عبدالرزاق دحنون - غرفة سبينوزا على السطح..

يؤكد الفيلسوف الهولندي باروخ سبينوزا في رسالته السياسية بأن الغاية الأخيرة من الدولة ليست التسلّط على الناس أو كبحهم بالخوف والعسف والجور، ولكن الغاية منها تحرير الإنسان من الخوف كي يعيش ويعمل في جوٍّ من الطمأنينة والأمن في ظلّ سلم اجتماعي عام. ويقول: إنَّ الغاية من الدولة ليست تحويل الناس إلى وحوش آدمية، ينهش بعضها بعضاً, ولكن الغاية منها تمكين مواطنيها من عيش حياة كريمة تسودها حرية الفكر والعقل والوجدان. إن هدف الدولة الأول والأخير هو الحرية لمواطنيها.

1
ماذا يفعل الناس لو كبتت القوانين التي تضعها الدولة نموّهم وخنقت حريتهم؟ ماذا يفعل الناس لو اتجهت تلك الدولة بنظامها الحاكم إلى إيثار مصلحة الطبقة الحاكمة والتسلط على الشعب واستغلاله، وسعى الحكَّام إلى الاستئثار بالمناصب والكراسي وعدم إفساح المجال لغيرهم للوصول إلى الحكم؟

2
يُجيب سبينوزا عن هذه الأسئلة بوجوب احترام القوانين حتى ولو كانت جائرة وظالمة، ما دامت الدولة لا تمنع الناس من حرية الكلام والاحتجاج للوصول إلى تغيير الأوضاع بالوسائل السلمية. إذ أنَّ حرية الكلام والاحتجاج والنقد ستؤدي في النهاية إلى تغيير الأوضاع الفاسدة. ويُضيف: إنَّ القوانين التي تُقيد حرية الكلام والفكر والاحتجاج تهدم جميع القوانين في الدولة. لأنَّ الناس لن يلبثوا زمناً على احترامهم للقوانين التي لا يجوز لهم نقدها.

3
ثمَّ يقول:
كلَّما زادت الدولة من مكافحة حرية الكلام زاد الشعب عناداً في مقاومتها. لن يتصدى لمقاومة هذه القوانين أصحاب الشره والطمع من رجال المال، بل أولئك الذين تدفعهم ثقافتهم وأخلاقهم ووجدانهم وفضائلهم وكرامتهم إلى اعتناق الحرية. فقد جُبِلَ الناس بوجه عام على ألا يطيقوا كبت آرائهم التي يعتقدون بأنها حق وألاّ يصبروا على محاربتها واعتبارها جرائم ضد القانون. وعندئذ لا يعتبر الناس أن مقت القوانين والإمساك عن مقاومتها عار وخزي بل شرف عظيم. لأننا لو جعلنا أعمال الناس وحدها أساس المقاضاة والمرافعة وتدخّل القانون، وأطلقنا الحرية للكلام والنقد، لكنا بذلك جرَّدنا الاحتجاج والسخط الشعبي من جميع مبرراتها ومسوغاتها. فكلما قلَّتْ رقابة الدولة على الفكر ازداد المواطن والدولة صلاحاً.

4
بينما نجد سبينوزا يعترف بضرورة الحاجة إلى الدولة فهو لا يثق بها. ولا ينظر بعين الراحة إلى امتداد سلطة الدولة من أجسام الناس وأعمالهم إلى نفوسهم وأفكارهم، لأن هذا يؤدي إلى توقف نمو الجماعة وموتها. وهكذا فهو يعارض سيطرة الدولة على التعليم مثلاً, وخصوصاً في الجامعات. فيقول: إنَّ المؤسسة العلمية العامة التي تُنفق عليها الدولة لا تستهدف تنمية إمكانيات الناس الطبيعية بل تُقييدها وتحدُّ من حريتها. قد نتفق مع سبينوزا في هذا الرأي أو نختلف، ولكنه يؤكد من جهة أخرى: حين ينال الناس حريتهم فلن يُضيرهم أي نوع من أنواع الدول تتولى أمورهم. ويميل سبينوزا إلى تفضيل الدولة الديمقراطية لأنه يُعارض وضع السلطة كلها في يد رجل واحد.

5
يظنُّ عامة الخَلق أن وضع السلطة في يد رجل واحد يؤدي إلى السلم الاجتماعي وتوطيد الأمن وتوحيد الصفوف في الدولة. ولكن القضية ليست على هذه الصورة، إذ لا نجد دولة بين الدول لبثت أمداً طويلاً ولم تتعرض لحوادث وتغييرات مهمة تعكر صفو الاستقرار الاجتماعي والأمن كالدولة التي يحكمها رجل واحد.
6
وإذا كانت العبودية والخضوع لأمر رجل واحد يعني سلاماً فليس أتعس للناس من هذا السلام. ولا شك أن النزاع بين الآباء والأبناء أشد وأكثر من النزاع بين السادة والعبيد. ومع ذلك فليس في صالح الأسرة أن يتحول حق الأب في إدارتها وتوجيهها إلى امتلاكها ومعاملة أولاده معاملة العبيد. ومن هذا يتضح لنا أن وضع السلطة كلها في يد رجل واحد يؤدي إلى العبودية لا إلى الحرية والسلام.
7
من يعلم أي ضوء من العبقرية كان سيلقيه سبينوزا على السياسة الحديثة لو طالت حياته وفرغ من كتابة رسالته السياسية؟ ففي عام 1677 كان فيلسوفنا يُقيم في ضواحي أمستردام في غرفة على السطح وقد بلغ الرابعة والأربعين من عمره, ومرض السل ينخر رئتيه, وبدأ يشعر بأن النهاية باتت قريبة, وقد أعدَّ نفسه لهذه النهاية المبكرة, ولم يخف إلا على أبدع ما ألَّفه وهو رابع كتبه "الأخلاق" الذي لم يجرأ على نشره في حياته. و لئلا يضيع أو يتلف بعد موته وضعه في درج مكتب صغير وقفل عليه وأعطى المفتاح لصاحب المنزل, وطلب منه أن يرسل المكتب والمفتاح إلى الناشر في أمستردام بعد موته. ومما يؤسف له أن سبينوزا كان يكتب رسالته السياسية حين اختطفه الموت. ولا يسع المرء إلا أن يشعر بالخسارة الجسيمة بانتهاء حياة هذا الفيلسوف في البرهة التي بلغ فيها أوج نضجه الفكري. ومقدمة هذه الرسالة السياسية التي وصلت إلى أيدينا لم تكن سوى المسودة الأولى لأفكاره السياسية. اختطفه الموت عندما كان يكتب فصلاً عن الديمقراطية. وقد قيل: لو كان نابليون ذكياً وفطناً كما كان سبينوزا لآثر أن يعيش في غرفة على سطح بناية, وكتب أربعة كتب.


عبدالرزاق دحنون - غرفة سبينوزا على السطح

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى