بعدما قدمت للمفتش جميع المعلومات المطلوبة، ووضعت أمامه كل الوثائق التربوية اللازمة...طلب مني تقديم درس اليوم..
اهتززت في مكاني..أمام تلامذتي..الذين ينظرون إلي بعيون غريبة... نافخا أوداجي...تذكرت ساعتها كلام أستاذي سي أحمد بوزفور..فقلت لأفتتح به درسي...
صحت ملء أوداجي: الإنسان حيوان ذو يد... هذا معروف ... وكل كتب التاريخ ، والموسوعات العلمية تثبت ذلك... لكن ... أليس القرد حيوانا؟... أليس للقرد يد؟....أنا متأكد لو حضر داروين لأثبت أوجه الاختلاف والتشابه... ولكن ما علينا .... الأمر كله الآن هو النظر في خروج المفتش من قسمي غاضبا... حين أكدت لتلامذتي أن القرد طور بصماته، وقام بعمليات تجميل ليصبح هذا الحيوان ذا اليد الذي أمامنا....
ثعبان من الأفكار والوساوس يتسلل زاحفا في رأسي.. لم تحول المفتش إلى صورة كاريكاتورية عندما أكدت لتلامذتي أن القرد طور بصماته؟... هل أحس أنني أتكلم عن جده الأعلى، وأسلافه القردة السابقين؟... هل اكتشف أنني أزيل قشور الجمال عنا... كإنسان... تعلق بالجمال ، وتجميل صورته؟...
في الاستراحة، استدعاني المدير إلى مكتبه... مط شفتيه أمامي مرات... نظر إلي نظرتين، وغطس في ملفي الذي أمامه... ثم استطرد قائلا:
- أستاذ... السيد المفتش مستاء منك... لقد استفززته بأفكارك.. وكلامك...
ما إن نطق بهذه الجملة، حتى نسيت في رمشة عين أنني أمام رجل تهالكته الرسميات... وألف التصفيق... والتلفيق... وأيقنت أنني لست أمام رجل تربية وفكر... وإنما أنا أمام حمار وحشي مخطط... لا يختلف عمن استهوتهم الخطوط... العمودية، والأفقية، والمائلة...
نبهني نداؤه:
- أستاذ... سبحان الله... أنا أكلمك... أتعرف ... لا تريد مؤسستنا نشر الفكر الإلحادي... وهذا ما أكده السيد المفتش...
حذقت فيه .. وغبت في عالم سديمي.. تراءى لي المدير أمامي صورة هلامية.. بلا عينين أو أنف... أو أذنين...حفرة في وجه دائري تفتح وتغلق...
أصابني رعب لم أدر كيف... انكمشت في مقعدي ، وقلت دونما تفكير...
- ولكن أستاذ... هذا رأي... والرأي جزء من معرفة نحاول أن نبنيها...و...
- دعك من هذا الكلام أستاذ... هذا أمر مردود عليك.. لا نريد في مؤسستنا من يعكر فكر تلامذتنا...لا نريد من يعوج تفكيرهم...
- تعويج فكر؟... غريب أمرك سيدي...
ساعتها انبثق من الجدار أحمد بوزفور.. واقف أمامي بشحمه ولحمه..أمسك هذا المدير الأصلع من أذنه اليسرى.. وجرها بعنف، وهو يقول:
- ألا تدري أن المعرفة ضرورية.. وعليها يتوقف مصيرنا مع هذا الحيوان... نحن لا نخاف الأشياء حين نعرفها.. أنت تخاف الشيء لأنك تجهله...
أحسست كأنني في سماء بعيدة... أنا ... أنشر الفكر الإلحادي؟...
حينا حضرتني صورة عبد الصبور شاهين... وتذكرت كلامه عن " أبي آدم"... وحضرتني صورة مصطفى محمود.. وتذكرت كلامه عن الشفاعة... وتراءت أمامي هراوات التلفيق... والتكفير التي ألهبت ظهريهما...
فضحكت... وتمددت في كرسي الخشبي مقهقها...
- أتضحك مني أستاذ؟... حسنا... أتعرف ماذا ينتظرك؟... المجلس التأديبي سيوقفك عند حدك....
أطلقت لاحتجاجي العنان... وتركت لتعليلي الفرصة لمحو ما علق برأس هذا المدير، الذي لا يمكن محو أفكاره إلا بالإزميل والمطرقة...
تنحنحت... صمت... حملت نفسي وخرجت... في صحراء من الصمت تهت... وأنا في صمتي داخل بيتي.. اكتشفت أن الإنسان يصعب عليه أن ينظر إلى المرآة...
قلت ما مرة وقفت أمام المرآة... لأقف اللحظة... علني أكتشف شيئا... تزينت ... تعطرت... تفننت في تسريحة شعري..وقفت أمام المرآة...
ساعتها أحسست كأنني واقف على حافة حفرة... أطل منها إلى الغور البعيد... حفرة بقامة البناية...
ما إن أطللت حتى هالني ما رأيت... قامة ببذلة وربطة عنق... هالني ما رأيت.. وأدركت ... وما أصعب ما أدركت... أدركت الحقيقة... وعلمت لحظتها أن المفتش رأى في درسي مرآة.. تذكره بالحقيقة.. وأدركت – أيضا- أنه والمدير يخافان الحقيقة...
أدركت، أنني أكتشف شيئا جديدا... أمامي على المرآة.. نفس القامة.. نفس البذلة... نفس الحذاء... نفس الساعة الذهبية... نفس ربطة العنق... نفس تسريحة الشعر... ولكن الوجه يختلف عن الوجه الذي أحمله.. جسدي بوجه قرد... وصحت:" هل أنا قرد بقناع آدمي؟"...