لينا كيلاني - القص بين الواقعي والخيالي..

إذا كنا لا ننكر ما للقص الواقعي من تأثير في رصد الواقع كما لو أنه التوثيق الذي يتجاوز بمصداقيته التاريخ أحياناً فإن أغلب هذه الواقعية الحديثة في الأدب العربي خاصة باتت تأتي من أجواء بيئات قاتمة لا تحمل سوى همّ الواقع المعاش، وثقله مقابل ما يبحث عنه القارئ من أجواء تنعش حياته بدل أن تزيدها انطفاءً، وتفتح له نوافذ الإشراق بدلاً من فوهات الظلام، والأمل بحد ذاته غاية في الأدب، ولو من خلال قص واقعي.
وبقفزة ما بين الواقعي والخيالي، وما بين العربي والغربي نجد أن التوجه في الغرب بات أكثر اقتراباً من الخيال العلمي.. هذا الذي أصبحت تُرصد له الروايات، كما أفلام السينما بكثافة في السنوات الأخيرة، وهو ليس بالجنس الأدبي المستحدث بل إن تاريخه يعود إلى زمن الميثولوجيا، أو الأسطورة، والى عهد (لوقيانوس السميساطي)، أو بالأصح (لوقيانوس السوري) هذا الكاتب، والعالم، والفيلسوف السوري الذي عاش في القرن الثاني الميلادي، وكان من أشهر فلاسفة عصره حتى ذاع صيته في كل الدنيا، وتحدثت عنه آثاره الأدبية، والفلسفية، والعلمية أيضاً، والتي عاشت لقرون.. فتأثر به الغربيون من (شكسبير)، إلى (فولتير) فيلسوف عصر النهضة، وصولاً إلى (موليير)، وكانت آثاره الأدبية زاخرة بالرموز العلمية، وبالتنبؤات الثورية التي وجدت لها حضوراً مستقبلياً حقيقياً.. واعتبر الكاتب الأول للقصة الخيالية العلمية، وكأنه بذلك أرسي أولى خطوات الخيال العلمي.
إلا أن هذا الجنس الأدبي لدينا في العالم العربي ما زال يخطو خطوات خجولة بينما هو قد أصبح من متطلبات الأدب اليوم لارتباطه بالعصر، وبالمنجزات العلمية المتلاحقة، والسريعة، والتي يلمس الناس آثارها في حياتهم العادية.. ومن الملاحظ عند التحول من قصص التراث، والخيال عند بعض الكتّاب أنهم أصبحوا يتوجهون نحو القص الواقعي في تناول الأحداث المتفجرة على مساحات الأوطان من حروب، وصراعات، وانهيارات اجتماعية، واقتصادية.. حتى باتت تلك الموضوعات كسلعة رائجة يتهافت عليها المبتدئون أكثر مما يفعل المخضرمون في الأدب.
فإذا كان علينا أن نشجع هذا الخيال العلمي، ونحفز الكتّاب لأن يتوجهوا إليه فإن شرطاً أساسياً من شروطه يجب ألا يُغفل بحال من الأحوال وهو أن يكون خيالاً علمياً حقيقياً، وليس أشكالاً من التخيل، والعوالم الوهمية، لأن التجربة الإنسانية التي اختزنت نماذج من هذا النوع حتى قبل أن يطلق عليها تسمية (الخيال العلمي) كانت ذات فائدة كبيرة ليس من الناحية التنبؤية فقط بل من جراء تفجير الخيال عند العلماء، والباحثين، ومَنْ أفادوا من هذا الخيال في المخترعات، والعلوم.. ولا بد هنا من الإشارة أيضاً إلى ضرورة التوافق مع النظريات العلمية الصحيحة، والدقيقة بآن معاً.. إذ لا يجوز لكاتب ما أن يتخيل الحياة على أحد الكوكب هي كما الحياة على الأرض ليخرج إلينا برواية كهذه ما دام العلم بين أيدينا يعطينا شروط الحياة على هذا الكوكب، أو ذاك.. وأخطاء الخيال العلمي تكاد لا تغتفر لمردودها السيئ الذي يشوش معلومات المتلقي التي نريدها أن تكون ثابتة، خاصة وأننا في زمن المعلوماتية، ولأنها تُخرج النص من صفته ليصنف من جديد في فئة الفانتازيا، والخيال الذي لا يمت بصلة للعلم.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن أبواب الخيال العلمي لا تُحصر وهي مفتوحة بلا حدود، ولا تقف عند عتبات الفضاء فقط، بل هي مفتوحة على كل الفضاءات وليس أولها البيئة وموضوعاتها، ولا الوراثة ومكتشفاتها، أو الفيزياء وآفاقها، أو الذرّة وما تطرحه من موضوعات تفوق كل خيال.
إنه مجال رحب وممتد بامتداد كل ما تضج به الحياة.. فلماذا لا تتدفق فيه الحياة؟..
وما بين الواقعي الذي أصبح يجتاحنا بكثاقة في الآونة الأخيرة.. والخيالي الغائب الحاضر في الأدب عموماً.. أقول ما بينهما حقول شاسعة من زهور الأفكار التي تتفتح بين يدي الكاتب قصصاً، وروايات نريدها أن تكون لنا أملاً لا انكساراً.. وبلسماً لا جراحاً.


لينا كيلاني
الجمعة 1-2-2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى