كتاب كامل جورج سلوم - الفصل الثالث من رواية عنق الزجاجة..

الفصل الثالث

خنّاق الصدر



هذا اليوم ليسَ كغيره كما يبدو ..دوارٌ في رأسه وبرودة في أطرافه وفتورٌ في حيله ..طعامُه البارد أعاد تسخينه مرّات عديدة ولا شهيّة له ..الرؤية ضبابيّة ولا مطر في الخارج ..رأسه ثقيل وميّالٌ للنوم .

خطر له أن يتّصل ليعتذر عن موعد المساء ولكن لا بأسَ إن تأخّر عنها قليلاً ..يشعر بضيقٍ في صدره وزلّة في تنفسّه ..جائعٌ للهواء ويسحب أنفاسه بجهد جهيد .

كأنّ حنجرتَه ضاقت كعنق الزجاجة أيضاً ..وغدا أوكسجينه المُستنشَق كحبّات الرمل تجد صعوبة في العبور من خياشيمه إلى رئتيه ..وتجد صعوبة في الخروج عندما يزفرها.

وحتى الكلام الذي سينطِق به غدا صعباً في المرور عبر الحبال الصوتية المتشنّجة ..لقد انتقل عنق الزجاجة إلى حلقه وإن ضاق أكثر سيخنُقه ..كأنّه غدا محشوراً في عنق زجاجة الحياة !



قال الطبيب بعد أن أجرى له قثطرة لشرايين القلب :

-انظر هنالك تضيّق في الشريان الإكليلي الأيمن ..وهو تضيّقٌ مهمّ له شكل عنق الزجاجة ..والدم وكرياته الحمراء تجد صعوبة في العبور وهذا ما يفسّر الألم العاصر في صدرك ..نحن نسمّيه خنّاق الصدر .

والحلّ سيكون بمحاولة الدّخول عبر ذاك التضيق بالقثطار وفتح البالون ضمْنَه ..عسى أن نوسّع مكان التضيّق..عنق زجاجتك ضاق عليك ونحن سنحاول توسيعه بإذن الله .



بعدها بساعات زارته في المشفى وحاولت أن تبتسم قائلة :

-يبدو أنّ عنقَ الزجاجة صار في قلبك أيضاً !

-آه ..وحدّثني الطبيب عن أعناق كثيرة في جسدنا ..ضيّقة لكن ينبغي العبور منها كممرٍّ إجباري ..وعندما تتضيّق أكثر يتأزّم البدن كلّه استجابة لتلك الأزمة ..وكلّ نبضة ينبض بها قلبنا يفرض على كريات الدم الحمراء أن تمرّ من عنق الزجاجة ..ثم يسترخي فيسحبها ثانية ..جسمنا كالساعة الرملية تماماً دورات وانقلابات دوريّة .

يومان قضاهما في المشفى وتخرّج متحسّناً مع توصياتٍ طبية عديدة أهمّها المشي في الهواء الطلق ، والابتعاد ما أمكن عن عنق الزجاجة .

وقال الطبيب :

-عرفتُ بأنك مقبلٌ على زواج ..لا تجهِدْ قلبك ولا بأس إن تريّثت بمشروع الزواج لأشهر .

ما جرى معك بالضبط هو جلطةٌ عابرة ..خثرةٌ عبَرت عنق الزجاجة في شرايينك ، ولولا وسّعنا ذلك العنق لانحشَرَتْ فيكَ وحشرتك معها في عنق الزجاجة ..الحمد لله مرّت الحادثة مرور الكرام ، ومررْتَ معها من عنق الزجاجة .

انتبه نحن وضعنا شبكة معدنية في العنق المتضيّق للمحافظة على اتّساعه المطلوب ..ولكنّ الأمرَ قابلٌ للعودة في أعناق أخرى من سرير شرايينك القلبية الواسع .

ابتعد عن الزوايا الحادة في حياتك ..دوّرْها .

وعن الشدائد والضغط النفسيّ والضّيقات ..تجنّبْها

وعن التدخين ..احذرْه

أدويتك هي مميّعاتٌ للدم لتخفيف لزوجته وتسهيل انزلاق كرياته الحمراء من أعناق زجاجات شرايينك ..ميّع كل أحداث حياتك واطفُ فوقها ..اهرب منها لو استطعت ..فتنجو .



قال ذاك الطبيب كلماته بحكمة الواعظ وسلطانه ..وتفلسف عليه من منبره .. والمواعظُ سهلةٌ يا طبيب ..ولكنّ عنقَ الزجاجة ما نحن الذين ندخل به برغبتنا ..هو ..هو الذي يلحقنا ويطبق علينا كفكّي كمّاشة ..فكيف أميّع مصائبي وأتجاهلها ؟

كأنك تطلب مني التّناسي باللجوء إلى المخدّر والمسكر !

اعطني حبوباً منوّمة لو سمحت.

واعطِ مميّعاتك للقدر ..للمجتمع ..للكون كلّه ..فيخففّون الضغط عنا .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى