تواصلت الكائنات عبر الأثير بصمت دفين ، و تغازلت بالإشارات و الحركات وسط هذه
" الجنة الأرضية ".هكذا ورثنا التسمية الجميلة. تنتصب الأشجار الوارفة العملاقة، كحرس دائم ، تراقب القريب و البعيد متحفزة للدفاع عن نظام بيئي متوازن . بجذورها تسرح في أعماق الأرض ،تمتص عذوبة المياه ، قبل أن تخرج من ينابيع تنزلق في جداول تتشعب كالشرايين ، تنثر الرطوبة و الأنسام ،
و قطرات الندى الصباحي تبلل الأعشاب، تنتجعها الحيوانات فتبرأ من الأسقام و تسمن و تتوالد.
و ينفجر عشقي لهذه الجنة الأرضية من وطني . أغيب عنها مضطرا ، فتكيل لي اللوم في صمت ،
و تولي عني وجهها الجميل في غنج ، لأصالحها كعشيقة بالعودة إليها ألتمس العفو و الشفاء ، بين أحضانها ، من الكدر و الشجن المقيت . أرجع إلى أيام الصبا أستحضر لحظاته الغائرة في الزمن ، أعاودها ، أمارسها عبر المسالك الوعرة الواصلة بين الدير و الجبل ، أمشي لأنسى آلام الظهر و المفاصل و نخر العظام. ثم أركب الدابة لتوصلني إلى مدرستي القديمة ، أين تعلمت أولى الحروف الأبجدية و فاتحة الكتاب
سلمت على مدرس شاب ، تملكني ذلك الشعور القديم ، ارتجفت يدي و كأني أسلم على معلمي
سي " قدور ". رحب بي المدرس ، فطلبت منه معروفا ، أن يسمح لي بدخول حجرة الدرس و الجلوس على مقعدي الأول. كان صغيرا ، جلست عليه نصف جلسة ، ضحك التلاميذ من هذا الأشيب كيف يتصابا . نهرهم المدرس فكفوا عن الضحك ، ليقدمني لهم على أني من قدماء تلاميذ هذه المدرسة . لم يهتموا للأمر أكثر من اهتمامهم بالصور التي التقطها لهم ، و ركزت على مقعدي الأول .
شكرت للمدرس صنيعه و خرجت للساحة الصغيرة ، جلست إلى شجرة الخروب، استللت من جيبي رغيفا ، نظرت إليه ، و بدأت في قضمه كما كنت أفعل في فترة الاستراحة . ابتسمت لما تذكرت فترة الاستراحة ،كانت هي القاعدة تتخللها أويقات للدراسة ليس إلا ، مع المعلم سي " قدور "، المعلم الوحيد في مدرسة الدوار ، يدرس كل مستويات الابتدائي ، و هو في ذات الوقت المدير و النائب الإقليمي
و معالي الوزير ، و إمام المسجد و كاتب العقود و الشاهد على أي زواج عرفي . كان متعدد المهام .
هو من أبناء المنطقة ، لكن لا أحد يعرف أين درس و أي شهادة يحمل ، المهم أنه يجيب على كل الأسئلة التي تطرح عليه في الدوار ، لا يشك أحد في إجاباته . كان أهل الدوار ينبهرون أكثر عند فتحه الكتب الصفراء التي يملكها ، قال أنه اشتراها من عاصمة العلم و العلماء ، يقلب أوراقها برفق شديد حتى لا تتفتت بين أصابعه الخشنة ، و عند الانتهاء من قراءة شيء منها ، أو يوهم الآخرين أنه يفعل ، يضعها بعناية و بكل إجلال و تقديس على رف خشبي في الحجرة ، و يغطيها بمنديل ،و لا يسمح لأي كان أن يقربها أو يلمسها . خلقت هذه العناية الكبيرة في نفوسنا شوقا جارفا إلى تصفحها و معرفة ما فيها ، و كنت أكثر زملائي جسارة عليها ، إذ سحبت كتابا من هذا " المخزون العظيم " ، وضعته على الطاولة
و اقترب زملائي في خشوع غير مصدقين ، و بدأت في تقليب أوراق الكتاب باحثا عن الصور التي أهمتني أكثر من الحروف بلهفة زائدة و دون احترام للكتاب . و أنظر بين الحين و الحين بخبث ظاهر إلى الأعين الصغيرة العاجزة و الخائفة . و فجأة سمعنا أحدهم يصرخ " المعلم .. المعلم " . ارتجفت كل فرائسي و نهضت لأضع الكتاب على الرف ، فخانتني يداي و سقط الكتاب و انفجرت أوراقه و ترامت دفتاه المصنوعتان من جلد الغزال ، كما كان قال معلمي دوما . تجمدت في مكاني و لم يرتد إلي طرفي ، و أصبت بالدوار ، و لم أتذكر ماذا وقع بعد ذلك.
استفقت من هذه الغيبوبة في منزلنا ، حملوني إليه على ظهر دابة تعثرت ، كما قالوا ، أكثر من مرة
و كدت أسقط ، استفقت بعد أن شممتني أمي ماء الزهر و الليمون ، فتحت عيني بصعوبة و حملقت في الوجوه الناظرة إلي ،فبرز لي وجه معلمي بين الوجوه ، فأغمضت عيني ثانية . كان وجهه قطعة من حديد بأنف معقوف و عينين جاحظتين و شفتين مزمومتين ، بدا كصقر يتحفز للانقضاض علي ، لكنني سمعته يهمس باسمي ، ففتحت عيني اليسرى و أبقيت اليمنى مغمضة و أعضائي متصلبة تنتظر أين ستأتيها الضربة القاضية . مسح معلمي بيده الكريمة على وجهي . لم أصدق ، و خلته ممازحا ، و توجست من اليد الكريمة خيفة حتى جاءني صوته الهادئ بكلمات جميلة تلتمس لي العذر و تبالغ في الإطراء على اجتهادي و سلوكي القويم ، و ما قمت به هو فقط بدافع حب الاستطلاع و التعطش المعرفي الذي لا يقاوم. سررت بهذا الكلام ، و لولا هذه الواقعة لما سمعته أبدا .
قمت و لثمت اليد الكريمة الخشنة في صمت ، ثم أقسمت أمام الجميع ألا أعود إلى فعلتي التي فعلت . ذ. محمد مباركي
" الجنة الأرضية ".هكذا ورثنا التسمية الجميلة. تنتصب الأشجار الوارفة العملاقة، كحرس دائم ، تراقب القريب و البعيد متحفزة للدفاع عن نظام بيئي متوازن . بجذورها تسرح في أعماق الأرض ،تمتص عذوبة المياه ، قبل أن تخرج من ينابيع تنزلق في جداول تتشعب كالشرايين ، تنثر الرطوبة و الأنسام ،
و قطرات الندى الصباحي تبلل الأعشاب، تنتجعها الحيوانات فتبرأ من الأسقام و تسمن و تتوالد.
و ينفجر عشقي لهذه الجنة الأرضية من وطني . أغيب عنها مضطرا ، فتكيل لي اللوم في صمت ،
و تولي عني وجهها الجميل في غنج ، لأصالحها كعشيقة بالعودة إليها ألتمس العفو و الشفاء ، بين أحضانها ، من الكدر و الشجن المقيت . أرجع إلى أيام الصبا أستحضر لحظاته الغائرة في الزمن ، أعاودها ، أمارسها عبر المسالك الوعرة الواصلة بين الدير و الجبل ، أمشي لأنسى آلام الظهر و المفاصل و نخر العظام. ثم أركب الدابة لتوصلني إلى مدرستي القديمة ، أين تعلمت أولى الحروف الأبجدية و فاتحة الكتاب
سلمت على مدرس شاب ، تملكني ذلك الشعور القديم ، ارتجفت يدي و كأني أسلم على معلمي
سي " قدور ". رحب بي المدرس ، فطلبت منه معروفا ، أن يسمح لي بدخول حجرة الدرس و الجلوس على مقعدي الأول. كان صغيرا ، جلست عليه نصف جلسة ، ضحك التلاميذ من هذا الأشيب كيف يتصابا . نهرهم المدرس فكفوا عن الضحك ، ليقدمني لهم على أني من قدماء تلاميذ هذه المدرسة . لم يهتموا للأمر أكثر من اهتمامهم بالصور التي التقطها لهم ، و ركزت على مقعدي الأول .
