حسن الرموتي - رؤيا

حسن رموتي.gif

حتى الآن، لا أعرف ما سأحكيه لكم، وهل ذلك وقع فعلا لي منذ عقود أم حدث أمس فقط، أم أن الأمر مجرد حلم رأيته ذات ليلة، واستقر في ذهني على أنه واقع، وسرت أحكيه لكل من يسألني عن الحال التي انتهيت إليه أنا الماثل أمامكم. مهما يكن اشهد الله أن ما أرويه ربما وقع بين اليقظة والحلم، ولن أضيف شيئا من عندي لتجميل الحكاية أو تحريفها، ولكم بعد ذلك أن تحكموا: كان الوقت ظهرا، والشهر صيفا، الشمس حارقة تلفح الوجوه وسماء بلورية زرقاء، فقط سحب شاردة تبدو من بعيد. وجدت نفسي وحيدا بين حشد كبير من الناس، ينتظرون شيئا ما، لا أعرف بدوري ماذا ينتظرون، ولأني تعودت على الانتظار وقفت مع الواقفين مادمت لن أخسر شيئا، مرددا مع نفسي إذا عمّت هانت، وإن كنت لا أحب الأمثال ابتسمت في قرار نفسي مستكشفا المكان من حولي. حين طال وقوفي انتبهت أتأمل الوجوه من جديد، كم كانت دهشتي كبيرة حين وجدت نفسي الرجل الوحيد بين الحشد الكبير، الكل كن نساء، عازبات وربما أمهات، عاريات الرؤوس وحافيات ويرتدين ملابس فضفاضة بيضاء... لم أجرؤ على أن أسأل إحداهن، فقد عقد الخوف والدهشة لساني، اصطنعت آللامبالاة، وعدم الاكتراث، سرت لأتخلص من هذا الموقف الذي ورطت فيه نفسي دون علم، أحسست بخجل شديد حين كانت النظرات تلاحقني.. زاد اضطرابي حين رأيت الابتسامات على وجوههن، كما لو كن يقلن شيئا لا يحتاج لكلمات، ورغم محاولاتي أن أتحاشى الاصطدام بإحداهن، كن يفعلن ذلك عنوة فأسمع قهقهاتهن، وقبل أن أخرج من هذا الجحيم انتصبت أمامي امرأة، لا أعرف كيف لفظتها الأرض في وجهي، قالت بجدية بدت لي مصطنعة:
- ماذا لو كنت الرجل الوحيد المتبقي على هذه الأرض وكن نحن النساء الوحيدات المتبقيات على هذه البسيطة؟.
بدا لي السؤال غريبا، أو ربما لغزا علي فكّه ليطلق سراحي. لم أنبس ببنت شفة، وقفت متسمرا في مكاني أنتظر أن تفسح لي الطريق، ولأني لم أقل شيئا، ابتسمت المرأة حتى اتسعت حدقتاها ثم قالت من جديد.
- الأمر سهل جدا، ستنجب أولادا، ذكورا وإناثا بعدد النساء اللواتي تراهن في هذا الحشد.
لم تترك لي فرصة للتفكير، أردفت مرة أخرى:
- لنفترض لو كنت المرأة الوحيدة المتبقية وهذا الحشد كله من الذكور، ماذا سيقع؟
بهتت من السؤال، وانتابتني حيرة شديدة وتصبب جبيني من العرق، ولأني دائما أحب الصمت، لأنه من ذهب كما يقولون، وحتى أخرج من هذه الورطة بأقل الأضرار لم أقل شيئا، حركت رأسي دلالة على الإعجاب بحكمتها وبقولها. اقتربت مني أكثر كما لو كانت تهمس لي:
- ستقوم و لا شك حروب ضارية من أجلي، وسيموت نصف الرجال، والآخرون سيكونون عبيدا لمن أكون من نصيبه، وفي أحسن الأحوال ، سأنجب ولدا واحدا خلال السنة الأولى....
تأملت عينيها السوداوين، و جبينها البض، و شعرها المنساب... وحتى أكسر هذا الجمود الذي يشبه الجليد بيننا، نزعت حذائي وقدمته لها، فقد رأيت قدميها الداميتين تبعثان على الشفقة... تخلصت من الحشد بعد لأي وأطلقت ساقيّ للريح صوب البحر، فقد كنت في حاجة لأطفئ نار الغواية التي استبدت بي وسط هذه الحشد. حين التفت ورائي، أفزعني المشهد، كانت النساء تتعقبني مهرولات، حافيات عدا التي أعطيتها حذائي، فقد كانت تتقدمهن، بدلت جهدا مضاعفا لأصل إلى البحر. مازلت أجري وأركض، فركت عينيّ لأتأكد أني لا أحلم، كنت أقترب من البحر، وهن يقتربن مني، فوق الرمل أحسست بحرارة الأرض تلفح باطن قدمي ّ وصرت أقفز مثل ديك مدبوح، رأيتهن يفعلن مثلي، حاولت أن أضحك، لكن الموقف ليس موقف ضحك، غمست رجليّ في ماء البحر، أحسست بانتعاش جميل. تقدمت نحو الموج، غاصت الأقدام كلها في ماء البحر، قدماي وأقدام النساء المهرولات، كنت أتقدمهن رافعا يديّ إلى الأعلى كقائد اوركسترا محترف، ما زلت أتقدم، على صفحة الماء لم تعد تظهر غير الأيدي المتمايلة مثل السنابل تهدهدها الريح، ثم صارت تختفي شيئا فشيئا.... حين طفوت من جديد على سطح الماء و كان الوقت مساء، التفت إلى الشاطئ الذي تركته خاليا قبل دخولي إلى البحر، رأيت أطفالا كثيرين، كثيرين جدا، يشبهونني، ولا أثر لرجل أو امرأة سواي.. فقط أشلاء سفينة قديمة جنحت منذ زمن سحيق سحيق... وظلال أشجار مثل أشباح تراقص الريح مثل عناكب كبيرة، حين خرجت من البحر تحلّق حولي الأطفال منشدين أغان لم أتبين كلماتها، أرهفت السمع قليلا، التقطت أذناي جملة لم افهم معناها: يا أمنا التي في البحر، ويا أبانا الذي على الأرض... شدّ بعضهم يدي واقتادوني، ناولني أحدهم حذائي... لم يكن أحد على الشاطئ، أنا والأطفال فقط. القمر وحده كان يطل علينا بهيا وشاهدا. سرنا بخطوات وئيدة كما لو كنا نمثل مسرحية تاريخية أو ملحمة..
شكّل الأطفال حلقة وكنت أنا مركزها... كانت الحلقة تدور وأنا أدور معها.. أصابني دوار شديد وسقطت... حين صحوت من جديد نظرت للبحر، صعقت لهول المشهد كانت أيدي الصغار تبدو وسط الموج، تتوغل رويدا وريدا، وحده الصدى يردد:
- يا أمنا التي في البحر... يا أمنا التي في البحر...
نظرت لحذائي من جديد، تساءلت كيف وصل ليد هذا الطفل، نزعته من جديد وضعته تحت رأسي واستسلمت لنوم عميق.. وحده صوت الريح كان يأتيني من بعيد، يشبه الصوت الآتي من المحارات حين كنا نضعها على سمعنا ونحن أطفال.....


حسن الرموتي-المغرب
(2014-10-08)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى