جعفر الديري - قصيدة النثر... حساسية جديدة أم خروج على العمود؟

قصيدة النثر، موضوع طالما شغل المهتمون بالشعر، وخصوصا أن هذا اللون من الشعر بدأ يتفشى بين الشعراء، بمن فيهم شعراء اليوم. والأمر مع قصيدة النثر يكاد يقترب أكثر من القصة القصيرة التي يحسبها المهتمون بأمر الأدب لونا أدبيا سهلا يمكن الركون إليه في حال تعذر كتابة الرواية، حتى اذا جربها المجرب وجد في سطورها القليلة تركيزا واختزالا يعييه أمرهما.
قصيدة النثر «إن جاز تسميتها بذلك» تغري الكثيرين بالعبور في مسالكها، ولكن ما أن تخطو قدم الشاعر خطوتها الأولى حتى يفاجأ بعالم آخر ليس له ملامح، فعلى الشاعر وقتها أن يبني مدينته على أرض جرداء، أن صح التعبير. لكن قصيدة النثر وبحكم استهوائها لأقلام الكثيرين تجعلنا نتبصر فيها أكثر ونحاول طرح أكثر من سؤال بخصوصها، وربما يكون أكثر الأسئلة الحاحا في هذا الجانب يتعلق بسؤال مفاده: هل أن المشتغلين بقصيدة النثر اختاروها عن دراية واطلاع بالشعر العربي قديمه وحديثه، أم مواكبتها لحساسية شعرية جديدة فقط، يشترك فيها العالم أجمع من دون أن يحظى الشاعر البحريني بتلك الثقافة الأدبية اللازمة؟! والأمر هنا يأخذ أهميته من كون التجربة الشعرية البحرينية خطت خطوات متقدمة في هذا المجال وأعطت اهتماما كبيرا بقصيدة النثر حتى من قبل الشعراء الكبار الذين يمارسون أكثر من طريقة في التعبير الشعري... وفي هذا التحقيق مساحة رحبة لآراء متنوعة حياله...

لبس في المصطلح

يقول الشاعر علي الشرقاوي: «ما يحدث اليوم من اهتمام بقصيدة النثر أو الشعر المنثور(ان جازت التسمية) له علاقة بما حدث أيام الثمانينات حين شهدت الساحة الشعرية هذا اللون من التعبير، ليس في الساحة الشعرية البحرينية فقط، بل في ساحة الشعر العربي. لكن الأمر الذي يلح في هذا الخصوص هو الاشكال الكبير الذي رافق قصيدة النثر، فهل كل ما ينشر تحت اسم قصيدة النثر هو شعر نثري، وهل أن من يكتب تحت اسم قصيدة النثر يكتب قصيدة نثر أساسا؟! فالحال أنه لا توجد دراسات توضح الفروق بين قصيدة النثر وغيرها من ألوان الشعر، وخصوصا أننا نعاني منذ فترة طويلة من مشكلة في تعريف المصطلح، اذ لا يوجد مصطلح خاص بقصيدة النثر حتى اليوم.
ويضيف بخصوص السؤال عن نضج التجارب بهذا الخصوص، "انا لا أستطيع الحكم عليها، ذلك أني أرى أن النص الشعري أو قصيدة النثر أكثر صعوبة من القصيدة التقليدية أو التفعيلة، فهي من أصعب الكتابات بعكس ما يراها الكثيرون، فالشاعر هنا يحاول خلق شيء من روحه ومن موسيقاه الداخلية فقط، وهو الأمر الذي يفسر لنا العدد القليل من الشعراء الذين يتقنون هذا اللون في مقابل العدد الكبير من الذين يتعاطونه».

تجارب تستجيب للتراث

من جهته يقول الشاعر د.حسين السماهيجي «لا يمكن الجزم والقطع بإجابةٍ صارمة بشأن هذا الموضوع فيما يخص جميع التجارب الشعرية التي تتعامل مع قصيدة النثر لدينا في البحرين. إلا أنه من المؤكّد أن بعض التجارب تستجيب للتراث من خلال احتوائه والهجس بتجاوزه، ولعلّ أهم التجارب في هذا السياق هي تجارب قاسم حداد وإيمان أسيري وفوزية السندي وأحمد العجمي".
ويضيف: مسألة مواكبة الحساسية الشعرية الجديدة، فإن تمّ إطلاقها هكذا، فستغدو مجرد رغبة لا تفضحُ تجربة شعرية عميقة ورصينة؛ إذ ليست المسألة في كتابة الشعر مجرد رغبة في الانسياق مع ما يطرح في الظرف الآني من أشكال كتابية. مسألة كتابة الشعر، بالإضافة إلى كونها احتياجا ذاتيا، تتعلق بمسألة الوعي نفسه. ولذلك يكون الذهاب نحو الكتابة والشعر بما هي وهو، لا بما هي مجرد انسياق مع السائد والمكرّس.

الخروج على العمود

بدوره يقول الشاعر أحمد العجمي مشيرا الى السياق التاريخي للشعر الذي يفترض التنوع، وليس الشكل الهندسي الصارم الذي يرى في كل محاولة خروجا على عمود الشعر «أعتقد أنه وبحكم التجربة الشعرية الموجودة في البحرين وبحكم المناهج الدراسية على الأقل، أعتقد أن معظم شعراء البحرين ان لم نقل كلهم قد اطلعوا على التجربة الشعرية العربية، بل إنني أتصور أن الكثيرين منهم كانت لهم تجاربهم الجمالية بهذا الخصوص، فعمل بعضهم على القصيدة التقليدية وآخرون على التفعيلة. ومع ذلك فان عدم اطلاع الشاعر الحديث على الحركة الشعرية لا ينفي شاعريته، فلو تتبعنا السياق التاريخي لوجدنا أن التجربة الشعرية لم تكن ذات سياق هندسي واحد يلغي الآخر، بل تغير بما يقتضي الحاجات اليومية والمستجدة للانسان، وهذا أمر تقاس به جميع المستويات وليس الشعر خاصة، فيجب علينا عدم التفكير في أن الخروج على عمود الشعر أو أوزانه خروجا على قدسيته فالخروج هذا لا يعني الانفصال، فالكتابة الفنية لا تنظر على أساس تراكمي بل أفقي».

مساحة أكبر للتعبير

من جهتها تقول الشاعرة ايمان أسيري التي اختارت قصيدة النثر وسيلة للتعبير من دون المرور على الأنواع الشعرية الأخرى «كي يكون حكمي على الأمور دقيقا، سأنطلق من تجربتي الشعرية، فكوني احدى المشتغلات بقصيدة النثر، يجعلني أقول إنني لم أكتب قصيدة النثر عن جهل أو استخفاف بها وانما تبنيتها عن دراية واطلاع، فعلى رغم كوني لم أنطلق في كتابتها من كتابة القصيدة العمودية، اذ لم أمر في تجربتي الشعرية على الشعر العمودي والتفعيلة، كنت واعية عندما بدأت كتابتها بامكاناتها الكبيرة، فهي قصيدة تتيح مجالا رحبا ومساحة أكبر للتعبير ومنطلقا أكبر للأفكار، وأعتقد أن تجربة كتابة قصيدة النثر لا تتنافى مع ألوان الشعر الأخرى، فيمكن الجمع هنا بين مختلف أدوات التعبير، وخصوصا اننا نرى قامات شعرية معروفة كان لها نصيبها واهتمامها بقصيدة النثر، كأدونيس مثلا».

تجارب مطلعة ومتهالكة

بينما يرى الشاعر إبراهيم بو هندي، أن التجارب بهذا الصدد تتفاوت من شاعر الى آخر «لا يمكن الحكم بشمولية على هذه التجارب التي تناولت الشعر النثري أو قصيدة النثر، فمن المؤكد أن هناك من التجارب في هذا المجال من تدل دلالة واضحة على أنها واسعة الاطلاع على التاريخ الشعري والحركة الشعرية التي تنقلت فيها حتى اختارت قصيدة النثر، فهؤلاء الشعراء وجدوا مجالا أكثر حرية للتعبير بالنسبة اليهم، بينما نجد على الطرف الآخر من ولج الى هذا النوع من الشعر من دون سابق معرفة به ولا بالحركة الشعرية، وأنا لا أشير هنا الى تلك التجارب الجيدة ولكني أشير الى تجارب متعثرة، لم تأخذ بنصيبها من الشعر التقليدي فاخفقت في ذلك اللون، وأيضا لم تنطلق في قصيدة النثر عن دراية فأخفقت مرة ثانية».

لا يمكن التعميم

ومن جهته ييقول الشاعر عبدالرضا زهير ذلك بقوله «لا يمكن تعميم هذه الفكرة على جميع الشعراء، لكن السؤال الذي يطرح نفسه ما الذي يدلل على أن هذه القصيدة كتبت عن دراية بالقصيدة النثرية أو الشعر عموما؟، فلكل لون شعري مميزاته الخاصة أو علاماته الفارقة، والاشارة الى أنه يجب على الشاعر ان يكون ملما بالشعر بتلاوينه المختلفة لينطلق بعدها في قصيدة النثر أمر ليس من الواجب على المتعاطي مع الشعر فعله، على ألا يتحول الى عملية عكسية فتكتب الخاطرة على أنها شعر، اذ إن هناك من يكتب قصيدة النثر من دون أن يكون ذو معرفة بها، وفي الوقت نفسه الذي نجد فيه شعراء وقد احترقوا كي يكتبوا قصيدة النثر، نجد هناك من يفتح الباب على مصراعيه لهذه التجارب على أنها شعر، ربما لغياب المعايير التي تحكم هذه القصيدة».

قادرة على إغرائي

كذلك يقول الشاعر أحمد الستراوي «من وجهة نظر شخصية أقول إن قصيدة النثر قادرة على اغرائي من ناحية السبك الموجود بداخلها، وأتصور انه لم يستطع أحد من الشعراء حتى الآن تجاوز تجربة قاسم حداد في قصيدة النثر. كما أنني أرى أن غالبية الشعراء توجهوا الى قصيدة النثر بعد مرورهم على الأنواع الشعرية الأخرى، فأصبح هناك نتيجة لهذا التوجه اندماج أكبر لكل نوع من أنواع الشعر، فهذه التقسيمات لم تعد مقنعة لكثير من الشعراء، فغالبية من يكتب الشعر اليوم متجهون الى كسر المنجز الشعري القديم ذي القالب الجاهز، بعد أن كانت لهذه القوالب قدسية لا يمكن الخروج عليها، اذ أصبحت هناك صيغة تمردية تحاول نثرنة الشعر وشعرنة السرد».
قصيدة النثر... حساسية جديدة أم خروج على العمود؟!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى