بالتأكيد لم تكن هذه هي زيارتي الأولي لأسوان، ولكنني أعتبرها الزيارة الأكثر ثراء، فقد جاءت في لحظة توهج نادرة، عاشتها أسوان بطولها وعرضها، اندمجت فيها فاعليات مختلفة ومتعددة، تصب كلها في خدمة انتشار الثقافة والفنون، ومحاولة الوصول إلي قري، عاشت طويلا دون نظرة واعية من المسئولين، فأخيرا يفتتح في الرديسية قصر للثقافة، هذا المكان الذي ظل محروما لعقود من وجود دائرة للنور يجتمع فيها الشباب والأطفال ورجال وسيدات »الرديسية»، هذا القصر الذي يبعد بما لايقل عن 82 كيلو مترا من أقرب قصر له، وهو قصر ثقافة أسوان، لذا كان استقبال د. إيناس عبد الدايم وزير الثقافة، ود. أحمد عواض رئيس هيئة قصور الثقافة، لا يعكس فقط الحفاوة لشخصيهما، وهو الأمر الذي وصل إلي أن العمدة، كاد أن يذبح عجلا، لولا تدخل د. عواض، وشكره علي هذا الكرم، الذي يعكس مدي الامتنان الذي شعره أهالي الرديسية، فأراد كبيرهم أن يعبر عنه بعاداتهم وتقاليدهم، الذي جاء هذا القصر لكي يحافظ عليها ويدفعها للإمام، وأن يكون بؤرة إشعاع حقيقي، وهو دور لابد أن ننتبه إليه جميعا، فإن افتتاح مثل هذه المواقع خطوة هامة تحسب للدولة المصرية، لكي تصبح منطقة إشعاع ثقافي وفني، هو الأمر الذي يجب السعي إليه، من هنا كانت خطوة موفقة، عندما علمت وزيرة الثقافة أن هذا الموقع لم يكن ضمن المواقع التي ستشهد عروض الفرق الفنية المشاركة في مهرجان أسوان الدولي للفنون والثقافة، ولكن علي الفور تم تنظيم أكثر من احتفالية، ليبدأ العمل بالقصر، بعد الافتتاح مباشرة، لتكون رسالة للجميع، بأن لا يغلق القصر أبوابه، وأن الافتتاح سيعقبه برنامج معلن ومستمر.
زيارتي هذه المرة جاءت علي شكل مشاهدات في مناطق متنوعة وثرية من أسوان، التقيت خلالها بنماذج بشرية لا تعشق الثقافة وحدها، بل خدمة مجتمعها في مختلف المجالات، كل يوم قضيته هناك، بمثابة معرفة جديدة وخبرات تضاف لما سبق، وبعض هذه الأماكن التي زرتها، لم تكن في ذهني حينما وصلت إلي أسوان النابضة بالحياة، وكأنها رسالة واضحة أن هذا الشعب لن يستسلم أو يخاف من إرهاب، فهو يعيش حياته وينظم نشاطه ويخرج للشوارع، بل الأدهي من ذلك، لديه القدرة علي استضافة الآلاف دونما خوف عليهم، بل هم يتحركون ويرقصون في الشوارع والميادين، ويتبادلون التحية مع المواطنين، الذين اندمجوا معهم، مؤكدين علي أن الثقافة ستظل هي الدرع الواقية لهذا الوطن، في مواجهة أي أفكار ظلامية.
الأربعاء صباحا
ذهبت إلي قصر ثقافة العقاد، بعد يومين من افتتاح معرض الكتاب، الذي تشارك فيه هيئة قصور الثقافة، وهيئة الكتاب، اقتسما مساحة المعرض، كلاهما عرض أحدث عناوينه، التي شارك بها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، خصصت هيئة الكتاب جزءا لموسوعة وصف مصر، في طبعتها الحديثة، والتي بلغت قيمتها ما يقرب من 1700 جنيه، وكانت أقرب للعرض فقط، إلا أنه تم بيع عناوين أخري، لاسيما من إصدارات مكتبة الأسرة، في حين خلال أول يومين انتهت سلسلة الكتب المخصصة عن ثورة 1919 التي أصدرتها الثقافة الجماهيرية، والتي بلغت مجتمعة تسعة عناوين وبيبعت بأقل من مائة جنيه، وعندما سألت د. عواض عن أنه سبق للهيئة أن أعلنت عن نفاذ عناوين ثورة 1919، أجاب نعم، لكنني استطعت أن أحتجز مجموعة من هذه الإصدارات لتعرض في معارض المحافظات، تحقيقا لمبدأ العدالة الثقافية، ونجحت الفكرة بدليل أن النسخ القادمة لهذا المعرض تم بيعها بالكامل، ولم نستطع أن نوفرها لكل من أرادوا شراءها، كما كان من العناوين الجاذبة في هذا المعرض، رواية »التلصص» للروائي الكبير صنع الله إبراهيم، في طبعتها في سلسلة »روائع الأدب العربي»، وتباع بأقل من ثمانية جنيهات، وتعد هذه هي الرواية الأولي لصنع الله إبراهيم التي تنشرها واحدة من قطاعات وزارة الثقافة، إذ لم يسبق أن نشر في أي مؤسسة تابعة للوزارة، منذ روايته الأولي »تلك الرائحة»، مرورا بأعماله: نجمة أغسطس، العدو، الحمار، بيروت.. بيروت، التجربة الأنثوية، شرف ( التي صدرت طبعتها الأولي في سلسلة روايات الهلال 1997)، القاهرة من حافة إلي حافة، وردة، أمريكانلي، يوميات الواحات.
