محمد البدوي - الفكاهة في الشعر العربي..

تعتبر الفكاهة من المواضيع القريبة إلى النفس لا يخلو منها مجتمع ولا تستغني عنها حضارة، فمختلف الآداب احتفلت بما من شأنه أن يجعل الحياة ضاحكة وجديرة بأن تعاش، بعيدا عن أحزان الوجود وهاجس السفر الحتمي إلى ما لا رجوع منه فكان البحث عن الابتسامة شعارا يسعى إلى تحقيقه كلّ راغب في الاحتفال بالحياة وتحقيق أجمل الظروف وليس غريبا أن يكتشف الأطباء في الفكاهة سبيلا إلى علاج العديد من أمراض العصر القائمة على التوتّر. وتنظيم ملتقى يسعى إلى زرع الابتسامة من شأنه أن يكون أجمل من كثير من الندوات التي قد تجعل المرء متبرّما ومتشائما من ظروف الحياة والوجود التي قد يكون له فيها يد أو ربما تتجاوز إرادته باعتبارها من المسلّمات.

أ-) الفكاهة في الأدب العربي القديم

حين نلقي نظرة تفحّص في الثقافة العربية ندرك الأهمّية الكبرى التي كان العرب يولونها إلى عنصر الفكاهة وقد أورد ابن الندين في النصف الثاني من القرن الرابع للهجرة عددا من أسماء كتب النوادر التي وصلنا بعضها وضاع الكثير منها، وقليلون هم الأدباء القدامى الذين لم يكتبوا في النوادر من غير أن يسيء ذلك إلى مكانتهم الفكرية والأدبية فالجاحظ مفكّر معتزليّ شغلته قضايا فكرية وكلامية وشؤون أدبية من غير أن يشغله شيء عن حضور النكتة والطرفة فكان كتاب البخلاء زاخلاا بالطرافة وكانت نوادر الحيوانات والجواري والغلمان حتّى اشتهر بأسلوب المزج بين الجدّ والهزل وصار هذا الأمر منهجا في الحياة والكتابة.

ومن أبرز كتب النوادر نذكر : كتاب النوادر للأشعري وكتاب النوادر لجرير بن عبد الله وكتاب نوادر أبي ضمضم إضافة إلى كتب أخرى لها نفس العنوان لكلّ من الأموي ودهمج وابن أحمر وابن الموصلي وابن يعقوب.

وأورد ابن النديم في فهرس "الفهرست" غشارات تفيد بوجود كتاب النوادر للآتية أسماؤهم : أبو زياد الكلابي وأبو شنبل العقيلي وأبو مسحل وأبو مسهر الأعرابي واللحياني وقطرب وأبي زيد والأصمعي والأثرم والتوّزي والفرّاء وأبي عمر الشيباني وابن الأعرابي وابن السكّيت وأبي عمر الزاهد وأبو اليقظان النّسابة والهيثم بن عديّ وأبو الحسن المدائني وابن أبي الدنيا وأبو عمران قمّي ومحمد بن مسعود العياشي وابن الثلجي وأبو علي بن همّام . ويصف ابن النديم بعض هذه الكتب بأنّه "كتاب كبير" كما في حديثه عن كتاب النوادر لأبي عمران قمّي وكلّ الكتب المذكورة وقع تأليفها قبل 370 للهجرة وما جاء بعد هذا التاريخ أكثر بكثير يضيق المجال عن حصره .

على أنّ كثيرا من الكتب ما يدخل في باب النوادر والطرائف من غير أن تكون الإشارة واضحة أو صريحة كأخبار الحمقى والمغفلين وأخبار الطفيليين أو مثل كتاب "نثر الدرّ" للآبي وهو في سبع مجلّدات كلّها في طرائف مختلف فئات المجتمع العربي دون استثناء من الخلفاء والفقهاء إلى عامّة الناس مرورا بالمعلّمين وأعيان المجتمع. وأصحاب هذه التآليف كتبوا في مختلف ضروب المعرفة كالفقه واللغة وعلوم القرآن والحديث ...إلخ من غير أن يكون التأليف في النوادر سببا في القدح في مؤهلاتهم وجدّية بحوتهم.

وهذه الكتب غزيرة المادّة ولم يسلم الأئمة والفقهاء و لا الأطباء والنحويون أو البلاغيون ولا رجال السياسة أو القضاة من التورط الجميل في كثير من النوادر التي قد تكون واقعية أوقد يكون الخيال أثّر في بعضها من غير أن نسمع بمن احتجّ أو صادر مثل هذا الإنتاج الغزير في الزمن القديم .

وبقدر ما كان للنكتة حضور كبير في النثر العربي على امتداد القرون فإنّ الشعر العربي كان في منتهى الجدّية والصرامة حسب ما وصنا منه، فلم يحفل بالفكاهة إلاّ في حالات تكاد تكون شاذّة بالنسبة إلى بقية المدوّنة الشعرية. وقد لعلّ الفكاهة حاضرة في قصائد الهجاء التي تسعى إلى تقديم صورة كاريكاتورية للمهجوّ تقوم على السخرية.

ومن أطرف ما وصلنا قصيدة يتيمة للشاعر أبي نواس قالها في باب التندّر وإبراز مقدرته الشعرية في صياغة قصيدة تكون قوافيها منطوقة لا مكتوبة:

قصيدة أبي نواس

وفي القرن الرابع اشتهر ديوان ابن الحجاج لما فيه من سخف ومن فحش الكلام مما لم يألفه الناس في الشعر فكان يباع أغلى من ديوان المتنبي وبقي مخطوطا ولم تُطبع منه إلاّ قصائد قليلة في يتيمة الدهر للثعالبي وفي المدّة الأخيرة أصدرته دار المعارف بسوسة في تحقيق للدكتور نجم مصطفى .

الفكاهة في الأدب التونسي الحديث :

لم يكن الأدب العربي في إفريقية غزيرا كما كان في المشرق العربي ولعلّ اهتمام أصحاب القلم انصبّ على الفقه والتاريخ أكثر ممّا انصبّ على الأدب وما شابهه من فنون الكتابة فلم تحفظ لنا المدوّنة الأدبية غير الأدب الرسمي القائم على الأغراض التقليدية . أماّ في القرن العشرين فقد اصطبغ الشعر بالرغبة في توظيفه في قضايا النهوض من التخلف والثورة على الأوضاع المتردية في الميادين الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ومن الطبيعي أن تغيّب جدّية هذه الأمور الجانب الفكاهي فلا مجال للهزل حين يجدّ الجدّ ولكنّ فترة ازدهار الصحافة في الثلاثينات وإطلاق الحريات في فترة حكم الجبهة الشعبية أطلق ألسنة عدد من الأدباء قاموا بنقد المجتمع بطريقة ساخرة ومن أبرزهم الشاعر حسين الجزيري.

أ-) الشاعر حسين الجزيري :

استفاد حسين الجزيري من ازدهار الحركة الصحفية في النصف الأول من القرن العشرين وخصوصا في الثلاثينات ومن إصدار جرائد ساخرة اعتمدت النكتة والسخرية في معالجة العديد من القضايا الجدّية فاشتهرت جرائد "السردوك" و "السرور" و"الشباب" وأدلى شاعرنا بدلوه وأصدر جريدة "النديم" واشتهر على أساس أنّه من أبرز الشعراء الذين وظّفوا السخرية ونجحوا في إيجاد مدرسة فكاهية في الشعر التونسي اعتمادا على :

- مزج العربية الفصحى بكلّ وقارها باللهجة الدارجة مع ما يخلقه هذا التمازج من طرافة للأن القارئ (أو السامع) لم يتعوّد كسر الحاجز بين الفصحى والعامية فلكلّ منهما نظام صرفي ونحوي خاصّ رغم أن الدارجة سليلة الفصحى . وتأتي الطرافة أكثر حين يكون التناصّ مع أبيات معروفة للمتنبي أو لغيره من الشعراء القدامى فيتمّ تحويل المعنى أو إضفاء صبغة عصرية أو شعبية عليه:

- هكذا هكذا الخلاعة صارت = أين سرت أمامك الهائمات
- نظرة فابتسامة فسلام = فقزوز فخلوة فجيلاتو

وفي (إلى المتوعدين ص125):

زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا أبشر بطول سلامة يا مربع ...
لو جاءني يبغي التضارب عنتر لرأيت كيف يخاف ويفصع

- التصوير الكاركاتوري لعديد الظواهر والنماذج البشرية وهو تصوير هادف يسعى الشاعر من خلاله إلى وضع الإصبع على النقاط السلبية في المجتمع مثل :

- محاربة الخرافات (التعامل مع الخسوف – ص 112)

- الإفراط في الطعام – من خلال وصف موائد الطعام في رمضان ص 43- سلام على كلّ الصنوف ص 45 – نحن قوم ص46 – صرت حائرا ص47 – علاج الغرام ص50 على الباب طرّاح ص51 إلخ ... ) ويكتمل مشهد التخمة بجملة من القصائد عن عيد الإضحى وما فيه من لحوم وشحوم (جمعة العيد ص59- قال الغنيّ ص57-

ولا ينسى حسين الجزيري الجانب النقدي الذي يأتي مضمّنا من خلال نقد مظاهر الجوع والفقر التي تدفع بالفقراء إلى الاعتماد على الحلم (دواء الجوع ص48) أو الالتجاء إلى أرخص الثمار وأوفرها (صابة الهندي ص41):

وإن هام بالبطيخ من كان موسرا = فلا شيء عندي كصابة الهندي
تعالوا نقشّر ما نشاء فإنّه = كثير رخيص موسه عندي
فقل لي رعاك الله إن كنت مفلسا = أتعشق شيئا سعره بالغ الحدّ

ومن سيّئات المجتمع التي يشهّر بها الجزيري تقليد أصحاب الدخل المحدود الأغنياءَ في الاصطياف (تقليد المثري ص68) :

وقد باع من بيت الرقاد فراشه = ليقدر في شطّ الخلاعة أن يكري
…وأصبح من بعد الخلاعة حائرا = نوازله عند (الدريبة ) في النشر

ومن القضايا الاجتماعية المؤرقة موضوع الزواج وغلاء المهور (أسعار البنات ص70) :

هل أنت يا رأس الحمار موظف = بإدارة الأموال أم فلاّح
أم ذو عقارات تعيش بدخلها = وتقول كم في حوزتي مفتاح
هذا جنون كيف تؤخذ ابنتي = ما لم تجرّ لكاستي أرباح.

وطبيعي أمام مثل هذه الحالات أن يتهافت الناس على خطبة الأرملة الوارثة (ص72)

فزيد وعمرو وبكر وخالد = تعالوا عليها كالذباب على الكعك
وما فيهم من كان يبغي حليلة = ولكن هذي كالعصيدة في الحنك

ومن أبرز مظاهر التخلّف التي قاومها الشاعر بسخريته البطالة والقمار والانشغال عن طلب العلم باعتباره سبيلا إلى خلق جيل جديد منفتح على القيم الأصيلة.

وبقي ديوان حسين الجزيري يتيما ولا نكاد نجد غير مقطوعات للدوعاجي أو قصائد قليلة لبيرم التونسي الذي اشتهر بقصيدة "المجلس البلدي" لا يرتقي ما نُشر منها إلى مستور تجربة كاملة زقد يعود الأمر لانشغال الرجلين بقضايا أخرى غير الكتابة الهزلية. ثمّ إنّ بيرم التونسي لم تدم إقامته في تونس وارتحل وفي جملة أعماله باللهجة المصرية ما يمكن أن يكون مادّة للبحث والدرس لنّه طوّر أدب الفكاهة والسخرية .

وقد تكون بعض الأعمال الهزلية موجودة عند هذا أو ذاك من غير أن تنتشر مشروعا أدبيا وفكريا له قرّاؤه ومحبّوه وكان لا بدّ أن ننتظر طويلا حتّى تظهر تجربة المربّي الشاعر عبد المجيد شيبة عند إصداره ديوانه الأول "بيت القصيد" (جانفي 1981)

ب -) الشاعر عبد المجيد شيبة :

يعتبر الشاعر عبد المجيد شيبة من أبرز شعراء الفكاهة في النصف الثاني من القرن العشرين وهو رجل تربية أصيل مدينة بنبلة عمل السنوات الطوال في التربية والتعليم وعاش الظروف التي مرّ بها رجال التعليم الابتدائي فكتب في ذلك قصائد اجتماعية أصدر بعضها في ديوان "بيت القصيد" وله جملة أخرى من القصائد الطريفة ما زالت مخطوطة كتبها في عدد من المواضيع الاجتماعية. وبدل أن يكتب مقالة نقدية يصوغ قصيدة على أحد بحور الخليل. ولا يتردّد في توظيف هذا الأسلوب في نقد الشعراء الذين تخلّوا عن أوزان الفراهيدي ، فكلّ المواضيع يمكن أن تكون مادّة لنصوصه الساخرة في لغة يسيرة بعيدة عن كلّ تعقيد.

ويقول أحمد خالد مقدّما ديوان"بيت القصيد" : إنّه أدب المرح والدعابة ومن ورائه جدّ كثير في أهازيج شعرية تصوّر لك بإيقاع راقص واقعا ينبغي تجاوزه ."

وتعود شهرة عبد المجيد شيبة إلى طرافة المواضيع التي كتب فيها نصوصه وقدرته الفائقة على التصوير الكاريكاتوري , إنها نصوص نفيض سخرية من المظاهر السلبية وتثير فينا ضحكا ولكنّه في بعض الأحيان ضحك مرير لأنّ شرّ البليّة ما يضحك.

1-) المواضيع الاجتماعية

ومن المواضيع التي جاءت في "بيت القصيد" ما يدخل في باب التقليد الأعمى ونقد التحضّر الزائف والاكتفاء بالقشور دون الجوهر. فأوّل قصيد "هند أم عمرّ جاء في نقد الشبّان المتخنّثين الذين يقلّدون بعض المظاهر في الحضارة الغربية فلا تدري نفسك أأنت أمام شابّ أم فتاة:

وفي إطار العلاقات الجديدة بين الرجل والمرأة يورد الشاعر قصّة مجموعة من الأصدقاء في مقهى يفضحون أمر بعضهم ليصلوا إلى أنّ الرأي اليوم صار للمرأة لا للرجل:

في صباح الأمس بالمقهى جلسنا = نتحاكى صدفة في كلّ سيرة ...
أسمعتم أيها القوم بجاري = من يراه الناس بالعين الكبيرة
أبصرته زوجتي أمس مساء = يغسل الماعون كالستّ الأجيره
فضحكنا وانتظرنا ردّ فعل = حيث هذا لم يكن إلاّ خميره
سكت المعنيّ حينا ثمّ أدلى = في استياء بتصاريح خطيره
قال يا قوم اشهدوا عنّا جميعا = أنّه البادي في فرش الحصيه
إنّني أبصرته أمس بنفسي = ماسحا أرض الفيرندا في في الظهيره
مئزر في خصره فيه بدا لي = قينة في الرقص كم هي شهيره
يعصر الشيقة في الصطل ويهوي = جاثيا في حركات مستديره
وقفت زوجته – لا فضّ فوها – = تمضغ الشينقوم والعين قريره ...
هو في التنفيذ خدّام مطيع = وهي في الأمر ككبران الحضيره
...أيها الغافل في النّاس تنبّه = ولتكن عينك بالظرف بصيره
فلهنّ اليوم في المذهب قول = ولهنّ اليوم في الحكم وزيره
دهرنا اليوم يا صاحبي يوم بيوم = كن رياضيا وذا نفس صبوره
رحم الله زمانا كنتَ فيه = صاحب الأمر على ذات الضفيره
له يعد رأي لزيد أو لعمر = إنما الرأي لريم وسميره
أيها الكوال يكفيك عنادا = والترك الميدان للأخت المجيره

ولا يتردّد الشاعر في إثبات بعض العناصر المرجعية لإثبات واقعية النصوص فقصّة "خدعة" التي حدثت له بمقهى الألمبيك بسوسة هي شبيهة بما حدث في المقامة البغدادية للهمذاني ويشير فيها إلى اسم زميله صاحب الدعوة ومدرسة الغزالي التي يدرّسان فيها .

وترتبط بعض القصائد بأحداث أو بأماكن كحيّ الزهراء بسوسة أين يقيم الشاعر وما كان فيه من أوحال زمن كتابة القصيدة (1975)

ومن المظاهر الاجتماعية الناتجة عن ازدهار السياحية سعي البعض إلى الاقتران ببعض السائحات العجائز طمعا في الاستفادة من ظروفعنّ المادّية ويرد هذا الموضوع في قصيدة "الشاب والحيزبون" :

رأيت في الحيّ ضمن السائرين فتى فخلته قمرا في ليلة التمّ ...
تمشي بجانبه شمطاء تحسبها = من مُتحف بُعثت جلدا على عظم
لقيصر الروم كانت معاصره = وشاركت في بناء قصر الجمّ
كأنما عزرائيل كان منشغلا = عن قبض أنفاسها لعاية اليوم
إذا حكمت بأنّ البوم شبيهها = فقد ظلمتَ قبيح البوم في الحكم
تمشي الهوينا لبرد في مفاصلخا = وتوهم النّاس بالإغراء بالجسم
أو ربما قصدت إيهام ناظرها = بأنها حامل في بطنها ممّي ...
لمّا رآني الفتى إذكان يعرفني = حيّى على عجل مسّيك يا عمّي
فقلت أهلا مساء الخير يا ابن أخي = حيّيت يا ولدي مسّيك بالأمّ
فلم تكد حيزبون الشؤم تسمعني = حتّى دنت تبتغي بكفّها لطمي
وأسمعتني جزاها الله مغفرة = ما شنّف السمع من سبّ ومن شتم
وأردفت أمّنا في الحال قائلة = أنا خطيبته يا شيبة اللؤم
ناولته والخيرات في كرم = فضاعف الكيل لي من حبّه الجمّ
وعن قريب زفاف العمر يجمعنا = في صالة الفتح بل في فندق فخم ...

2-) المواضيع التربوية :

وبما أنّ عبد المجيد شيبة من رجال التربية والتعليم فقد تحدث عن أجواء المعلّمين (تحيّة المربّي ص73) و(أنشطة الإيقاظ ص55) ويذكر أصنافهم (قصيدة صنف أ ص52 ) وتربّصاتهم (مذكّرات رحلة ص37) ويستعيد ذكريات مع زملائه (كلبة الحراسة ص53) وعسر حالهم فاشتهرت قصيدته "منحة الإنتاج" أيّ شهرة.(انظر القصيدة ص27) وقد يقوم الحديث عن التمجيد والتهليل والوصف الرومنسي لأجواء التعليم بل يصل إلى حدّ الهجاء نظرا لظروف العمل التي تبلغ درجة من القسوة كما في قصيدة (هجو مدرسة ص75) ويقصد بها مدرسة في حيّ التعمير بسوسة :

تبّا لمدرسة التعمير لا عمّرت = خلت خلو فم من كلّ أضراس
لامكتب لمدير ، لا سياج ولا = مستودع لا ولا بيت لعسّاس
مرحاضها لعموم الحيّ مشترك = برطالها في المسا نزل لفلاّس
تجري الرياح بها والرمل ثائره = للقسم يدخل ما في ذاك من باس
لولا الضرورة يا تعمير تلجئني = وخوف عبد من مستقبل قاس
لما دخلتك لا دوما ولا عرضا = فأنت سجن به تضيق أنفاسي
يا شرّ مدرسة في خير جوهرة = كم قد أسفت على بشر وونّاس

ويتابع عبد المجيد شيبة وصف رجال التربية حتّى عندما يتخلّصوا من عناء القسم ويصبحون مساعدين بيداغوجيين (ضحكة الجمل ص76) :

بات المساعد في همّ وفي كدر = يخشى الرجوع إلى الأقسام في الكبر
وقد تضعضع في الإرشاد مركزه = مذ أخبروه بأنّ الفوج في خطر
فراح كلّ إلى الأعراف يسألهم = عن الإشاعة من باد ومستتر
فقال : يا شيبة ألا ترى أملا = إنّ عرفتك دوما ثاقب النظر
فقلت : ودّع بنات الفوج في جلد = قد آذن الفوج يا أستاذ بالسفر
أبدل حقبة إرشاد بمحفظة = وهيئي النفس للجرنال والسهر
إنّي وإياك في إرشادنا جمل = قد شقّ شاربه في ضحكة العمر
أما الجماعة ممن ضمّ مركزنا = فقد جَنُوا مَكْسِموما طيب الأثر
ورُشّحوا لإدارات بزاوية = والقلعتين وسهلول ومعتمر

3) المواضيع الاقتصادية :

وتعتبر الظروف المادية من أبرز المشاغل التي سكنت قصائد عبد المجيد شيبة خصوصا ظروف الموظفين والمعلّمين بصفة خاصّة لهذا اشتهر الشاعر بقصيدة "منحة الإنتاج" كما يشتهر بقصيدة أخرى:

راق عيشي مؤقتا ومزاجي = في انتظاري لمنحة الإنتاج

وكتب عن السيّارة وما تحتاجه من مصاريف ومعاناة:
وإذا ما حرنت ذات صبــاح = عن مسير خلتها جلمود صخره
ليس يجدي معها إِرْ و زَعِْ = إن أنا شغّلتها تعوي كــهرّه
صحت في القوم هلمّوا أدركوني = فأتاني صبية الحيّ بوفـــرة
وإلى مستودع قد شيّعـــوني = وكأنّي ميّت يقصد قــــبره
...وجرى الصلاّح يهديني التحايا = إذ مع الصلاح لي إلف وعشره
ثمّ أضحى فاحصا هذي وهذي = وبقيت ناظرا وعــدي بحسره
بعد فحص قلت ماذا؟ قال خيرا = إنها تبغي من الراتب شطره
فانبريت منشدا في الحال لحنا = أنا من ضيّع في الإفلاس عمره...

ويمثّل رأس الشهر فرصة الموظف للانتعاش والخلاص من الديون ، لكنّ موقف الشاعر وهو يترجم أحاسيس صنف من النّاس مختلف عمّا كان منتظرا في (رأس الشهر ص64):

أكاد برأس الشهر كفرا أشهد = فغفرانك اللهمّ إنّك أوحد
وتفنى حياتي في انتظار مرتبي = ولا أشتهي إن كان عمري يبدّد
امشي برأس الشهر كلّ مطالب = بدين له عندي برأسه موعد
فكف خلاصي والوعود كثيرة = وراسك في التعداد يا شهر واحد
فمن لي بعزرايل يمهل عبدكم = إلى رأس الشهر حين تأتي الصوارد..
فإن قال صبّوا قلت يوم مبارك = وإن قال ما صبّوا فيوم مقوّد
وإن قلت يا هذا أغثني بسلفة = عسى الحال في الشهر الجديد تفرهد
أشار لقلع السنّ توّا بظفره = و في ذلك إيحاء لعمرك خالد
ستبقى لرأس الشهر عبدا على المدى = وسعدك مكبوب وزهرك راقد

ومن الأشياء التي يعانيها الموظف ذو الدخل المحدود خلاص الفواتير وهي التي كانت قادحا لعبد المجيد شيبة للحديث عن فاتورة الماء بعد أن صارت مقترنة بمعاليم التطير فكتب (فاتورة الصوناد) :

مذ أهلّت فاطورة الصوناد وأخوكم في حيرة وسهاد

تحت بابي وجدتها في انتظاري قلت تبّا ليومي القوّاد

ورأيت (الأوناس) ضُمّ إليها لهمومي مزوّدا في اجتهاد

ثمّ ألقيت نظرة بانتباه فإذا الرقم طعنة في فؤادي

يا لها من مصيبة سوف تؤدي دون شكّ بخبزة الأولاد

وتحوّلت للإدارة توّا أشتكي الهمّ شاعرا باضطهاد

قلت يا قوم قد قسوتم علينا فاتقوا الله في جيوب العباد

خبروني هل ماؤكم ماء زهر أم جلبتم من زمزم بعض واد

قيل لي بادر أخانا ثمّ قدّم شكواك دون عناد

نحن قوم ما همَّنا في اشتغال شأن عمر أو شأن زيد الزيادي ...

كلّ شهر فاطورة في ازدياد بينما العمر نقصه في اطّراد

يا لَخوفي إن قيل يوما ستُحصى في الصدور الأنفاس بالتعداد

إنّ الحديث عن الطرافة في شعر عبد المجيد شيبة لا ينتهي زفيه من المتعة ما يجعل القارئ يستزيد من مثل هذا الشعر ولكنّ الشعراء مقلّون، تغلب عليهم الصرامة والجدّية وحتّى عن قيلت مقطوعات فليس هناك سعي لتدوينها ومن أمثلة هذا ما كان بين أساتذة كلّية الآداب بالقيروان وشعرائها (الوهايبي والغزّي) من طرائف ومقطوعات شعرية أوجدتها ظروف العمل والامتحانات ولكنّها اندثرت ولم يعمل الشعراء على جمعها أو تطويرها في أعمال منشورة على نطاق واسع.

وحتّى في باب النثر لا نكاد نجد كتبا مفردة بالنوادر. و لا يعني هذا غياب النادرة فلكلّ مرحلة طرائفها ونوادرها ولكنّ عملية الجمع شبه غائبة والجرائد الأسبوعية خاصّة تخصّص أحيانا بعض الأركان للطرائف من غير أن يتمّ جمعها في كتاب. ثمّ إنّ النوادر من الأجناس الأدبية الوجيزة تحتاج إلى فنّ في الصياغة ويمكن أن تمثّل زادا فكريا وأدبيا وشهادة على كلّ مرحلة تاريخية . وحين نقارن بين ما يُنشر عندنا وما تنشره المطابع في أوربّا وحدها ندرك حجم التقصير الذي نمارسه في حقّ أنفسنا وثقافتنا فأين كتب النوادر من مثل 100 نادرة Cent blagues والمجلاّت الفكاهية التي تصدر أسبوعيا وشهريا وتنتشر أكثر من كلّ الروايات والأشعار مما يخفّف من ضغط الحياة ويجعلها رائقة جديرة بأن تعاش لا تغيب عنها البسمة .

إنّ الشيء إذا جاوز حدّه انقلب إلى ضدّه ومنتهى الصرامة والجدّية قد يضرّ بالإنسان لهذا لا بدّ من الاهتمام بعنصر الطرافة والهزل في حياتنا وكتابتنا إن لم يكن تجديدا وإبداعا فليكن تقليدا للآخر أو لجدودنا الذين كانوا يحتفلون بالحياة في كلّ مظاهرها دون إقصاء أو تهميش لجانب على حساب آخر.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى