دخلت عليكِ المكتب شابّة في عمر الزّهور، كما كنتِ أنتِ قبل عشرين سنة مضت من حياتك المتعبة... دخلت عليكِ وفي عينيها وجع السّنين. أرسلها أحدهم يعرفك جيّدا. سألتكِ عن اسمك. حدّقتِ فيها مليّا مستنكرة سؤالها، وهززتِ رأسك، فتدلّت خُصْلَتُكِ كطرف غصن رطب. زادتك بهاءً رغم كونك قطّبتِ بين حاجبيك الهلالين... تجاهلتِ الفتاة الواقفة كصنم من لحم ودم، ودفنتِ وجهك في ملفّ، قلّبتِ أوراقه بنوع من الاهتمام الزّائد محاولة طرد الغضب الذي تملّكك في تلك اللّحظة... أنتِ هكذا منذ عشرين سنة، كلّما سألك أحدهم عن اسمك إلاّ وقفز قلبك إلى حلقك وتفصّد جسدك عرقا باردا برودة الصّقيع. تتبعه قُشعريرة تُرجفك كريشة من أرياش طائر مهاجر.
عاودت الفتاة المنتصبة أمام المكتب سؤالها. طنّ في طبلة أذنك كنقرة ناقوس. هببتِ واقفة بغضب وصرخت فيها:
"أنا لا أعرفك. لماذا تسألينني عن اسمي؟".
صفعتكِ بصمتها الثّقيل كما كُنْتِ أنتِ تصفعين من يَنهرك أو يصرخ فيك. وأعدتِ سؤالكِ عليها. واصلت صمتها الذي هيّجك، فصرختِ فيها:
"هيّا اخرجي من مكتبي".
رمت الفتاة بورقة مطويّة على المكتب وخرجتْ في صمت. رعبتِ من الورقة المطويّة كمثل الرّعب الذي يتملّككِ كلّما رأيتِ ورقة مطويّة... أغمضتِ عينيك وأزحتِ الورقة إلى الطّرف الأيمن من المكتب وغرقتِ في سهوم... حَرَّكْتِ الورقة المطويّة في ذاكرتك ذات اليمين وذات الشّمال وسألت نفسك أهي نفس الورقة التي خطّتها أناملك الرّقيقة وخبّأتها في سلّة ظاهرها قصب وباطنها كبد رطب عمره ثلاثة أيام؟ أهي نفس الورقة التي هدّدوك بها وابتزّوك أعواما؟ فهربتِ منهم ومن أيّ مكان يمكن أن يجدوكِ فيه؟ وتسلّلتِ عبر الحدود، وخلطتِ أوراق هُوّيتك، ووَلَدْتِ نفسك من جديد في وطن آخر لا يعرفكِ فيه أحد من الذين أنحوا عليك باللاّئمة في تلك الزّلّة التي حمّلوك وحدك ذنبها. وهَنَأْتِ بزوج سمحٍ ما سألك عن ماضيك يوما. قال لك منتشيا بحبّك:
"يا صاحبة العينين الزّرقاوين زرقة السّماء، الحبّ يجبّ ما قبله. لا ينبغي الالتفات إلى الوراء حيث الماضي يترصّدنا بوجهين متناقضين، وجه أسود ووجه أبيض. الأسود يركب الأبيض فيركمه. علينا يا حبيبتي أن نسقط الماضي من ذواتنا كي لا نتحوّل إلى ماضويين".
ثملتِ بكلامه. وها هو الماضي يعود إليك يافعا في صورة فتاة جميلة - كما كنتِ أنت - رمتك بورقة مطويّة طال الاصفرار حواشيها وصعدت منها رائحة الصّدف البحري...
مددتِ يدك المرتجفة إلى الورقة بهدوء وبعينين مغمضتين... طارت الورقة بجناحين غير مرئيين. تلقّفتها يد دخلت عليك المكتب في غفلة منك... سمعتِ زوجَك وزميلَك في العمل يسألك بصوت الحنون:
"ما هاته الورقة؟".
فتحتِ عينيك اللّوزيتين. ارتعدت فرائسك. انحبستِ الإجابة في حلقومك. أحسستِ بالشّلل يسري في أطرافك السّفلى. أغمضتِ عينيك ثانية. تراءت لك بدايةُ نهايةِ عُشّك السّعيد تلوح مع آخر كلمة ستسمعينها من زوجك وهو يقرأ فحوى الورقة:
"نحن ثلاث أخوات يتيمات، نرجو المساعدةَ أيّتها السّيّدة الفاضلة".
دمعت عيناك من فرح عارم.
* منشورة في مجلة روافد.
عاودت الفتاة المنتصبة أمام المكتب سؤالها. طنّ في طبلة أذنك كنقرة ناقوس. هببتِ واقفة بغضب وصرخت فيها:
"أنا لا أعرفك. لماذا تسألينني عن اسمي؟".
صفعتكِ بصمتها الثّقيل كما كُنْتِ أنتِ تصفعين من يَنهرك أو يصرخ فيك. وأعدتِ سؤالكِ عليها. واصلت صمتها الذي هيّجك، فصرختِ فيها:
"هيّا اخرجي من مكتبي".
رمت الفتاة بورقة مطويّة على المكتب وخرجتْ في صمت. رعبتِ من الورقة المطويّة كمثل الرّعب الذي يتملّككِ كلّما رأيتِ ورقة مطويّة... أغمضتِ عينيك وأزحتِ الورقة إلى الطّرف الأيمن من المكتب وغرقتِ في سهوم... حَرَّكْتِ الورقة المطويّة في ذاكرتك ذات اليمين وذات الشّمال وسألت نفسك أهي نفس الورقة التي خطّتها أناملك الرّقيقة وخبّأتها في سلّة ظاهرها قصب وباطنها كبد رطب عمره ثلاثة أيام؟ أهي نفس الورقة التي هدّدوك بها وابتزّوك أعواما؟ فهربتِ منهم ومن أيّ مكان يمكن أن يجدوكِ فيه؟ وتسلّلتِ عبر الحدود، وخلطتِ أوراق هُوّيتك، ووَلَدْتِ نفسك من جديد في وطن آخر لا يعرفكِ فيه أحد من الذين أنحوا عليك باللاّئمة في تلك الزّلّة التي حمّلوك وحدك ذنبها. وهَنَأْتِ بزوج سمحٍ ما سألك عن ماضيك يوما. قال لك منتشيا بحبّك:
"يا صاحبة العينين الزّرقاوين زرقة السّماء، الحبّ يجبّ ما قبله. لا ينبغي الالتفات إلى الوراء حيث الماضي يترصّدنا بوجهين متناقضين، وجه أسود ووجه أبيض. الأسود يركب الأبيض فيركمه. علينا يا حبيبتي أن نسقط الماضي من ذواتنا كي لا نتحوّل إلى ماضويين".
ثملتِ بكلامه. وها هو الماضي يعود إليك يافعا في صورة فتاة جميلة - كما كنتِ أنت - رمتك بورقة مطويّة طال الاصفرار حواشيها وصعدت منها رائحة الصّدف البحري...
مددتِ يدك المرتجفة إلى الورقة بهدوء وبعينين مغمضتين... طارت الورقة بجناحين غير مرئيين. تلقّفتها يد دخلت عليك المكتب في غفلة منك... سمعتِ زوجَك وزميلَك في العمل يسألك بصوت الحنون:
"ما هاته الورقة؟".
فتحتِ عينيك اللّوزيتين. ارتعدت فرائسك. انحبستِ الإجابة في حلقومك. أحسستِ بالشّلل يسري في أطرافك السّفلى. أغمضتِ عينيك ثانية. تراءت لك بدايةُ نهايةِ عُشّك السّعيد تلوح مع آخر كلمة ستسمعينها من زوجك وهو يقرأ فحوى الورقة:
"نحن ثلاث أخوات يتيمات، نرجو المساعدةَ أيّتها السّيّدة الفاضلة".
دمعت عيناك من فرح عارم.
* منشورة في مجلة روافد.