ومن العناوين التي بيعت نسخها كاملة: كليلة ودمنة، تاريخ بخاري، عناوين من سلسلة روائع المسرح العالمي، وقد تقرر أن يستفيد المنفذ الدائم لبيع إصدارات الهيئة الموجود في مدخل قصر ثقافة أسوان - الذي يبعد خطوات عن قصر العقاد- من المطبوعات التي لم تبع في أيام المعرض، حتي تتاح الفرصة أمام الرواد لشراء ما يريدون.
الأربعاء مساء
بينما كنت أستعد لحضور افتتاح الدورة الثالثة لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، وقعت في اختيار صعب، حضور الافتتاح، أو الذهاب مع د. عواض إلي قرية أدندان؛ واحدة من قري التهجير الخاصة بالنوبيين، وتبعد حوالي 40 كيلو مترا من مدينة أسوان، فانحزت إلي أدندان، وأثناء جلوسي بجانب د. عواض، تحول إلي مؤرخ لتاريخ النوبة، فلم لا.. وهو واحد من الأبناء المخلصين للثقافة والتقاليد النوبية وللدولة الوطنية المصرية، ويحظي بقبول واسع النطاق هناك، وأثناء قطع المسافة ما بين أسوان وأدندان، كان يشرح لي التقاليد والأعراف النوبية، وذلك عندما استرعي انتباهي النظافة الكبيرة للقري الواقعة في طريق أدندان، موضحا أن المرأة النوبية تعتبر نظافة الشارع جزءا من نظافة بيتها، وتحافظ عليه، ولا تسمح بأن يرمي أولادها أي مخلفات في الشارع، كما تحدث معي عن تاريخ العائلات في هذه القري التي مررنا بها: بلانة، مصمص، وشرح لي المداخل المختلفة لهذا التجمع النوبي الذي يصل إلي 39 قرية، فلديهم مدخل من ناحية الفاديجا، وآخر من ناحية الكنوز، وأن مركز نصر النوبة هو المكان الذي يوجد فيه المقر الحكومي لجميع الخدمات المقدمة لهذه القري، وفي أثناء هذا الحديث تطرق إلي نشاط جمعيات المجتمع المدني في أسوان عموما، والنوبة علي وجه الخصوص، وما يرتبط بهذا النشاط من رغبة حقيقية في خدمة الأهالي في مختلف المجالات، لذا راعي في مهرجان أسوان الدولي للفنون والثقافة أن يكون لعدد من هذه الجمعيات نصيب من العروض، وبالفعل استضافت جمعيات: الشيخ صالح، نجع القبة، منشية النوبة، حفلات للفرق المشاركة في المهرجان.
كلام د. عواض كان مفيدا في هذه الرحلة، لكن ما قاله تراجع كثيرا، فالواقع لديه - أيضا- ثراؤه المدهش، فقد شاهدت في مكتبة أدندان، الأهالي الذين خرجوا، لاسيما النساء والأطفال، من أعمار سنية مختلفة، لمشاهدة عرض فرقة اليونان، وكذلك فرقة مرسي مطروح، والتجاوب مع ما تقدمه هذه الفرق، وتحول الساحة الواقعة أمام المكتبة إلي كتلة تتناغم فيها الثقافات، بشكل جعل الفرقتين »اليونان ومطروح» ومعهما أطفال من هذه القرية يقدمون عملا جماعيا. والطريف أنني رأيت هؤلاء الأطفال قبل أن يدخلوا إلي الساحة، وهم يقومون بعمل بروفة مع فرقة مطروح أثناء عرض اليونان، والعكس، وكانت سعادة كبيرة عندما شاهدت الأسر أطفالها وهم يندمجون في هذه العروض بحماس كبير.
هؤلاء الأطفال وكذلك الشباب، لا تمثل لهم المكتبة فقط، الحافز لمعرفة معني الثقافة في تقدم الأفراد والأمم، وأنه بالتعليم والثقافة من الممكن أن يكون اسمك مؤثرا وفاعلا في مجتمعك، لذا أعجبتني اللوحة التي تتصدر مكتبة الكبار، ومدون فيها معلومات عن واحد من أبناء أدندان، استطاع بعلمه وثقافته أن يكون واحدا من الأسماء المؤثرة في مسيرة الثقافة المصرية، لاسيما في المجال السينمائي، وهو الدكتور الراحل مصطفي محمد علي بشاري ( 1942 – 1996 ) العميد السابق للمعهد العالي للسينما التابع لأكاديمية الفنون، الحاصل علي درجة البكالريوس من المعهد في عام 1965، والدكتوراه من موسكو في 1975، وتدرج في المناصب المختلفة في معهد السينما، حتي تولي عمادته، وله إسهاماته الواضحة في مجال التصوير السينمائي، ونال علي يديه العديد من الطلبة درجتي الماجستير والدكتوراه، ولم ينفصل عن ثقافته النوبية والمصرية، فكان وكيل نادي النوبة بالقاهرة 1٩92، وعضو مجلس إدارة جمعية التراث النوبي، وقد أخبرني د. أحمد عواض أن الهيئة انتهت بالفعل من تمثال له، سيتم وضعه في مدخل المكتبة، تكريما لمسيرته وحتي يتخذه ابناء أدندان قدوة ومثلا حيا علي نبوغ واحد من أبنائهم، ليكون دافعا لهم في مستقبل أيامهم، لاسيما أنني لاحظت نسبة كبيرة من الأطفال في المدارس، ومن خلال حوارات دارت أمامي علمت أن من بين شباب هذه القرية والقري والمجاورة من حصلوا علي الليسانس في اللغة الإنجليزية والفرنسية.
الخميس
كان علي أن أقطع مسافة 290 كيلو مترا من أسوان إلي أبو سمبل، التي ستصبح في هذا اليوم، المكان الأول في أسوان، الذي يستقبل الضيوف من جميع الجنسيات، استعدادا لتعامد الشمس فجر الجمعة في معبدها الذي يحمل اسمها، لكن منذ الخميس هناك استعدادات كبيرة لهذا الحدث، الذي يبدأ فعليا قبل التعامد بساعات، لاسيما أنه سيشهد ختام مهرجان أسوان للفنون والثقافة، في الساحة الواقعة ما بين المعبد وبحيرة ناصر، لتدق الطبول إيذانا بأننا علي بعد وقت قليل من حدث تاريخي، وفي ذات الوقت نحن – أيضا – أمام حدث تاريخي، يصنعه أبناء القارة الأفريقية وضيوفهم من الفرق الأجنبية، واستطاع الفنان هشام عطوة أن يستغل مهاراته في الإخراج، لاسيما في المساحات المفتوحة، وأن يملأ ساحة المعبد فرحة وبهجة وإبهارا، حينما قدمت 22 فرقة عروضها التي تمثل حضاراتها وتاريخها وتنوعها التراثي، بشكل تكاملي وجمالي، ولم نشعر أننا أمام لوحات متنوعة، بل امام لوحة واحدة لها تفصيلاتها، التي تتجمع في رؤية واحدة، تؤكد أن الثقافة هي التي تجمع بين الشعوب، وتخرج أحسن ما فيها، لذا كان العرض مبهرا، ولاقي إعجاب الجمهور والوزراء والمسئولين، كما كان هشام عطوة موفقا، حينما قاد هذه الفرق لتقدم أغنية مشتركة بلغات مختلفة، تعبر عن التسامح ونبذ التطرف وإدانة كل أشكال الإرهاب، هذه الرسالة كانت هامة في أن تنطلق من أحد أماكن الإبهار المصرية وهو معبد أبي سمبل بتاريخه الذي يعرفه العالم، عندما تكاتف تحت مظلة اليونسكو ليتم إنقاذه من الغرق، لنحتفظ للبشرية بمعبد يحكي تاريخ الأجداد وقوة الأبناء، والآن نبوغ الأحفاد بحفاظهم علي معابدهم وتنميتها واستقبال العالم، ليشهدوا أن التاريخ المصري ممتد، وأن الثقافة لازالت هي اللاعب الرئيسي في جمع الشعوب.
بعد أن أنتهي العرض في أبي سمبل، وكأنه بشارة لميلاد الشمس في الغد، التي ستخترق الأجواء لتصل إلي وجه رمسيس الثاني، عدنا إلي السوق، الذي سيشهد حفلا في حضور أبناء المدينة، وقد أعدت قصور الثقافة مكانا واسعا، ليستقبل هذا الحدث، ليقام عرض فني استغرق أكثر من ثلاث ساعات شاركت فيه كل الفرق المشاركة في المهرجان، حيث أعطيت كل فرقة أكثر من خمس دقائق لتقدم رقصاتها وفنونها في تجاوب واضح مع الحضور، لاسيما مع فرقة المغرب، صاحبة الأداء المتميز، والتي فاجأت الجميع في حفلتها الأولي في المعبد، بأداء رقصاتها علي أغنية محببة للمصريين »نعناع الجنينة».
وعلي خشبة مسرح سوق أبو سمبل، قدمت 12 فرقة دولية بخلاف المغرب عروضها وفلكلورها، وهي فرق: الجزائر، غانا، تونس، الأردن، الصين، موريشيوس، أندونيسيا، نيجيريا، توجو، بولندا، فلسطين، والسودان، بجانب الفرق المصرية: العريش، مرسي مطروح، أسوان، الأقصر، توشكي، بورسعيد، شلاتين، وسوهاج، وسبق لهذه الفرق أن قدمت عروضها، أثناء فترة المهرجان، في مختلف بقاع أسوان، في المواقع الثقافية في: كركر، الرديسية، السباعية، كلابشة، دهميت، كوم امبو، دراو، قصر ثقافة أسوان، قصر ثقافة حسن فخر الدين، ومسرح فوزي فوزي، بالإضافة إلي تقديم العروض في متحف النوبة، السد العالي، حديقة النباتات، وغيرها من الأماكن المختلفة في أسوان.
الجمعة فجرا
بعد ساعات قليلة من انتهاء حفل السوق، كنت علي موعد مع الحدث الرئيسي الذي من أجله جاءت جاليات من مختلف شعوب العالم، وهو حضور تعامد الشمس، ولأنها كانت المرة الأولي لي، فكان لابد من الاستظلال بخبرات سابقة، فطلبت من سعد فاروق رئيس إقليم جنوب الصعيد الثقافي، وابن مدينة قوص، والذي رأي التعامد سنوات طوال، وكذلك محمد حسن مدير عام ثقافة أسوان أن نغادر الفندق معا، وبالفعل وقبل الحدث بأكثر من الساعة والنصف، ذهبنا إلي المعبد، الذي رأيته بالأمس في لحظات مغيب الشمس، وأتهيب لكي أراه اليوم وهو يستعد لاستقبال الشمس في حدث فريد.