شكرت للمدرس صنيعه و خرجت للساحة الصغيرة ، جلست إلى شجرة الخروب، استللت من جيبي رغيفا ، نظرت إليه ، و بدأت في قضمه كما كنت أفعل في فترة الاستراحة . ابتسمت لما تذكرت فترة الاستراحة ،كانت هي القاعدة تتخللها أويقات للدراسة ليس إلا ، مع المعلم سي " قدور "، المعلم الوحيد في مدرسة الدوار ، يدرس كل مستويات الابتدائي ، و هو في ذات الوقت المدير و النائب الإقليمي
و معالي الوزير ، و إمام المسجد و كاتب العقود و الشاهد على أي زواج عرفي . كان متعدد المهام .
هو من أبناء المنطقة ، لكن لا أحد يعرف أين درس و أي شهادة يحمل ، المهم أنه يجيب على كل الأسئلة التي تطرح عليه في الدوار ، لا يشك أحد في إجاباته . كان أهل الدوار ينبهرون أكثر عند فتحه الكتب الصفراء التي يملكها ، قال أنه اشتراها من عاصمة العلم و العلماء ، يقلب أوراقها برفق شديد حتى لا تتفتت بين أصابعه الخشنة ، و عند الانتهاء من قراءة شيء منها ، أو يوهم الآخرين أنه يفعل ، يضعها بعناية و بكل إجلال و تقديس على رف خشبي في الحجرة ، و يغطيها بمنديل ،و لا يسمح لأي كان أن يقربها أو يلمسها . خلقت هذه العناية الكبيرة في نفوسنا شوقا جارفا إلى تصفحها و معرفة ما فيها ، و كنت أكثر زملائي جسارة عليها ، إذ سحبت كتابا من هذا " المخزون العظيم " ، وضعته على الطاولة
و اقترب زملائي في خشوع غير مصدقين ، و بدأت في تقليب أوراق الكتاب باحثا عن الصور التي أهمتني أكثر من الحروف بلهفة زائدة و دون احترام للكتاب . و أنظر بين الحين و الحين بخبث ظاهر إلى الأعين الصغيرة العاجزة و الخائفة . و فجأة سمعنا أحدهم يصرخ " المعلم .. المعلم " . ارتجفت كل فرائسي و نهضت لأضع الكتاب على الرف ، فخانتني يداي و سقط الكتاب و انفجرت أوراقه و ترامت دفتاه المصنوعتان من جلد الغزال ، كما كان قال معلمي دوما . تجمدت في مكاني و لم يرتد إلي طرفي ، و أصبت بالدوار ، و لم أتذكر ماذا وقع بعد ذلك.
استفقت من هذه الغيبوبة في منزلنا ، حملوني إليه على ظهر دابة تعثرت ، كما قالوا ، أكثر من مرة
و كدت أسقط ، استفقت بعد أن شممتني أمي ماء الزهر و الليمون ، فتحت عيني بصعوبة و حملقت في الوجوه الناظرة إلي ،فبرز لي وجه معلمي بين الوجوه ، فأغمضت عيني ثانية . كان وجهه قطعة من حديد بأنف معقوف و عينين جاحظتين و شفتين مزمومتين ، بدا كصقر يتحفز للانقضاض علي ، لكنني سمعته يهمس باسمي ، ففتحت عيني اليسرى و أبقيت اليمنى مغمضة و أعضائي متصلبة تنتظر أين ستأتيها الضربة القاضية . مسح معلمي بيده الكريمة على وجهي . لم أصدق ، و خلته ممازحا ، و توجست من اليد الكريمة خيفة حتى جاءني صوته الهادئ بكلمات جميلة تلتمس لي العذر و تبالغ في الإطراء على اجتهادي و سلوكي القويم ، و ما قمت به هو فقط بدافع حب الاستطلاع و التعطش المعرفي الذي لا يقاوم. سررت بهذا الكلام ، و لولا هذه الواقعة لما سمعته أبدا .
قمت و لثمت اليد الكريمة الخشنة في صمت ، ثم أقسمت أمام الجميع ألا أعود إلى فعلتي التي فعلت . ذ. محمد مباركي