح التبرع لبناء الكنيسة, ولابد, شيئا مؤكدا, وإذن كيف يمكن لدون داميان أن ينكر مساعدته التي قدمها له, وفي فترة أيام النقاهة, كيف رأي عودته إلي الحياة مرة أخري بعدما صلي من أجل هذه المعجزة؟ إن الرب التفت إلي رجاءاتي وأخرجك من القبر يادون داميان, هذا ما قاله.
وفجأة أيضا أحست الزوجة بأن عقلها قد انمحي منه كل شيء, فنظرت بضيق إلي وجه الزوج واستدارت راجعة إلي أمها, كانتا مصعوقتين, ومصابتين بالخرس, ومفزوعتين, وممتلئتين رهبة.
لكن الطبيب ظل مبتسما, راضيا تماما من نفسه, علي الرغم من أنه يحاول ألا يظهر ذلك.
أي, نعم لقد أنقذ, الشكر للرب ولحضرتك! هللت الخادمة العجوز في الحال, وعيناها ممتلئتان بالدموع من شدة الانفعال, ممسكة بيد الطبيب وهي تؤكد له:
لقد أنقذ, وردت له الحياة! آي, إن دون داميان لن يجد ما يكافئك به ياسيدي!
بالضبط, في ذلك كان يفكر الطبيب, في الذي لدي دون داميان مما هو أكثر من اللازم ليكافئه به, لكنه قال شيئا آخر, قال:
حتي لو كان لا يملك ما يكافئني به, كنت سأقوم بما قمت به, لأن هذا واجبي نحو المجتمع, أن أنقذ روحا حلوة مثل روحه.
كان يوجه حديثه للخادمة العجوز, لكنه, وللمرة الثانية, كان يقصد بكلامه الآخرين, علي أمل أنهم سوف يرددونها أمام الرجل المريض حالما يتحسن فيعمل بنصيحتهم.
لقد أرهقت روح دون داميان من كثرة الأكاذيب التي لا نهاية لها, فقررت أن تنام, وبعدها ندت عنه تنهيدة واهنة ورأسه تتحرك فوق الوسادة, وقال الدكتور:
والآن فإنه سيستغرق في النوم لعدة ساعات, ولابد له أن يرتاح تماما.
وحتي يضرب لهم مثلا طيبا يقتادون به, إذ يتعلمون منه كيف يوفرون الراحة لدون داميان, تسلل خارجا من الغرفة وهو يمشي علي أطراف أصابع قدميه.
دخل دون داميان بسرعة مرحلة فقدان الوعي مع ارتفاع درجة حرارته الي ما فوق39 درجة وأحسست روحه بعدم الارتياح بدرجة خطيرة كما لو أنها تقريبا تحترق, ولذلك فلقد بدأت تستمع نفسها وتنسحب باتجاه القلب, وكانت الروح تمتلك عددا لايحصي من المجسات مثل أخطبوط بأقدام لاتحصي, بعضها في الشرايين والأخري رفيعة جدا في الشعيرات الدقيقة للأوعية الدموية وشيئا فشيئا كانت تدفع بتلك الأقدام للخارج وكانت نتيجة لذلك أن تغيرت حالة دون داميان فأصبح جسمه باردا ووجهه فقد لونه ولقد بدأ البرد في يديه وبعد ذلك في ذراعيه وساقيه والوجه بدأ يشحب بشكل فظيع وهذا الأمر بدأ يلاحظه الأشخاص المحيطون بسريره البالغ الفخامة, وانتبهت الممرضة الخاصة به وأصيبت بالفزع فقالت ان الوقت قد حان لاستدعاء الطبيب وسمعت الروح هذه الكلمات وفكرت: يجب علي ان أسرع وإلا فإن وإلا فإن هذا السيد سيأتي ويجبرني علي أن أبقي هنا تحرقني الحمي.
بدأ نور الفجر يشقشق, ومن خلال زجاج النوافذ تسلل ضوء واهن ليعلن ميلاد يوم جديد, وأطلت الروح من فم دون داميان, الذي بقي مفتوحا الي حد ما ليسمح بمرور القليل من الهواء لا حظت الروح الضوء وقالت لنفسها انها اذا لم تتحرك بسرعة فلن تستطيع أن تقوم به لو تأخرت أكثر من ذلك ولابد ان الناس ستراها خارجه فتعرقل مغادرتها لجسد صاحبها, وكانت روح دون داميان جاهلة تماما لما يخص عدة أمور, فمثلا هي لاتعرف أنها ما أن تتحرر دفعة واحدة حتي تكون النتيجة ألا أحد يمكن ان يراها مطلقا.
كان هناك هرج ومرج لوقت طويل من النساء وهن تحمن حول السرير البالغ الفخامة حيث يرقد المريض, وقلن كلمات طائشة لم تهتم الروح بأن تسمعها لأنها كانت منشغلة بكيف ستهرب من سجنها, ودخلت الممرضة وحقنة مما تعطي تحت الجلد بيدها:
أي يا إلهي ياإلهي أرجو ألا يكون ذلك متأخرا!! علا صوت الخادمة العجوز لكنه كان متأخرا ففي الوقت نفسه التي كانت تنغرس فيه إبرة الحقنة في ذراع دون داميان كانت الروح قد اخرجت من الفم آخر مجساتها, وفكرت الروح بأن الحقنة تكلفة بلا حدود وبعد فترة قصيرة سمعت صرخات شتي وخطوات مندفعة وبينما كانت أحداهن ومن المؤكد انها الخادمة, لأنها لايمكن ان تكون قد صدرت من الحماة أو زوجة دون داميان إندفعت في العويل فوق السرير والروح انطلقت في فضاء الحجرة متجهة مباشرة الي المصباح الزجاجي المصنوع في بوهيميا والمعلق في منتصف السقف وهناك قبضت عليه بكل قوة ونظرت الي الأسفل تحتها: دون داميان وقد صار بالفعل جثة صفراء, بقسمات وجهه التي استحالت تقريبا في صلابة وشفافية زجاج بوهيميا, وعظام وجهه بدت أكثر بروزا وجلده اتخذ لمعة منفرة وبجواره كن يتحركن الحماة, والسيدة, والممرضة, بينما الخادمة العجوز تنخرط في البكاء وهي تدمن وجهها في الأغطية والروح عرفت تماما ما الذي تفكر فيه كل واحدة منهن, وما الذي تشعر به إلا أنها لم تحب أن تضيع الوقت في مراقبتهن كان الضوء يزداد كل لحظة, وكانت هي خائفة من أن يلمموها في المكان العالي, حيث هي موجودة جاثمة علي المصباح متشبثة به وبها خوف لايوصف وفجأة رأت حماة دون داميان تأخذ ابنتها من ذراعها وتمضي بها الي الطرقة, وهناك قالت لها بصوت شديد الخفوت.
وهنا الكلام الذي سمعته الروح.
لاتتصرفي الآن بشكل فيه قلة حياء, وعليك أن تظهري أنك متألمة.
عندما يبدأ الناس في الحضور, ياماما قالت لها الابنة هامسة.
لا من الآن وتذكري أن الممرضة يمكن ان تحكي عن كل شئ فيما بعد
وعلي الفور جرت الأرملة حديثة الترمل الي السرير كالمجنونة وهي تقول:
داميان, داميان يازوجي, آي ياداميان يازوجي! كيف سأقدر علي الحياة بدونك؟ يادميان ياحياتي؟
روح أخري في عالم أقل خبرة كان يمكنها أن تصعق من الدهشة, لكن روح دون داميان هذه تشبثت بالمصباح, وأعجبت بالطريقة التي لعبت بها الدور لأن دون داميان نفسه كان يلعب بعض الأدوار في مناسبات معينة, وفوق كل شئ كان يلعب الدور, لما خطط له دفاعا عن مصالحي والأرملة تبكي الآن دفاعا عن مصالحها, فهي مازالت شابة وجذابة, وعلي العكس منها دون داميان فهو قد تعدي الستين من عمره, وفي بداية تعرف دون داميان بها, كان لها خطيب, وقد عادت روحه في بعض الفترات بشكل بالغ السوء بسبب الغيرة من الحبيب المجهول, واسترجعت الروح تلك الفترة التي استمرت لعدة شهور عندما واجهته وأعلنت إمامه بوضوح:
- أنت لن تستطيع منعي من أن أكلمه فأنت تعرف أنني تزوجتك من أجل أموالك.
مما دفع دون داميان بأن يرد عليها بأنه قد اشتراها حتما بأمواله, لكن ليس لتجعله مثارا للسخرية, لقد كان مشهدا كريها للغاية, ومع تدخل الحماة كانت هناك تهديدات بالشروع في الانفصال, باختصار كانت لحظة سيئة, زادت سوءا للظروف التي جعلت المناقشة تتوقف فجأة وبشكل قاطع عندما حضر بعض الضيوف وكان علي الزوجين أن يرحبا بهم بابتسامات آسرة وباشكال بالغة الرقة مما جعلها هي فقط, وروح دون داميان تظهر قيمتها الحقيقية.
كانت الروح لاتزال موجودة عاليا فوق المصباح تسترجع مثل تلك الحوادث عندما وصل بسرعة شديدة القسيس ولم يعرف أحد لماذا أحضر في مثل هذا الوقت فالشمس لم تكد تستكمل شروقها والقسيس كان قد قام بزيارته خلال الليلة الماضية.
لقد جئت لأنني تساورني الشكوك, فجئت لخوفي من أن يسلم دون داميان الروح دون اعتراف حاول أن يشرح سبب حضوره.
وحماة المرحوم والتي لم تكن تثق فيه, سألته.:
لكن ألم يعترف الليلة الماضية يا أبانا؟
كانت تشير بذلك الي ان السيد القسيس وكان خلال مايقرب من الساعة في لقاء منفرد خلف باب مغلق مع دون داميان في الليلة الماضية.
وكل واحد اعتبر ذلك أمرا مفروغا منه, وهو أن الرجل المريض قد أفضي بالاعتراف غير ان ذلك لم يكن ماحدث. والروح تعرف ان ذلك لم يكن, وبالطبع فانها تعرف ايضا لماذا حضر القسيس في مثل هذا الوقت الغريب فموضوع الحديث في هذا الاجتماع الطويل كان يفتقر, الي حد بعيد, للجانب الروحي, فالقسيس كان يريد من الدون داميان أن يخصص قدرا كبيرا من أمواله وقفا من أجل الكنيسة الجديدة التي تبني في المدينة, في الوقت نفسه كانت رغبة الدون داميان ان يترك من أمواله قدرا أكبر من ذلك وليس لما كان القسيس يريده, بل من أجل مستشفي, ولم يتوصلا بالتالي الي اتفاق, وغادر القسيس وما أن وصل الي بيته حتي اكتشف الأب أنه لايحمل ساعته وياله من أمر عجيب ذلك الذي حدث للروح اذا تحررت مرة واحدة وتلك القدرة التي صارت لها علي أن تعرف أمورا. يحدث أمامها, وان تتوصل بحدسها الي مايمكن أن يفكر الناس فيه أو يمكن ان يفعلونه لروح قد عرفت ماقاله الروح بينه وبين نفسه: أذكر انني أخرجت ساعتي في منزل دون داميان حتي أعرف كم كانت الساعة في ذلك الوقت, ومن المؤكد أني تركتها هناك إذن فالزيارة في مثل هذه الساعة الغريبة لن تجدي شيئا يمكن أن نراه يتصل بملكوت السموات.
لا, لم يعترف كان هذا رد القسيس وهو ينظر مباشرة الي حماة دون داميان لم يصل الي أن يعترف ليلة أمس, وأبقيناه الي حين أن آتي اليوم في الساعة الأولي لكي يعترف وربما يتناول القربان, لقد جئت بعد فوات الأوان, وإنها لخسارة كبيرة قال ذلك بينما يتلفت بوجهة الي الأركان والمناضد المذهبة وهو يأمل بلا شك في أن يري الساعة فوق واحدة منها.
والخادمة العجوز, والتي كانت تعتني بدون داميان لأكثر من أربعين عاما, رفعت رأسها فظهرت عيناها حمراوان من البكاء.
بعد كل شيء فسيدي لم يخطيء أكدت وليسامحني الرب لم يكن في حاجة الي الاعتراف لأن له روح حلوة, له روح حلوة للغاية دون داميان.
ياللعجب! إن هذا بالفعل شيء يثير الاهتمام! فلم تفكر أبدا روح دون داميان بأنها كانت حلوة, فصاحبها عمل أشياء معينة نادرة, ومثلما كان نموذجا جميلا للرجل الثري, ويرتدي ثيابه علي أكمل وجه, واتسمت إدارته بنظرة ثاقبة للغاية في معاملاته في البنك, ولم تكن روحه تجد وقتا للتفكير فيما اذا كانت حلوة أم قبيحة, ومثالا علي ذلك, فقد تذكرت للحظة كيف أن صاحبها أمرها أن تشعر بالراحة عندما يعد مقابلات مجهدة مع المحامي, وجد دون داميان طريقة لأن يحتال علي أحد المدينين ويستولي علي بيته فضلا عن أن هذا المدين لم يكن له مكان ليعيش فيه بعد ذلك أو عندما بسلطان الأحجار الكريمة وبمساعدة بالنقود لأخذ الدروس, أو لعلاج صحة الأم المريضه لشابة جميلة من أحياء العمال رضيت بأن تزوره في شقته الفاخرة التي يحتفظ بها لنفسه, فهل كانت روح حلوة أم روح قبيحة؟
منذ أن نجحت في أن تحرر نفسها من شرايين صاحبها حتي صارت موضوعا يذكر من جانب الخادمة كان قد مر حسبما قدرت الروح, وقت قصير جدا, دون المحتمل أن يكون الوقت الذي مر أقل مما تخيلته, لأن كل شيء قد حدث بأقصي سرعة, وفي فوضي هائلة: فلقد أحست بأنها تطبخ داخل الجسد من المرض وأدركت أن درجات الحمي ستستمر في تصاعدها, قبل أن ينصرف, بعد أن تجاوز الوقت منتصف الليل بكثير, كان الطبيب قد صرح لهم بقوله:
يمكن أن ترتفع حرارته عند طلوع النهار وفي هذه الحالة, عليكم أن تراقبوه بعناية, واطلبوني إذا طرأ أمر مقلق.
هل كان علي الروح أن تترك نفسها تحترق؟ لقد كانت هذه هي مشكلتها الأساسية, وإذا كانت تلك هي النهاية المحتملة, التي كانت قد اقتربت من أمعاء دون داميان, والتي كانت تنبعث من الأمعاء حرارة كالنار, وإذ ا ظلت الروح باقية في جسده فسينتهي بها الأمر إلي أن تهلك مثل حيوان مشوي, ولكن كم مضي بالفعل من الوقت منذ غادرت جسده؟ لقد مر وقت قصير, إذ أنه مازال لم يحس بأنه تخلص من السخونة بالرغم من البرودة الخفيفة المنعشة التي انتشرت مع طلوع النهار. قفزت راقية نفسها فوق الأواني الزجاجية للمصباح المطبوعة في بوهيميا التي وجدتها في مكانها. فكرت بأن الاختلاف في المناخ لم يكن كثيرا بين أحشاء صاحبها السابق وآنية المصباح الزجاجية, وبفضل أنه مثله فلم تصب بالزكام, لكن مع أو بدون اختلاف كبير, ما الذي كان من الكلمات التي قالتها الخادمة؟ حلوة قالتها الخادمة العجوز. الخادمة العجوز كانت امرأة صادقة, وهي التي تحب سيدها لأنها تحبه, ليس من أجل صورته المميزة, وليس لأنه يعطيها هدايا, ولم يبد للروح إخلاصا فيما سمعته واستمر, إذ أكد القسيس:
واضح أنه كانت له روح حلوة.
وأكدت الحماة:
كلمة حلوة قليلة بالنسبة له, ياسيدي.
وتلتفتت الروح لتنظر وتري كيف أنها, بينما هي تتكلم, كانت تغمز بعينها لابنتها في مثل هاتين العينين وفي مرة واحدة أمر ولعنة, بدتا تقولان: إنهاري باكية في هذا الوقت نفسه, ياعبيطة, لا تتصرفي هكذا حتي لا تكوني عرضة لأن يقول عنك القسيس أنك سعيدة بموت هذا البائس, والابنة فهمت في الحال باللغة الصامتة والحادة, ثم انخرطت في البكاء وهي تندب بشكل مؤلم:
أبدا, أبدا ما وجدت روح حلوة أكثر من روحك! أي يادميان يارجلي, يادميان يارجلي, يانور حياتي!
لم تتحمل الروح أكثر من ذلك, كانت ترتجف من الفضول والاشمئزاز, أرادت أن تتأكد دون أن تضيع ثانية واحدة إذا ما كانت حلوة, وأرادت أن تبتعد عن مكان كل واحد فيه يحاول أن يخدع الآخرين, فضولية ومشمئزة, وإذن, فقد قفزت من عند المصباح مباشرة إلي الحمام, والذي كانت حوائطه مغطاة بمرايا كبيرة, لقد حسبت جيدا المسافة لكي تقع فوق السجادة بحيث لا تحدث صوتا, فضلا عن أنها تجهل أن الناس لا يمكنهم أن يروها, فالروح تجهل أنها ليس لها وزن, وأحست بارتياح بالغ عندما لاحظت أنها عبرت دون أن يلاحظها أحد, وجرت حزينة, وجمعت نفسها أمام المرايا.
لكن ويالعظمة الرب, ما الذي حدث؟ أول ما تبادر لذهن الروح أنها كانت قد اعتادت طوال أكثر من ستين عاما أن تري الأشياء حولها من خلال عيني دون داميان, تلكما العينان اللتين كانتا بارتفاع يزيد علي المتر والستين سنتيمترا, أيضا اعتادت أن تتطلع إلي وجهه المفعم بالمرح, وإلي عينيه الصافيتين, وشعره اللامع بدرجات اللون الرمادي, والزهو الذي ينتفخ به صدره, والملابس الفخمة الغالية التي يرتديها دائما, لكن ما تشاهده الروح الآن ليس فيه إطلاقا شيء مما كان, بل شيء غريب يصل طوله بالكاد إلي قدم واحد, باهت, أقرب إلي سحابة رمادية, بلا شكل محدد, وبدلا من أن يكون لها بالضرورة ساقين وقدمان مثلما كان لجسم دون داميان, كان الموجود عنقود شنيع من الأطراف الحساسة كتلك التي لأخطبوط, إلا أنها غير متناسقة, بعضها أقصر من الأخري, وبعضها أرفع, وكل منها يبدو مخلوقا من دخان داكن متسخ, من وحل مائع لا يمكن الإمساك به, يبدو شيئا, لكنه ليس كذلك, وتبدو الأطراف رخوة تتدلي فاقدة القدرة, وهائلة القبح.
لقد أحست روح دون داميان بالضياع, ومع ذلك فقد واتتها الشجاعة لأن تتطلع إلي أعلي, فلم تجد لها, في الحقيقة, خصرا, ولا جسما, ولا عنقا, ولا شيئا بالمرة, وحيث كانت تلم نفسها, ظهر لها مجرد أذن ملتصقة بجانب من جانبيها, أذن تبدو في بروزها مثل قشرة تفاحة معطوبة, كما ظهرت كومة من الشعر الخشن علي الجانب الآخر بعضها أكرت, وبعضها واقف, إلا أن ذلك لم يكن أسوأ ما في الأمر, ولا حتي كان الأسوأ ذلك الضوء الغريب الأصفر المائل إلي رمادي, والذي ينبعث منها, لكن الأسوأ في الحقيقة كان شكل فمها, الذي لم يكن سوي تجويف عديم الشكل أقرب إلي أن يكون نقرة, ممتلئ بالبثور كفاكهة أصابها العطب, شيء مقزز مثير للفزع, وفي عمق تلك النقرة عين تلمع, عينها الوحيدة التي تتطلع من جوف الظلال إلي الخارج بتعبير يجمع بين الخوف الشديد والمكر.
كانت المرأة لاتزال هي والقسيس في الغرفة المجاورة, حول السرير الذي يتمدد فيه المتوفي, والذي قالت عنه إن روحه حلوة!
كيف يمكنني أن أسير في الطريق وأنا بهذا الشكل؟.
سألت الروح نفسها وهي تلملم نفسها في نفق مظلم من الفوضي, ما الذي كان عليها أن تعمله؟ لقد رن جرس الباب, وعندها صاحت الممرضة: إنه الطبيب ياسيدتي, سأذهب لأفتح له, وعلي الفور انخرطت زوجة دون داميان في الانتحاب والعويل مرة أخري, منادية علي روح زوجها الميت, وهي تندب قسوة الوحدة التي تركها فيها.
صعقت الروح أمام صورتها الحقيقية, مدركة أنها قد ضاعت, فقد اعتادت أن تستتر في مأواها بطول جسم دون داميان, واعتادت علي كل شيء, بما في ذلك رائحة الأمعاء الكريهة, وسخونة أحشاء البطن, وانزعاجها من نوبات البرودة, ونوبات الحمي, وفيما هي غارقة فيه سمعت الدكتور وهو يحييهن, وصوت الحماة يعلو بالصراخ:
آه يادكتور, أي مصيبة هذه التي حلت بنا!
اهدئي ياسيدتي, اهدئي.. رد عليها الطبيب.
أطلت الروح علي غرفة المتوفي, هناك, وحول السرير تكومت النساء, والقسيس يتلو صلواته عند قدميه, والروح قاست المسافة وقفزت بسهولة لم تكن تعرف أنها تمتلكها, وهبطت علي الوسادة مثل نفخة هواء, أو حيوان غريب قادر علي أن يتحرك دون أن يحدث صوتا, ولا أن يتمكن أحد من رؤيته, وكان فم دون داميان مازال مفتوحا فتحة صغيرة, وكان باردا برودة الجليد, لكن ذلك لا أهمية له, فقد تسللت الروح إلي داخل الفم ثم بدأت تدفع أطرافها بقوة لتستعيد مكانها, وكانت لاتزال تمكن لنفسها من الاستقرار كي تحل في الجسد عندما سمعت الدكتور يتحدث إلي الحماة:
لحظة واحدة, ياسيدتي, من فضلك.
واستطاعت الروح أن تري الدكتور بالرغم من عدم وضوح الرؤية بدقة, اقترب الطبيب من جسد دون داميان وأمسك بمعصمه, بدا عليه القلق والارتباك, انحني بوجهه علي صدره ووضعها عليه لبرهة, وعندئذ فتح حقيبته وأخرج سماعته, وبتأن بالغ ثبت طرفي السماعة في أذنيه, ووضع قرص السماعة فوق الصدر, فوق المكان الذي يوجد فيه قلب دون داميان, وتزايد اهتمامه أكثر فرفع السماعة وركنها جانبا, وأخرج حقنة وأمر الممرضة أن تملأها, بينما كان هو يربط قطعة خرطوم رفيع من المطاط حول ذراع دون داميان.
فوق الكوع, كان يتصرف بمزاج ساحر علي وشك أن يؤدي خدعة مثيرة, وعلي ما يبدو أن هذه التحضيرات تسببت في إزعاج الخادمة العجوز فتساءلت:
لكن لم تفعل هذا كله, إذا كان هذا المسكين قد مات؟
نظر إليها الطبيب بتعال, وما قاله موجها الكلام إليها, لم تكن هي وحدها المقصودة بأن تسمعه, بل كان من يسمع, وفوق كل شيء زوجة وحماة دون داميان.
ياسيدتي, الطب هو الطب, وواجبي هو أن أعمل أقصي ما يمكنني حتي أعيد الحياة إلي دون داميان, فأرواح حلوة مثل روحه لاتأتي كل يوم, ولا يمكن أن يترك ليموت حتي نحاول لآخر ما عندنا.