دخلنا بين الآلاف الذين يمنون أنفسهم برؤية تعامد الشمس، وقد اصطفوا في طوابير، وبدا من بعضهم أنهم باتوا ليلتهم داخل حرم المعبد، ليكون لهم الأولوية في حضور التعامد داخل المعبد، لاسيما أن مدته لا تتجاوز الـ 22 دقيقة، وكان حظي سعيدا، عندما دخلت إلي بهو المعبد مع وفد السفراء الذين جاءوا في السادسة صباحا، وكنا أول من دخل حجرة الملك في انتظار استقبال هذا الحدث، وتفاجأت ونحن نقف، بقول واحدة من الدبلومسيات الأفارقة، وهي تتطلع إلي اللوحات علي جدران المعبد، »احنا شبهم»، ليرد سعد فاروق »لا هم اللي شبهنا»، في دلالة واضحة علي الإحساس بعظمة اللحظة وأننا لسنا منفصلين عن ماضينا.
وبعد دقائق بدأت الأصوات تتعالي، فقد أشرقت الشمس، فكان هناك تخوف من أن تمنع الغيوم ظهورها، مثلما حدث منذ العامين، لكن الشمس أشرقت علي وجه رمسيس، وبدا الذهول والصدمة والإعجاب من قبل الحضور، إيذانا ببدء هذا المشهد النفيس، الذي كان لي الحظ أن أراه منذ لحظته الأولي، ولكن كان علينا ألا نقف أكثر من ثوان، حتي تتاح الفرصة للآخرين لمشاهدة هذا الحدث الفريد، الذي كثيرا ما سألت المتخصصين في الآثار عن أبعاده المختلفة، ومنهم صديقي الدكتور حسين عبد البصير مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، الذي يري أن هذا التعامد دليل علي عبقرية الفراعنة الهندسية والفلكية والدينية، وإعلاء من شأن فرعون في أعين شعبه والشعوب التي حكمتها مصر في ذلك الوقت، وأنه من أروع معالم معبد أبو سمبل الكبير هو اختراق شعاع الشمس باب المعبد ليصافح وجه رمسيس الثاني مرتين في العام في فبراير وأكتوبر.
وبعد أن شهدت هذه المصافحة، خرجت من المعبد لأري مصافحة أخري، هو مشهد الشمس وهي تطل علي بحيرة ناصر، وسط دقات الطبول والزغاريد والرقصات من مختلف الفرق، التي انتشرت في شتي بقاع ساحة المعبد، لتنشر فنونها، في لحظة تاريخية، مؤكدة أن هذه اللحظة ليست ملكا لمصر وحدها، ولكن للإنسانية، لتمتزج أغاني ورقصات الفرق المصرية والدولية في تناغم، وسط حفاوة كبيرة من أهالي أبو سمبل، الذين لا يتوقفون عن التدفق إلي المعبد وساحته، حتي بعد انتهاء التعامد، فاليوم يومهم، ويظل المعبد فاتحا ذراعيه للجميع في عيد استثنائي، يوحد بين ثقافات وفنون متنوعة في منشأها واحدة في هدفها ومقصدها، وهي أن الإنسانية تقاوم ما يخرج عن منطقها، وهو منطق يقوم علي البناء وتراكم الخبرات، وفي هذا المنطق تتراجع أو تندثر أي محاولات إظلامية إجرامية.
السبت ظهرا
قبل ساعات من مغادرتي أسوان، كنت محظوظا عندما التقيت بالروائية الدكتورة عزة كامل المسئولة عن منتدي توت، وهو واحد من الفعاليات الرئيسية لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، الذي كان متزامنا مع مهرجان أسوان للفنون والثقافة، وكذلك تعامد الشمس في أبوسمبل.
د. عزة واحدة من المهتمين بقضايا المرأة وتنميتها، ومن أجل أن تكون علي دراية علمية بما تفعله، حصلت علي الدكتوراه في الإدارة، رغم سابق حصولها علي الدكتوراه في الفلك، وهي من المتحمسات لما تقوم به، وقد أسست مركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية وهي مؤسسة معنية بقضايا وحقوق المرأة، وقد دعتني مع أصدقاء آخرين، إلي تلبية دعوة غذاء من قبل جمعية النهضة لتنمية المرأة، الواقعة في الناصرية القريبة من مدينة أسوان، هناك فوجئت بمجموعة من السيدات، اللاتي قمن بدور كبير علي مدي الـ 25 عاما الماضية في بذر أفكارا مناصرة ليس للمرأة فقط، بل للمجتمع والأسرة، وقد تحدثن عن الصعوبات التي واجهتهن علي وجه الخصوص في بداية عملهم، لدرجة أن واحدة من أعضاء هذه الجمعية ذكرت عندما تقدم لها أحد أبناء القرية ليتزوج منها، قالوا له »هتتزوج من بنت الجمعية» وضحكت، فقد تم الزواج، وأصبحت الجمعية محط اهتمام وتجاوب كبير من أبناء الصالحية، والتفاعل مع أنشطتها المتنوعة التي تقيمها بالتعاون مع جهات حكومية ومؤسسات المجتمع المدني الأخري، ومن هذه الأنشطة: تعليم القراءة والكتابة والحياكة والأشغال اليدوية ومبادئ السباكة والكهرباء.
تحية لمثل هؤلاء السيدات اللاتي قاومن واقعا كان يريد أن ينتصر عليهن، لكنهن استطعن أن يغيرن الكثير من المفاهيم، وأن يدعمن أنشطة جلبت الخير لهذه القرية، التي تغيرت للأمام، وأصبحت نسب التعليم فيها مرتفعة، وإن كانت تحتاج إلي جهود مستمرة لدعم مشروعات تنموية، للدفع أكثر نحو مستقبل أفضل.
السبت مساء
أنهيت مغامراتي وسفريتي لأسوان في السابعة مساء، عندما دخلت للقطار قبل موعده بساعة كاملة، وقد انتابتني سعادة كبيرة، أنني شاهدت أماكن وأحداثا هامة مثل تعامد الشمس في أبو سمبل، ورأيت جهودا كبيرة، وراء هذه الفعاليات الهامة، وعدت ومعي كنز، أخذته علي سبيل الإعارة من د. أحمد عواض وهو كتاب مهدي إليه بعنوان »مدونات الفنان محمود الشنقرابي» الذي أراد أن يؤرخ للحياة والمعتقدات في أسوان، بطريقة المدونات، أي أنه لجأ لشكل معاصر لتسجيل تراث هام، وفي مقدمته كتب: »أردت مدونات تبين بالكلمة والرسم تفاصيل التراث والمعتقدات الشعبية لهذه المنطقة المهمشة أو المغيبة في الذاكرة المصرية، فالذي يبين عن أسوان أنها بلد سياحية وبها من الآثار وأنها مشتي عالمي.. لكن الغوص داخل فكر وعقل وتراث ومعتقدات الرجل الأسواني والرجل النوبي لم يحدث».
هل جاءت هذه الكلمات من الشنقرابي مصادفة، مع يومياتي عن أسوان، التي حاولت أن أقترب فيها من »أسوان ببشرها ومبانيها وضيوفها».
يوميات أسوان
زيارتي هذه المرة جاءت علي شكل مشاهدات في مناطق متنوعة وثرية من أسوان، التقيت خلالها بنماذج بشرية لا تعشق الثقافة وحدها، بل خدمة مجتمعها في مختلف المجالات، كل يوم قضيته هناك، بمثابة معرفة جديدة وخبرات تضاف لما سبق، وبعض هذه الأماكن التي زرتها، لم تكن في ذهني حينما وصلت إلي أسوان النابضة بالحياة، وكأنها رسالة واضحة أن هذا الشعب لن يستسلم أو يخاف من إرهاب، فهو يعيش حياته وينظم نشاطه ويخرج للشوارع، بل الأدهي من ذلك، لديه القدرة علي استضافة الآلاف دونما خوف عليهم، بل هم يتحركون ويرقصون في الشوارع والميادين، ويتبادلون التحية مع المواطنين، الذين اندمجوا معهم، مؤكدين علي أن الثقافة ستظل هي الدرع الواقية لهذا الوطن، في مواجهة أي أفكار ظلامية.
الأربعاء صباحا
ذهبت إلي قصر ثقافة العقاد، بعد يومين من افتتاح معرض الكتاب، الذي تشارك فيه هيئة قصور الثقافة، وهيئة الكتاب، اقتسما مساحة المعرض، كلاهما عرض أحدث عناوينه، التي شارك بها في معرض القاهرة الدولي للكتاب، خصصت هيئة الكتاب جزءا لموسوعة وصف مصر، في طبعتها الحديثة، والتي بلغت قيمتها ما يقرب من 1700 جنيه، وكانت أقرب للعرض فقط، إلا أنه تم بيع عناوين أخري، لاسيما من إصدارات مكتبة الأسرة، في حين خلال أول يومين انتهت سلسلة الكتب المخصصة عن ثورة 1919 التي أصدرتها الثقافة الجماهيرية، والتي بلغت مجتمعة تسعة عناوين وبيبعت بأقل من مائة جنيه، وعندما سألت د. عواض عن أنه سبق للهيئة أن أعلنت عن نفاذ عناوين ثورة 1919، أجاب نعم، لكنني استطعت أن أحتجز مجموعة من هذه الإصدارات لتعرض في معارض المحافظات، تحقيقا لمبدأ العدالة الثقافية، ونجحت الفكرة بدليل أن النسخ القادمة لهذا المعرض تم بيعها بالكامل، ولم نستطع أن نوفرها لكل من أرادوا شراءها، كما كان من العناوين الجاذبة في هذا المعرض، رواية »التلصص» للروائي الكبير صنع الله إبراهيم، في طبعتها في سلسلة »روائع الأدب العربي»، وتباع بأقل من ثمانية جنيهات، وتعد هذه هي الرواية الأولي لصنع الله إبراهيم التي تنشرها واحدة من قطاعات وزارة الثقافة، إذ لم يسبق أن نشر في أي مؤسسة تابعة للوزارة، منذ روايته الأولي »تلك الرائحة»، مرورا بأعماله: نجمة أغسطس، العدو، الحمار، بيروت.. بيروت، التجربة الأنثوية، شرف ( التي صدرت طبعتها الأولي في سلسلة روايات الهلال 1997)، القاهرة من حافة إلي حافة، وردة، أمريكانلي، يوميات الواحات.
ومن العناوين التي بيعت نسخها كاملة: كليلة ودمنة، تاريخ بخاري، عناوين من سلسلة روائع المسرح العالمي، وقد تقرر أن يستفيد المنفذ الدائم لبيع إصدارات الهيئة الموجود في مدخل قصر ثقافة أسوان - الذي يبعد خطوات عن قصر العقاد- من المطبوعات التي لم تبع في أيام المعرض، حتي تتاح الفرصة أمام الرواد لشراء ما يريدون.
الأربعاء مساء
بينما كنت أستعد لحضور افتتاح الدورة الثالثة لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، وقعت في اختيار صعب، حضور الافتتاح، أو الذهاب مع د. عواض إلي قرية أدندان؛ واحدة من قري التهجير الخاصة بالنوبيين، وتبعد حوالي 40 كيلو مترا من مدينة أسوان، فانحزت إلي أدندان، وأثناء جلوسي بجانب د. عواض، تحول إلي مؤرخ لتاريخ النوبة، فلم لا.. وهو واحد من الأبناء المخلصين للثقافة والتقاليد النوبية وللدولة الوطنية المصرية، ويحظي بقبول واسع النطاق هناك، وأثناء قطع المسافة ما بين أسوان وأدندان، كان يشرح لي التقاليد والأعراف النوبية، وذلك عندما استرعي انتباهي النظافة الكبيرة للقري الواقعة في طريق أدندان، موضحا أن المرأة النوبية تعتبر نظافة الشارع جزءا من نظافة بيتها، وتحافظ عليه، ولا تسمح بأن يرمي أولادها أي مخلفات في الشارع، كما تحدث معي عن تاريخ العائلات في هذه القري التي مررنا بها: بلانة، مصمص، وشرح لي المداخل المختلفة لهذا التجمع النوبي الذي يصل إلي 39 قرية، فلديهم مدخل من ناحية الفاديجا، وآخر من ناحية الكنوز، وأن مركز نصر النوبة هو المكان الذي يوجد فيه المقر الحكومي لجميع الخدمات المقدمة لهذه القري، وفي أثناء هذا الحديث تطرق إلي نشاط جمعيات المجتمع المدني في أسوان عموما، والنوبة علي وجه الخصوص، وما يرتبط بهذا النشاط من رغبة حقيقية في خدمة الأهالي في مختلف المجالات، لذا راعي في مهرجان أسوان الدولي للفنون والثقافة أن يكون لعدد من هذه الجمعيات نصيب من العروض، وبالفعل استضافت جمعيات: الشيخ صالح، نجع القبة، منشية النوبة، حفلات للفرق المشاركة في المهرجان.
كلام د. عواض كان مفيدا في هذه الرحلة، لكن ما قاله تراجع كثيرا، فالواقع لديه - أيضا- ثراؤه المدهش، فقد شاهدت في مكتبة أدندان، الأهالي الذين خرجوا، لاسيما النساء والأطفال، من أعمار سنية مختلفة، لمشاهدة عرض فرقة اليونان، وكذلك فرقة مرسي مطروح، والتجاوب مع ما تقدمه هذه الفرق، وتحول الساحة الواقعة أمام المكتبة إلي كتلة تتناغم فيها الثقافات، بشكل جعل الفرقتين »اليونان ومطروح» ومعهما أطفال من هذه القرية يقدمون عملا جماعيا. والطريف أنني رأيت هؤلاء الأطفال قبل أن يدخلوا إلي الساحة، وهم يقومون بعمل بروفة مع فرقة مطروح أثناء عرض اليونان، والعكس، وكانت سعادة كبيرة عندما شاهدت الأسر أطفالها وهم يندمجون في هذه العروض بحماس كبير.
هؤلاء الأطفال وكذلك الشباب، لا تمثل لهم المكتبة فقط، الحافز لمعرفة معني الثقافة في تقدم الأفراد والأمم، وأنه بالتعليم والثقافة من الممكن أن يكون اسمك مؤثرا وفاعلا في مجتمعك، لذا أعجبتني اللوحة التي تتصدر مكتبة الكبار، ومدون فيها معلومات عن واحد من أبناء أدندان، استطاع بعلمه وثقافته أن يكون واحدا من الأسماء المؤثرة في مسيرة الثقافة المصرية، لاسيما في المجال السينمائي، وهو الدكتور الراحل مصطفي محمد علي بشاري ( 1942 – 1996 ) العميد السابق للمعهد العالي للسينما التابع لأكاديمية الفنون، الحاصل علي درجة البكالريوس من المعهد في عام 1965، والدكتوراه من موسكو في 1975، وتدرج في المناصب المختلفة في معهد السينما، حتي تولي عمادته، وله إسهاماته الواضحة في مجال التصوير السينمائي، ونال علي يديه العديد من الطلبة درجتي الماجستير والدكتوراه، ولم ينفصل عن ثقافته النوبية والمصرية، فكان وكيل نادي النوبة بالقاهرة 1٩92، وعضو مجلس إدارة جمعية التراث النوبي، وقد أخبرني د. أحمد عواض أن الهيئة انتهت بالفعل من تمثال له، سيتم وضعه في مدخل المكتبة، تكريما لمسيرته وحتي يتخذه ابناء أدندان قدوة ومثلا حيا علي نبوغ واحد من أبنائهم، ليكون دافعا لهم في مستقبل أيامهم، لاسيما أنني لاحظت نسبة كبيرة من الأطفال في المدارس، ومن خلال حوارات دارت أمامي علمت أن من بين شباب هذه القرية والقري والمجاورة من حصلوا علي الليسانس في اللغة الإنجليزية والفرنسية.
الخميس
كان علي أن أقطع مسافة 290 كيلو مترا من أسوان إلي أبو سمبل، التي ستصبح في هذا اليوم، المكان الأول في أسوان، الذي يستقبل الضيوف من جميع الجنسيات، استعدادا لتعامد الشمس فجر الجمعة في معبدها الذي يحمل اسمها، لكن منذ الخميس هناك استعدادات كبيرة لهذا الحدث، الذي يبدأ فعليا قبل التعامد بساعات، لاسيما أنه سيشهد ختام مهرجان أسوان للفنون والثقافة، في الساحة الواقعة ما بين المعبد وبحيرة ناصر، لتدق الطبول إيذانا بأننا علي بعد وقت قليل من حدث تاريخي، وفي ذات الوقت نحن – أيضا – أمام حدث تاريخي، يصنعه أبناء القارة الأفريقية وضيوفهم من الفرق الأجنبية، واستطاع الفنان هشام عطوة أن يستغل مهاراته في الإخراج، لاسيما في المساحات المفتوحة، وأن يملأ ساحة المعبد فرحة وبهجة وإبهارا، حينما قدمت 22 فرقة عروضها التي تمثل حضاراتها وتاريخها وتنوعها التراثي، بشكل تكاملي وجمالي، ولم نشعر أننا أمام لوحات متنوعة، بل امام لوحة واحدة لها تفصيلاتها، التي تتجمع في رؤية واحدة، تؤكد أن الثقافة هي التي تجمع بين الشعوب، وتخرج أحسن ما فيها، لذا كان العرض مبهرا، ولاقي إعجاب الجمهور والوزراء والمسئولين، كما كان هشام عطوة موفقا، حينما قاد هذه الفرق لتقدم أغنية مشتركة بلغات مختلفة، تعبر عن التسامح ونبذ التطرف وإدانة كل أشكال الإرهاب، هذه الرسالة كانت هامة في أن تنطلق من أحد أماكن الإبهار المصرية وهو معبد أبي سمبل بتاريخه الذي يعرفه العالم، عندما تكاتف تحت مظلة اليونسكو ليتم إنقاذه من الغرق، لنحتفظ للبشرية بمعبد يحكي تاريخ الأجداد وقوة الأبناء، والآن نبوغ الأحفاد بحفاظهم علي معابدهم وتنميتها واستقبال العالم، ليشهدوا أن التاريخ المصري ممتد، وأن الثقافة لازالت هي اللاعب الرئيسي في جمع الشعوب.
