“ الثالثة صباحاً.. ليل إبريل العذب يأتي عبر النافذة، تداعب نجومه عيني.. أنا لا أستطيع النوم.. أنا سعيد جداً.
يغامرني شعور غريب، شعور غير مفهوم، من رأسي لقدمي.. لا أستطيع وصفه الآن.. لا أمتلك الوقت لهذا.. أنا كسول جداً.
لماذا يجب على المرء أن يشرح مشاعره حين يطير من برج مثلاً أو حين يعلم للتو أنه قد ربح مائتي ألف روبل؟ هل هو في حالة تسمح بذلك؟..”
هكذا كنت ابدأ خطاباتي لساشا؛ الفتاة ذات التسعة عشر عاماً والتي وقعت في حبها..
لقد بدأت الخطاب خمس مرات، وكالعادة، أمزق الأوراق وأعيد كتابته مرة أخرى.. إني أمضي في كتابة الخطاب وقتاً طويلاً كأني أكتب رواية.. وهذا لا يحدث لأنني أحاول كتابته طويلاً، أو أكثر دقة، أو أكثر حماسةً.. ولكن لأنني عندما أجلس في حجرتي في حالة سكينة، متأملاً أحلامي، ويظهر لي ليل الربيع عبر النافذة، فإني أريد أن أطيل عملية الكتابة نفسها إلى ما لا نهاية..
أرى صورة جميلة بين السطور، ويبدو لي كما لو أنه هناك أرواحاً سعيدة مبتسمة مثلي تجلس معي على الطاولة يكتبون معي..
مستمراً في الكتابة، وأنا أنظر ليدي، والتي ما زال بها ألم جميل بعدما ضغطت عليها بيديها.. وإذا أدرت عيني بعيداً ما زلت أرى التعريشة الخضراء للبوابة الصغيرة.. عبر هذه التعريشة، كانت ساشا تنظر إليّ بعدما ودعتها.
عندما قلت لها سلاماً، كنت لا أفكر في أي شئ. ببساطة، كنت معجباً بها جداً كما يُعجب كل رجل بامرأة جميلة.
وعندما رأيت عينيها الواسعتين تنظران لي عبر العريشة، فجأة وبإحساس مُلهّم، عرفت أني وقعت في حبها. لقد تم كل شئ بيننا ولا شئ يمكنني فعله الآن سوى بعض الإجراءات الشكلية.
إنه لمن الرائع أيضاً أن تختم خطاب حب، وببطء ترتدي قبعتك ومعطفك، وتخرج من منزلك برشاقة من يحمل الكنز لصندوق البريد.
الآن، لا نجوم في السماء.. بدلاً منهم، هناك خطوط بيضاء تظهر في الشرق يتخللها السحاب أعلى أسطح المنازل الداكنة، ومن خلال هذه الخطوط تمتلئ السماء كلها بضوء شاحب. المدينة نائمة، ولكن العربات التي تحمل المياه قد خرجت بالفعل، وفي مكان ما بعيداً فإني أسمع صوتاً من المصنع كي يوقظ العاملين به.
ندي خفيف بجوار صندوق البريد، وأنا أرى شبح حارس المنزل، يرتدي جلد الماعز ويحمل عصا.. يبدو في حالة أقرب إلى الإغماء.. هو ليس نائماً تماماً ولا مستيقظاً تماماً، هو في حالة بين الاثنين.
لو تعلم صناديق البريد كيف أن الناس يلجئون إليها عند تقرير مصائرهم، ربما لم يكن للصناديق أن تحمل كل هذا الهواء الجاف! على أي حال، فأنا تقريباً قبّلت صندوق بريدي وحين نظرت إليه تذكرت أنه هو أعظم النِعم.
أنا أطلب من كل انسان وقع في الحب، أن يتذكر كيف انه –عادةً- ما يسرع لمنزله بعد أن يلقي بالخطاب في صندوق البريد، يلقي بنفسه سريعاً في السرير ويغطي نفسه بالفراش، على قناعة تامة بأنه حينما يستيقظ في الصباح سيتذكر كل شئ حدث في اليوم السابق وينظر بسعادة إلى النافذة وأشعة الشمس التي تعرف طريقها بين ثنيات الستائر.
حسناً، في الحقيقة، في منتصف اليوم التالي، جائتني خادمة ساشا بهذا الرد: “أنا سعدة بالتأكيد لمجيئك اليوم من فضلك انتظر قدومك. حبيبتك”.
لا فاصلة واحدة! هذا النقص في علامات الترقيم، والخطأ الإملائي لكلمة “سعيدة”.. كل الخطاب، وحتى الظرف الضيق الطويل الذي وُضع فيه الخطاب ملأ قلبي بالحنان والرقة.
من هذه الكتابة الخجولة، عرفت طريقة مشي ساشا، طريقتها في رفع حاجبيها عندما تضحك، حركة شفتيها. ولكن محتوى الخطاب لم يرضيني.
أولاً: الخطابات الشاعرية لا يتم الرد عليها بهذه الطريقة، ثانياً: لماذا يجب عليّ الذهاب لمنزل ساشا والانتظار حتى تسمح لنا أمها البدينة وأخوتها وأقاربها أن يتركونا بمفردنا سوياً؟ إنهم لن يسمحوا بهذا أبداً، ولا شئ أكثر ضيقاً من أن تُمنع مسرات المرء، ببساطة بسبب تدخل بعض التافهين أمثال سيدة عجوز ضعيفة السمع أو فتاة صغيرة تضايق المرء بأسئلتها.
لذلك، أرسلت رداً مع الخادمة اسأل فيه ساشا إن كان بإمكانها أن تختار حديقة صغيرة لكي نتقابل فيها. وقوبل اقتراحي بالموافقة، لقد ضربت على الوتر الصحيح كما يقولون في الأمثال.
بين الرابعة والخامسة مساء اليوم، سلكت طريقي إلى أبعد وأجمل مكان بالحديقة. لم يكن هناك شخص واحد بها، ربما كان مكان تجمع المحبين في بقعة ما قريباً من تعريشات الأشجار، ولكن النساء لا يحبون أنصاف المقابلات الرومانسية؛ إذا بدأتها فلتكملها. ولذلك إذا كنت في الحديقة من أجل لقاء حبيبك، فليكن اللقاء في أبعد مكان يصعب اختراقه حيث تتجنب مصادفة لقاء رجل سكير أو شخص صعب المراس.
عندما ذهبت إلى ساشا، كانت تقف بظهرها لي، وفي هذا الظهر كنت أستطيع قراءة الكثير من الألغاز. لقد بدا وكأن هذا الظهر ومؤخر عنقها والبقع السوداء على فستانها تقول لي: اسكت!..
كانت الفتاة ترتدي فستان بسيط من القطن وعليه كاب خفيف. ولكي تضيف مسحة من الغموض، كان وجهها مُغطى بحجاب أبيض.
ولكي لا أفسد هذا الجو، كان عليّ أن أقترب منها على حواف أصابعي وأهمس بالكلام.
مما أتذكره الآن، فأنا لم أكن أهم شئ في المقابلة كتفاصيل المقابلة ذاتها. ساشا لم تكن مستغرقة في الحوار كما كانت في التفاصيل الرومانسية الغامضة؛ قبلاتي، صمت الأشجار القاتمة، وعودي لها.. لم تكن هناك دقيقة نسيت فيها نفسها، قد سيطرت، أو تركت التعبيرات الغامضة تظهر على وجهها. وحقيقة إذا كان هناك إيفان سيدوريتش أو سيدور إيفانتش في مكاني كانت لتكون سعيدة كذلك. كيف للمرء أن يحدد في مثل هذه الظروف إن كان فعلاً يحب أو لا؟ إن كان الحب هو “الشئ الحقيقي” أم لا؟
تركنا الحديقة، وأخذت ساشا معي إلى البيت. وجود إمرأة جميلة في حي أعزب مثلي له تأثير كتأثير الخمر والموسيقى. عادةً يبدأ المرء في الكلام عن المستقبل، وبثقة وباعتزاز بالنفس أكثر من اللازم. تفكر في الخطط والمشاريع المستقبلية، تتكلم بحماسة جنرال على الرغم من أنك لم تصل لرتبة رائد، وتأمل تماماً عندما تقول هذا الهراء بأن مستمعك يجب أن يكون على قدر كبير من الحب لك وتجاهل أمور الحياة ليبادلك الحب.
لحسن حظ الرجال، فإن المرأة المُحبة دائمأً تعميها مشاعرها ولا تعرف أي شئ عن الحياة. وإذا كانت لا توافقك الحب، فإنها حقيقةً يشحب وجهها وتمتلئ بالخشوع وتبحث عن الكلمات المجنونة لتقذفك بها.
استمعت ساشا لي بكل اهتمام، ولكن سرعان ما لاحظت على وجهها أنها شاردة الذهن، هي لا تفهمني. كلامي عن المستقبل كان يهمها من ناحيته الشكلية فقط وكنت أضيّع وقتي في الحديث معها عن مشاريعي وخططي. لقد كانت مهتمة جداً بمعرفة ما هي الغرفة التي ستكون لها؟ وما هي أوراق الحائط التي ستزين غرفتها؟ لماذا أمتلك مثلاً بيانو عمودي بدلأً من بيانو أفقي.. وما إلى ذلك من الأمور.
لقد فحصت بعناية شديدة كل الأشياء التي على طاولتي، وشاهدت الصور، شمتّ الزجاجات الفارغة، نزعت الطوابع القديمة عن أظرفها وأخذتهم قائلة انها تحتاجهم لشئ ما.
“من فضلك، اجمع الطوابع القديمة لي!” ونظرت إليّ بوجه عظيم. “من فضلك، افعل ذلك”.
بعد ذلك، وجدت قطعة بندق في الشباك، كسرتها وأكلتها.
“لماذا لا تضع علامات في نهايات كتبك؟” سألتني، وهي تنظر لمكتبتي.
“ولماذا أفعل؟”
“اوه! لكي يكون لكل كتاب رقمه. وأين سأضع كتبي؟ تعرف، أنا أيضاً لدي كتب.”
“ما نوع الكتب التي لديكِ؟”
رفعت حاجبيها وصمتت للحظة، ثم قالت:
“كل الأنواع.”
وإذا خطر على بالي أن اسألها، فيم تفكر، ما قناعاتها، ما هي أهدافها، كانت بلا شك سترفع حاجبيها وللحظة تصمت وترد بنفس الطريقة: “كل الأنواع”.
بعدها، زرت ساشا بانتظام، أصبحنا مخطوبين رسمياً، أصبح كل شئ بحساب حتى ميعاد زفافنا.
لو سمح لي القارئ أن أحكم ببساطة من تجربتي الشخصية، فإنى أرى أنه كونك خاطباً فهو شئ كئيب جداً، بعيد عن كونك زوج أو أنك لا شئ إطلاقاً. الرجل الخاطب لا شئ من هذا ولا ذاك. لقد ترك جانباً واحداً من النهر ولم يصل بعد للجانب الآخر. هو ليس متزوجاً وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن القول بأنه عازباً. لكنه في حالة لا تختلف عن حالة حارس المنزل التي ذكرتها من قبل.
كل يوم حينما تتوفر الفرصة، أذهب سريعاً لخطيبتي. وكلما ذهبت أحمل في قلبي أطنان من الآمال، والرغبات، والتطلعات والاقتراحات والكثير من الكلام الجميل. دائماً أتخيل انه بمجرد أن تفتح الخادمة الباب لي ، وهذا من الإحساس بالقهر والتعب، كأنني أغطس فوراً حتى عنقي في بحر من السعادة المتجددة. ولكن دائماً ما أصاب بخيبات الأمل في الحقيقة. ففي كل مرة أذهب لرؤية خطيبتي أجد كل أفراد عائلتها وباقي أفراد المنزل مشغولين بهذا السخف المُسمى بجهاز العروس. وعلى كل حال، فقد كانوا مشغولين بأعمال الخياطة مدة شهرين وبعد ذلك كان لديهم من المشغولات ما يُقدر بأقل من مائة روبل. كان هناك رائحة حديد، شمع، شحم ودخان.
تكسدت أهم غرفتين بالمنزل بكتل من الكتان والشاش، ومن بين هذه الكتل ظهر وجه ساشا الصغير تحمل خيطاً بين أسنانها!
بكثير من صيحات السعادة كان مُرحباً بي في حفلات أعمال الخياطة تلك، ولكن فجأة كان يتم طردي لحجرة الغذاء. هنا لا أستطيع أن أعطل عملهم ولا أرى ما يجب أن يراه الأزواج فقط. على الرغم من مشاعري، كان يجب عليّ أن أجلس في حجرة الغذاء وأن أتحدث مع بيمينوفنا؛ إحدى قريبات ساشا. ساشا والتي تبدو قلقة ومنفعلة، تلاحقني وهي تحمل إبرة أو بعض خيط من الصوف أو مثل هذه الأشياء السخيفة.
“انتظر.. انتظر.. لحظة وسآتي..” كانت تقول ذلك حين أنظر إليها متوسلاً. “تخيّل ان ستيبانيدا البائسة تلك قد أفسدت صدر فستان الباريج*!”
وبعد الانتظار عبثاً من أجل هذه الجميلة، فقدت صوابي وخرجت من المنزل، أمشي في الطرقات بصحبة العصا التي اشتريتها.
ومرة عندما كنت أريد أن أخرج مع خطيبتي للتنزه في الشوارع أو السير بالعربة سوياً، ذهبت إليها ووجدتها مستعدة تنتظرني في صالة المنزل مع أمها، والتي كانت مستعدة للخروج كذلك وتلعب بمظلتها.
“اوه! نحن ذاهبون للمعرض” كانت تقول ذلك. “يجب أن نشتري بعض الأقمشة وأن نغيّر القبعة.”
أضطر للخروج مع النساء والذهاب إلى المعرض. شئ ممل جداً الاستماع للنساء حين يشترون، ويساومون البائع يحاولن التفوق عليه. لقد شعرت بالخزي بعد أن بحثت ساشا في أكثر المعروضات وحاولت تخفيض الثمن لأقله، ثم خرجت دون أن تشتري شيئاً، وفي محل آخر طلبت من البائع أن يخفض لها ما قيمته أقل من نصف روبل!
عندما تركوا المحل، بوجوه قلقة، تناقشت ساشا وأمها طويلاً أنهم ارتكبوا خطئاً، أنهم اشتروا شيئاً رديئاً، الورد المرسوم على القماش كان قاتم جداً، وهكذا..
صحيح، أن تكون خاطباً هو شئ ممل جداً.. أنا سعيد لانتهاء هذا كله.
الآن أصبحت متزوجاً. هذا المساء، أجلس في غرفة الدراسة اقرأ، وخلفي على الأريكة، تجلس ساشا تمضغ شيئاً بصوت مزعج. أريد كوباً من البيرة.
“ساشا، ابحثي عن مفتاح الزجاجة”.. أقول لها “إنه في مكان ما.”
تقفز ساشا من مكانها، تبحث بطريقة عشوائية بين كومتين أو ثلاث من الورق، ودون أن تجد المفتاح، تجلس مكانها ثانية في صمت.
خمس دقائق تمر.. عشرة.. ابدأ في الانزعاج بسبب كل من العطش والغيظ.
“ ساشا، عليكِ أن تجدي المفتاح” .
تقفز ساشا من مكانها ثانية، وتقلب في الأوراق القريبة مني. طريقة مضغها وصوت بعثرة الورق كأنني أسمع صوت سكينتين حادتين تواجه إحداهما الأخرى.. أقف عن مكاني وأبحث بنفسي عن المفتاح. أخيراً أجد المفتاح وأفتح زجاجة البيرة. ساشا تقف بجوار الطاولة وتحدثني حديثاً طويلاً.
“من الأفضل ان تقرأي شيئاً يا ساشا” .
تأخذ كتاباً، وتجلس في مواجهتي وتبدأ في حريك شفتيها. أنظر إلى جبهتها الصغيرة وشفتيها المتحركتين وأغرق في التفكير.
أفكر أنها ستكون قريباً في العشرين من عمرها..لو أخذ المرء شاباً من الطبقة المثقفة، وفي نفس العمر، وقارن بينهما، ما الفرق! الشاب غالباً سيكون لديه ثقافة وقناعات وبعض الذكاء.
ولكني أتسامح مع هذا الاختلاف كما أتسامح مع هذه الجبهة الصغيرة والشفاه المتحركة.. أتذكر أنني، في أيام الحب الفائتة، ربما تخلصت من بعض النساء بسبب صبغة على جواربهن، أو من أجل كلمة حمقاء واحدة، أو لأجل عدم نظافة أسنانهن، والآن انا متسامح مع كل شئ: المضغ، بعثرة الأوراق، الإهمال، الحديث لفترة طويلة في شئ غير ذي أهمية على الإطلاق، أنا أسامح في هذا كله تقريباً دون وعي مني، بلا مجهود وبلا إرادة. كأنما أخطاء ساشا هي أخطائي أنا. والكثير من الأشياء التي كانت تجعلني منزعجاً قبل ذلك جعلتني الآن أكثر رقة وربما أكثر سعادة. الأكيد ان تفسير هذا التسامح في كل شئ كان بسبب حبي لساشا. أما ما تفسير هذا الحب نفسه، فلا أعلم حقاً.
الباريج: فستان من الحرير أو القطن والصوف، يصنع في فرنسا.
يغامرني شعور غريب، شعور غير مفهوم، من رأسي لقدمي.. لا أستطيع وصفه الآن.. لا أمتلك الوقت لهذا.. أنا كسول جداً.
لماذا يجب على المرء أن يشرح مشاعره حين يطير من برج مثلاً أو حين يعلم للتو أنه قد ربح مائتي ألف روبل؟ هل هو في حالة تسمح بذلك؟..”
هكذا كنت ابدأ خطاباتي لساشا؛ الفتاة ذات التسعة عشر عاماً والتي وقعت في حبها..
لقد بدأت الخطاب خمس مرات، وكالعادة، أمزق الأوراق وأعيد كتابته مرة أخرى.. إني أمضي في كتابة الخطاب وقتاً طويلاً كأني أكتب رواية.. وهذا لا يحدث لأنني أحاول كتابته طويلاً، أو أكثر دقة، أو أكثر حماسةً.. ولكن لأنني عندما أجلس في حجرتي في حالة سكينة، متأملاً أحلامي، ويظهر لي ليل الربيع عبر النافذة، فإني أريد أن أطيل عملية الكتابة نفسها إلى ما لا نهاية..
أرى صورة جميلة بين السطور، ويبدو لي كما لو أنه هناك أرواحاً سعيدة مبتسمة مثلي تجلس معي على الطاولة يكتبون معي..
مستمراً في الكتابة، وأنا أنظر ليدي، والتي ما زال بها ألم جميل بعدما ضغطت عليها بيديها.. وإذا أدرت عيني بعيداً ما زلت أرى التعريشة الخضراء للبوابة الصغيرة.. عبر هذه التعريشة، كانت ساشا تنظر إليّ بعدما ودعتها.
عندما قلت لها سلاماً، كنت لا أفكر في أي شئ. ببساطة، كنت معجباً بها جداً كما يُعجب كل رجل بامرأة جميلة.
وعندما رأيت عينيها الواسعتين تنظران لي عبر العريشة، فجأة وبإحساس مُلهّم، عرفت أني وقعت في حبها. لقد تم كل شئ بيننا ولا شئ يمكنني فعله الآن سوى بعض الإجراءات الشكلية.
إنه لمن الرائع أيضاً أن تختم خطاب حب، وببطء ترتدي قبعتك ومعطفك، وتخرج من منزلك برشاقة من يحمل الكنز لصندوق البريد.
الآن، لا نجوم في السماء.. بدلاً منهم، هناك خطوط بيضاء تظهر في الشرق يتخللها السحاب أعلى أسطح المنازل الداكنة، ومن خلال هذه الخطوط تمتلئ السماء كلها بضوء شاحب. المدينة نائمة، ولكن العربات التي تحمل المياه قد خرجت بالفعل، وفي مكان ما بعيداً فإني أسمع صوتاً من المصنع كي يوقظ العاملين به.
ندي خفيف بجوار صندوق البريد، وأنا أرى شبح حارس المنزل، يرتدي جلد الماعز ويحمل عصا.. يبدو في حالة أقرب إلى الإغماء.. هو ليس نائماً تماماً ولا مستيقظاً تماماً، هو في حالة بين الاثنين.
لو تعلم صناديق البريد كيف أن الناس يلجئون إليها عند تقرير مصائرهم، ربما لم يكن للصناديق أن تحمل كل هذا الهواء الجاف! على أي حال، فأنا تقريباً قبّلت صندوق بريدي وحين نظرت إليه تذكرت أنه هو أعظم النِعم.
أنا أطلب من كل انسان وقع في الحب، أن يتذكر كيف انه –عادةً- ما يسرع لمنزله بعد أن يلقي بالخطاب في صندوق البريد، يلقي بنفسه سريعاً في السرير ويغطي نفسه بالفراش، على قناعة تامة بأنه حينما يستيقظ في الصباح سيتذكر كل شئ حدث في اليوم السابق وينظر بسعادة إلى النافذة وأشعة الشمس التي تعرف طريقها بين ثنيات الستائر.
حسناً، في الحقيقة، في منتصف اليوم التالي، جائتني خادمة ساشا بهذا الرد: “أنا سعدة بالتأكيد لمجيئك اليوم من فضلك انتظر قدومك. حبيبتك”.