هذا الكلام المختصر الذي قيل في هدوء شديد, وبعظمة, قلب حال الزوجة, ولم يكن من الصعب أن يلاحظ لمعانا باردا في عينيها, ورعشة شديدة في صوتها وهي تسأل:
لكن أليس هو ميت؟
كانت الروح قد حلت بالفعل بكاملها في الجسد, وفقط كانت هناك أطراف ثلاثة تتلمس مكانها إلي أوردة شاخت, ولم تكن تسكنها من سنوات, والانتباه الذي أولته هذه الأطراف لتوجهها لأماكنها الصحيحة, لم يمنعها في الحقيقة من سماع ذلك السؤال المزعج, حيث لم يكن من الواجب أن يسأل, ومع ذلك فقد لاحظت الفضول من اللهجة التي طرحت بها الزوجة السؤال.
لم يجب الطبيب علي السؤال, أمسك بذراع دون داميان وبدأ يدلكه براحة يده, وفي ذلك الوقت أخذت الروح تحس بأن حرارة الحياة أتت لتحتويها, وتتخللها لتملأ الشرايين التي شاخت وكانت قد غادرتها هربا من الحرق, عندئذ وفي وقت موقوت مع بدء انبعاث هذه الحرارة كان الطبيب يغرس إبرة الحقنة في أحد الأوردة بالذراع ويفك قطعة الخرطوم المطاطي من فوق الكوع, ويبدأ في دفع سن إبرة الحقنة شيئا فشيئا, وبدأت موجات خفيفة من حرارة الحياة تصعد إلي جلد دون داميان, وهمهم القسيس:
معجزة, ياسيدي, معجزة!
ثم فجأة, وأمام هذه القيامة من الموت, سحب وجه القسيس, وأطلق لخياله العنان, إذ أصبح التبرع لبناء الكنيسة, ولابد, شيئا مؤكدا, وإذن كيف يمكن لدون داميان أن ينكر مساعدته التي قدمها له, وفي فترة أيام النقاهة, كيف رأي عودته إلي الحياة مرة أخري بعدما صلي من أجل هذه المعجزة؟ إن الرب التفت إلي رجاءاتي وأخرجك من القبر يادون داميان, هذا ما قاله.
وفجأة أيضا أحست الزوجة بأن عقلها قد انمحي منه كل شيء, فنظرت بضيق إلي وجه الزوج واستدارت راجعة إلي أمها, كانتا مصعوقتين, ومصابتين بالخرس, ومفزوعتين, وممتلئتين رهبة.
لكن الطبيب ظل مبتسما, راضيا تماما من نفسه, علي الرغم من أنه يحاول ألا يظهر ذلك.
أي, نعم لقد أنقذ, الشكر للرب ولحضرتك! هللت الخادمة العجوز في الحال, وعيناها ممتلئتان بالدموع من شدة الانفعال, ممسكة بيد الطبيب وهي تؤكد له:
لقد أنقذ, وردت له الحياة! آي, إن دون داميان لن يجد ما يكافئك به ياسيدي!
بالضبط, في ذلك كان يفكر الطبيب, في الذي لدي دون داميان مما هو أكثر من اللازم ليكافئه به, لكنه قال شيئا آخر, قال:
حتي لو كان لا يملك ما يكافئني به, كنت سأقوم بما قمت به, لأن هذا واجبي نحو المجتمع, أن أنقذ روحا حلوة مثل روحه.
كان يوجه حديثه للخادمة العجوز, لكنه, وللمرة الثانية, كان يقصد بكلامه الآخرين, علي أمل أنهم سوف يرددونها أمام الرجل المريض حالما يتحسن فيعمل بنصيحتهم.
لقد أرهقت روح دون داميان من كثرة الأكاذيب التي لا نهاية لها, فقررت أن تنام, وبعدها ندت عنه تنهيدة واهنة ورأسه تتحرك فوق الوسادة, وقال الدكتور:
والآن فإنه سيستغرق في النوم لعدة ساعات, ولابد له أن يرتاح تماما.
وحتي يضرب لهم مثلا طيبا يقتادون به, إذ يتعلمون منه كيف يوفرون الراحة لدون داميان, تسلل خارجا من الغرفة وهو يمشي علي أطراف أصابع قدميه.