بعد أن أنتهي العرض في أبي سمبل، وكأنه بشارة لميلاد الشمس في الغد، التي ستخترق الأجواء لتصل إلي وجه رمسيس الثاني، عدنا إلي السوق، الذي سيشهد حفلا في حضور أبناء المدينة، وقد أعدت قصور الثقافة مكانا واسعا، ليستقبل هذا الحدث، ليقام عرض فني استغرق أكثر من ثلاث ساعات شاركت فيه كل الفرق المشاركة في المهرجان، حيث أعطيت كل فرقة أكثر من خمس دقائق لتقدم رقصاتها وفنونها في تجاوب واضح مع الحضور، لاسيما مع فرقة المغرب، صاحبة الأداء المتميز، والتي فاجأت الجميع في حفلتها الأولي في المعبد، بأداء رقصاتها علي أغنية محببة للمصريين »نعناع الجنينة».
وعلي خشبة مسرح سوق أبو سمبل، قدمت 12 فرقة دولية بخلاف المغرب عروضها وفلكلورها، وهي فرق: الجزائر، غانا، تونس، الأردن، الصين، موريشيوس، أندونيسيا، نيجيريا، توجو، بولندا، فلسطين، والسودان، بجانب الفرق المصرية: العريش، مرسي مطروح، أسوان، الأقصر، توشكي، بورسعيد، شلاتين، وسوهاج، وسبق لهذه الفرق أن قدمت عروضها، أثناء فترة المهرجان، في مختلف بقاع أسوان، في المواقع الثقافية في: كركر، الرديسية، السباعية، كلابشة، دهميت، كوم امبو، دراو، قصر ثقافة أسوان، قصر ثقافة حسن فخر الدين، ومسرح فوزي فوزي، بالإضافة إلي تقديم العروض في متحف النوبة، السد العالي، حديقة النباتات، وغيرها من الأماكن المختلفة في أسوان.
الجمعة فجرا
بعد ساعات قليلة من انتهاء حفل السوق، كنت علي موعد مع الحدث الرئيسي الذي من أجله جاءت جاليات من مختلف شعوب العالم، وهو حضور تعامد الشمس، ولأنها كانت المرة الأولي لي، فكان لابد من الاستظلال بخبرات سابقة، فطلبت من سعد فاروق رئيس إقليم جنوب الصعيد الثقافي، وابن مدينة قوص، والذي رأي التعامد سنوات طوال، وكذلك محمد حسن مدير عام ثقافة أسوان أن نغادر الفندق معا، وبالفعل وقبل الحدث بأكثر من الساعة والنصف، ذهبنا إلي المعبد، الذي رأيته بالأمس في لحظات مغيب الشمس، وأتهيب لكي أراه اليوم وهو يستعد لاستقبال الشمس في حدث فريد.
دخلنا بين الآلاف الذين يمنون أنفسهم برؤية تعامد الشمس، وقد اصطفوا في طوابير، وبدا من بعضهم أنهم باتوا ليلتهم داخل حرم المعبد، ليكون لهم الأولوية في حضور التعامد داخل المعبد، لاسيما أن مدته لا تتجاوز الـ 22 دقيقة، وكان حظي سعيدا، عندما دخلت إلي بهو المعبد مع وفد السفراء الذين جاءوا في السادسة صباحا، وكنا أول من دخل حجرة الملك في انتظار استقبال هذا الحدث، وتفاجأت ونحن نقف، بقول واحدة من الدبلومسيات الأفارقة، وهي تتطلع إلي اللوحات علي جدران المعبد، »احنا شبهم»، ليرد سعد فاروق »لا هم اللي شبهنا»، في دلالة واضحة علي الإحساس بعظمة اللحظة وأننا لسنا منفصلين عن ماضينا.
وبعد دقائق بدأت الأصوات تتعالي، فقد أشرقت الشمس، فكان هناك تخوف من أن تمنع الغيوم ظهورها، مثلما حدث منذ العامين، لكن الشمس أشرقت علي وجه رمسيس، وبدا الذهول والصدمة والإعجاب من قبل الحضور، إيذانا ببدء هذا المشهد النفيس، الذي كان لي الحظ أن أراه منذ لحظته الأولي، ولكن كان علينا ألا نقف أكثر من ثوان، حتي تتاح الفرصة للآخرين لمشاهدة هذا الحدث الفريد، الذي كثيرا ما سألت المتخصصين في الآثار عن أبعاده المختلفة، ومنهم صديقي الدكتور حسين عبد البصير مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، الذي يري أن هذا التعامد دليل علي عبقرية الفراعنة الهندسية والفلكية والدينية، وإعلاء من شأن فرعون في أعين شعبه والشعوب التي حكمتها مصر في ذلك الوقت، وأنه من أروع معالم معبد أبو سمبل الكبير هو اختراق شعاع الشمس باب المعبد ليصافح وجه رمسيس الثاني مرتين في العام في فبراير وأكتوبر.
وبعد أن شهدت هذه المصافحة، خرجت من المعبد لأري مصافحة أخري، هو مشهد الشمس وهي تطل علي بحيرة ناصر، وسط دقات الطبول والزغاريد والرقصات من مختلف الفرق، التي انتشرت في شتي بقاع ساحة المعبد، لتنشر فنونها، في لحظة تاريخية، مؤكدة أن هذه اللحظة ليست ملكا لمصر وحدها، ولكن للإنسانية، لتمتزج أغاني ورقصات الفرق المصرية والدولية في تناغم، وسط حفاوة كبيرة من أهالي أبو سمبل، الذين لا يتوقفون عن التدفق إلي المعبد وساحته، حتي بعد انتهاء التعامد، فاليوم يومهم، ويظل المعبد فاتحا ذراعيه للجميع في عيد استثنائي، يوحد بين ثقافات وفنون متنوعة في منشأها واحدة في هدفها ومقصدها، وهي أن الإنسانية تقاوم ما يخرج عن منطقها، وهو منطق يقوم علي البناء وتراكم الخبرات، وفي هذا المنطق تتراجع أو تندثر أي محاولات إظلامية إجرامية.
السبت ظهرا
قبل ساعات من مغادرتي أسوان، كنت محظوظا عندما التقيت بالروائية الدكتورة عزة كامل المسئولة عن منتدي توت، وهو واحد من الفعاليات الرئيسية لمهرجان أسوان الدولي لأفلام المرأة، الذي كان متزامنا مع مهرجان أسوان للفنون والثقافة، وكذلك تعامد الشمس في أبوسمبل.
د. عزة واحدة من المهتمين بقضايا المرأة وتنميتها، ومن أجل أن تكون علي دراية علمية بما تفعله، حصلت علي الدكتوراه في الإدارة، رغم سابق حصولها علي الدكتوراه في الفلك، وهي من المتحمسات لما تقوم به، وقد أسست مركز وسائل الاتصال الملائمة من أجل التنمية وهي مؤسسة معنية بقضايا وحقوق المرأة، وقد دعتني مع أصدقاء آخرين، إلي تلبية دعوة غذاء من قبل جمعية النهضة لتنمية المرأة، الواقعة في الناصرية القريبة من مدينة أسوان، هناك فوجئت بمجموعة من السيدات، اللاتي قمن بدور كبير علي مدي الـ 25 عاما الماضية في بذر أفكارا مناصرة ليس للمرأة فقط، بل للمجتمع والأسرة، وقد تحدثن عن الصعوبات التي واجهتهن علي وجه الخصوص في بداية عملهم، لدرجة أن واحدة من أعضاء هذه الجمعية ذكرت عندما تقدم لها أحد أبناء القرية ليتزوج منها، قالوا له »هتتزوج من بنت الجمعية» وضحكت، فقد تم الزواج، وأصبحت الجمعية محط اهتمام وتجاوب كبير من أبناء الصالحية، والتفاعل مع أنشطتها المتنوعة التي تقيمها بالتعاون مع جهات حكومية ومؤسسات المجتمع المدني الأخري، ومن هذه الأنشطة: تعليم القراءة والكتابة والحياكة والأشغال اليدوية ومبادئ السباكة والكهرباء.
تحية لمثل هؤلاء السيدات اللاتي قاومن واقعا كان يريد أن ينتصر عليهن، لكنهن استطعن أن يغيرن الكثير من المفاهيم، وأن يدعمن أنشطة جلبت الخير لهذه القرية، التي تغيرت للأمام، وأصبحت نسب التعليم فيها مرتفعة، وإن كانت تحتاج إلي جهود مستمرة لدعم مشروعات تنموية، للدفع أكثر نحو مستقبل أفضل.
السبت مساء
أنهيت مغامراتي وسفريتي لأسوان في السابعة مساء، عندما دخلت للقطار قبل موعده بساعة كاملة، وقد انتابتني سعادة كبيرة، أنني شاهدت أماكن وأحداثا هامة مثل تعامد الشمس في أبو سمبل، ورأيت جهودا كبيرة، وراء هذه الفعاليات الهامة، وعدت ومعي كنز، أخذته علي سبيل الإعارة من د. أحمد عواض وهو كتاب مهدي إليه بعنوان »مدونات الفنان محمود الشنقرابي» الذي أراد أن يؤرخ للحياة والمعتقدات في أسوان، بطريقة المدونات، أي أنه لجأ لشكل معاصر لتسجيل تراث هام، وفي مقدمته كتب: »أردت مدونات تبين بالكلمة والرسم تفاصيل التراث والمعتقدات الشعبية لهذه المنطقة المهمشة أو المغيبة في الذاكرة المصرية، فالذي يبين عن أسوان أنها بلد سياحية وبها من الآثار وأنها مشتي عالمي.. لكن الغوص داخل فكر وعقل وتراث ومعتقدات الرجل الأسواني والرجل النوبي لم يحدث».
هل جاءت هذه الكلمات من الشنقرابي مصادفة، مع يومياتي عن أسوان، التي حاولت أن أقترب فيها من »أسوان ببشرها ومبانيها وضيوفها».
يوميات أسوان