لا فاصلة واحدة! هذا النقص في علامات الترقيم، والخطأ الإملائي لكلمة “سعيدة”.. كل الخطاب، وحتى الظرف الضيق الطويل الذي وُضع فيه الخطاب ملأ قلبي بالحنان والرقة.
من هذه الكتابة الخجولة، عرفت طريقة مشي ساشا، طريقتها في رفع حاجبيها عندما تضحك، حركة شفتيها. ولكن محتوى الخطاب لم يرضيني.
أولاً: الخطابات الشاعرية لا يتم الرد عليها بهذه الطريقة، ثانياً: لماذا يجب عليّ الذهاب لمنزل ساشا والانتظار حتى تسمح لنا أمها البدينة وأخوتها وأقاربها أن يتركونا بمفردنا سوياً؟ إنهم لن يسمحوا بهذا أبداً، ولا شئ أكثر ضيقاً من أن تُمنع مسرات المرء، ببساطة بسبب تدخل بعض التافهين أمثال سيدة عجوز ضعيفة السمع أو فتاة صغيرة تضايق المرء بأسئلتها.
لذلك، أرسلت رداً مع الخادمة اسأل فيه ساشا إن كان بإمكانها أن تختار حديقة صغيرة لكي نتقابل فيها. وقوبل اقتراحي بالموافقة، لقد ضربت على الوتر الصحيح كما يقولون في الأمثال.
بين الرابعة والخامسة مساء اليوم، سلكت طريقي إلى أبعد وأجمل مكان بالحديقة. لم يكن هناك شخص واحد بها، ربما كان مكان تجمع المحبين في بقعة ما قريباً من تعريشات الأشجار، ولكن النساء لا يحبون أنصاف المقابلات الرومانسية؛ إذا بدأتها فلتكملها. ولذلك إذا كنت في الحديقة من أجل لقاء حبيبك، فليكن اللقاء في أبعد مكان يصعب اختراقه حيث تتجنب مصادفة لقاء رجل سكير أو شخص صعب المراس.
عندما ذهبت إلى ساشا، كانت تقف بظهرها لي، وفي هذا الظهر كنت أستطيع قراءة الكثير من الألغاز. لقد بدا وكأن هذا الظهر ومؤخر عنقها والبقع السوداء على فستانها تقول لي: اسكت!..
كانت الفتاة ترتدي فستان بسيط من القطن وعليه كاب خفيف. ولكي تضيف مسحة من الغموض، كان وجهها مُغطى بحجاب أبيض.
ولكي لا أفسد هذا الجو، كان عليّ أن أقترب منها على حواف أصابعي وأهمس بالكلام.
مما أتذكره الآن، فأنا لم أكن أهم شئ في المقابلة كتفاصيل المقابلة ذاتها. ساشا لم تكن مستغرقة في الحوار كما كانت في التفاصيل الرومانسية الغامضة؛ قبلاتي، صمت الأشجار القاتمة، وعودي لها.. لم تكن هناك دقيقة نسيت فيها نفسها، قد سيطرت، أو تركت التعبيرات الغامضة تظهر على وجهها. وحقيقة إذا كان هناك إيفان سيدوريتش أو سيدور إيفانتش في مكاني كانت لتكون سعيدة كذلك. كيف للمرء أن يحدد في مثل هذه الظروف إن كان فعلاً يحب أو لا؟ إن كان الحب هو “الشئ الحقيقي” أم لا؟
تركنا الحديقة، وأخذت ساشا معي إلى البيت. وجود إمرأة جميلة في حي أعزب مثلي له تأثير كتأثير الخمر والموسيقى. عادةً يبدأ المرء في الكلام عن المستقبل، وبثقة وباعتزاز بالنفس أكثر من اللازم. تفكر في الخطط والمشاريع المستقبلية، تتكلم بحماسة جنرال على الرغم من أنك لم تصل لرتبة رائد، وتأمل تماماً عندما تقول هذا الهراء بأن مستمعك يجب أن يكون على قدر كبير من الحب لك وتجاهل أمور الحياة ليبادلك الحب.
لحسن حظ الرجال، فإن المرأة المُحبة دائمأً تعميها مشاعرها ولا تعرف أي شئ عن الحياة. وإذا كانت لا توافقك الحب، فإنها حقيقةً يشحب وجهها وتمتلئ بالخشوع وتبحث عن الكلمات المجنونة لتقذفك بها.
استمعت ساشا لي بكل اهتمام، ولكن سرعان ما لاحظت على وجهها أنها شاردة الذهن، هي لا تفهمني. كلامي عن المستقبل كان يهمها من ناحيته الشكلية فقط وكنت أضيّع وقتي في الحديث معها عن مشاريعي وخططي. لقد كانت مهتمة جداً بمعرفة ما هي الغرفة التي ستكون لها؟ وما هي أوراق الحائط التي ستزين غرفتها؟ لماذا أمتلك مثلاً بيانو عمودي بدلأً من بيانو أفقي.. وما إلى ذلك من الأمور.
لقد فحصت بعناية شديدة كل الأشياء التي على طاولتي، وشاهدت الصور، شمتّ الزجاجات الفارغة، نزعت الطوابع القديمة عن أظرفها وأخذتهم قائلة انها تحتاجهم لشئ ما.
“من فضلك، اجمع الطوابع القديمة لي!” ونظرت إليّ بوجه عظيم. “من فضلك، افعل ذلك”.
بعد ذلك، وجدت قطعة بندق في الشباك، كسرتها وأكلتها.
“لماذا لا تضع علامات في نهايات كتبك؟” سألتني، وهي تنظر لمكتبتي.
“ولماذا أفعل؟”
“اوه! لكي يكون لكل كتاب رقمه. وأين سأضع كتبي؟ تعرف، أنا أيضاً لدي كتب.”
“ما نوع الكتب التي لديكِ؟”
رفعت حاجبيها وصمتت للحظة، ثم قالت:
“كل الأنواع.”
وإذا خطر على بالي أن اسألها، فيم تفكر، ما قناعاتها، ما هي أهدافها، كانت بلا شك سترفع حاجبيها وللحظة تصمت وترد بنفس الطريقة: “كل الأنواع”.
بعدها، زرت ساشا بانتظام، أصبحنا مخطوبين رسمياً، أصبح كل شئ بحساب حتى ميعاد زفافنا.
لو سمح لي القارئ أن أحكم ببساطة من تجربتي الشخصية، فإنى أرى أنه كونك خاطباً فهو شئ كئيب جداً، بعيد عن كونك زوج أو أنك لا شئ إطلاقاً. الرجل الخاطب لا شئ من هذا ولا ذاك. لقد ترك جانباً واحداً من النهر ولم يصل بعد للجانب الآخر. هو ليس متزوجاً وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن القول بأنه عازباً. لكنه في حالة لا تختلف عن حالة حارس المنزل التي ذكرتها من قبل.
كل يوم حينما تتوفر الفرصة، أذهب سريعاً لخطيبتي. وكلما ذهبت أحمل في قلبي أطنان من الآمال، والرغبات، والتطلعات والاقتراحات والكثير من الكلام الجميل. دائماً أتخيل انه بمجرد أن تفتح الخادمة الباب لي ، وهذا من الإحساس بالقهر والتعب، كأنني أغطس فوراً حتى عنقي في بحر من السعادة المتجددة. ولكن دائماً ما أصاب بخيبات الأمل في الحقيقة. ففي كل مرة أذهب لرؤية خطيبتي أجد كل أفراد عائلتها وباقي أفراد المنزل مشغولين بهذا السخف المُسمى بجهاز العروس. وعلى كل حال، فقد كانوا مشغولين بأعمال الخياطة مدة شهرين وبعد ذلك كان لديهم من المشغولات ما يُقدر بأقل من مائة روبل. كان هناك رائحة حديد، شمع، شحم ودخان.
تكسدت أهم غرفتين بالمنزل بكتل من الكتان والشاش، ومن بين هذه الكتل ظهر وجه ساشا الصغير تحمل خيطاً بين أسنانها!
بكثير من صيحات السعادة كان مُرحباً بي في حفلات أعمال الخياطة تلك، ولكن فجأة كان يتم طردي لحجرة الغذاء. هنا لا أستطيع أن أعطل عملهم ولا أرى ما يجب أن يراه الأزواج فقط. على الرغم من مشاعري، كان يجب عليّ أن أجلس في حجرة الغذاء وأن أتحدث مع بيمينوفنا؛ إحدى قريبات ساشا. ساشا والتي تبدو قلقة ومنفعلة، تلاحقني وهي تحمل إبرة أو بعض خيط من الصوف أو مثل هذه الأشياء السخيفة.
“انتظر.. انتظر.. لحظة وسآتي..” كانت تقول ذلك حين أنظر إليها متوسلاً. “تخيّل ان ستيبانيدا البائسة تلك قد أفسدت صدر فستان الباريج*!”
وبعد الانتظار عبثاً من أجل هذه الجميلة، فقدت صوابي وخرجت من المنزل، أمشي في الطرقات بصحبة العصا التي اشتريتها.
ومرة عندما كنت أريد أن أخرج مع خطيبتي للتنزه في الشوارع أو السير بالعربة سوياً، ذهبت إليها ووجدتها مستعدة تنتظرني في صالة المنزل مع أمها، والتي كانت مستعدة للخروج كذلك وتلعب بمظلتها.
“اوه! نحن ذاهبون للمعرض” كانت تقول ذلك. “يجب أن نشتري بعض الأقمشة وأن نغيّر القبعة.”
أضطر للخروج مع النساء والذهاب إلى المعرض. شئ ممل جداً الاستماع للنساء حين يشترون، ويساومون البائع يحاولن التفوق عليه. لقد شعرت بالخزي بعد أن بحثت ساشا في أكثر المعروضات وحاولت تخفيض الثمن لأقله، ثم خرجت دون أن تشتري شيئاً، وفي محل آخر طلبت من البائع أن يخفض لها ما قيمته أقل من نصف روبل!
عندما تركوا المحل، بوجوه قلقة، تناقشت ساشا وأمها طويلاً أنهم ارتكبوا خطئاً، أنهم اشتروا شيئاً رديئاً، الورد المرسوم على القماش كان قاتم جداً، وهكذا..
صحيح، أن تكون خاطباً هو شئ ممل جداً.. أنا سعيد لانتهاء هذا كله.
الآن أصبحت متزوجاً. هذا المساء، أجلس في غرفة الدراسة اقرأ، وخلفي على الأريكة، تجلس ساشا تمضغ شيئاً بصوت مزعج. أريد كوباً من البيرة.
“ساشا، ابحثي عن مفتاح الزجاجة”.. أقول لها “إنه في مكان ما.”
تقفز ساشا من مكانها، تبحث بطريقة عشوائية بين كومتين أو ثلاث من الورق، ودون أن تجد المفتاح، تجلس مكانها ثانية في صمت.
خمس دقائق تمر.. عشرة.. ابدأ في الانزعاج بسبب كل من العطش والغيظ.
“ ساشا، عليكِ أن تجدي المفتاح” .
تقفز ساشا من مكانها ثانية، وتقلب في الأوراق القريبة مني. طريقة مضغها وصوت بعثرة الورق كأنني أسمع صوت سكينتين حادتين تواجه إحداهما الأخرى.. أقف عن مكاني وأبحث بنفسي عن المفتاح. أخيراً أجد المفتاح وأفتح زجاجة البيرة. ساشا تقف بجوار الطاولة وتحدثني حديثاً طويلاً.
“من الأفضل ان تقرأي شيئاً يا ساشا” .
تأخذ كتاباً، وتجلس في مواجهتي وتبدأ في حريك شفتيها. أنظر إلى جبهتها الصغيرة وشفتيها المتحركتين وأغرق في التفكير.
أفكر أنها ستكون قريباً في العشرين من عمرها..لو أخذ المرء شاباً من الطبقة المثقفة، وفي نفس العمر، وقارن بينهما، ما الفرق! الشاب غالباً سيكون لديه ثقافة وقناعات وبعض الذكاء.
ولكني أتسامح مع هذا الاختلاف كما أتسامح مع هذه الجبهة الصغيرة والشفاه المتحركة.. أتذكر أنني، في أيام الحب الفائتة، ربما تخلصت من بعض النساء بسبب صبغة على جواربهن، أو من أجل كلمة حمقاء واحدة، أو لأجل عدم نظافة أسنانهن، والآن انا متسامح مع كل شئ: المضغ، بعثرة الأوراق، الإهمال، الحديث لفترة طويلة في شئ غير ذي أهمية على الإطلاق، أنا أسامح في هذا كله تقريباً دون وعي مني، بلا مجهود وبلا إرادة. كأنما أخطاء ساشا هي أخطائي أنا. والكثير من الأشياء التي كانت تجعلني منزعجاً قبل ذلك جعلتني الآن أكثر رقة وربما أكثر سعادة. الأكيد ان تفسير هذا التسامح في كل شئ كان بسبب حبي لساشا. أما ما تفسير هذا الحب نفسه، فلا أعلم حقاً.
الباريج: فستان من الحرير أو القطن والصوف، يصنع في فرنسا.