وبكل ما أوتيت من قوة قفزت فى جوف البرميل البلاستيكى الكبير ، وانكمشت فى الظلمة التى يعلوها قبة من الضوء ، خائفاً .. مرتعشاً .
كان واحداً من عدة براميل كبيرة ومتجاورة بلون أزرق قاتم ، مصطفة دونما انتظام بجوار حائط رطب . ولحظة اندفاعى تجاهه استطعت أن ألمح قليل من النفايات المنزلية تنتشر حوله .
قبعت ساكناً لفترة ، واستطعت بقوة قاهرة أن أكتم لهاثى الناتج عن جرى متواصل بسرعة واندفاع عداء فى أربع شوارع متفاوتة الطول .
والآن ..آه .. الآن .. استطعت وبمحاولات فريدة تنفيذ وقف مؤقت لسير الدم فى عروقى ، إذ من الممكن لخيط الدم الذى يتدفق من ساعدى أن يشير إلى مكمنى فى البرميل . أغلقت عينى فى اللحظة المناسبة تماماً ، تلك اللحظة التى اقتربَت فيها أصوات أحذية جنود الأمن ، كانت أحذية ضخمة ذات رقبة تصل حتى منتصف الساق ، وكانت تطرقع على الأسفلت كطواحين .
اقترب حذاء كان يجرى من بعيد ، سمعت صوت طرقعاته المتسارعة على الأسفلت ، ثم انخفضت سرعة الطرقعات بيد أن صوتها كان يتضح شيئاً فشيئاً ، واستطعت سماع صوت أنفاسه فوقى تماماً .. يا ويحى ..تُرى هل يرتجف البرميل فيدركنى ، إذ أنه فى هذه اللحظة لم أستطع منع جسدى من الارتجاف ، والسبب .. نعم السبب الوحيد هى هذه الأذن الحمقاء التى سمعت صوت الطرقعات وتسببت فى توتر جسدى ، لذا كان علىّ بعد ابتعاده البطئ أن أبحث فى جوف البرميل عن أية خرق قماشية أسد بها أذنى ، وعندما فعلت قررت فى أريحية أن أحدا ً من هؤلاء الجنود الإسبرطيين لن يستطيع اكتشافى أبداً ، لأن جسدى سيتوقف تماماً عن التوتر والارتعاش ، فتنهدت بارتياح .
إإإيه .. الآن أتنهد بارتياح ..كمكافأة على قدرتى وكفائتى فى إدارة معركة الاختفاء والانزواء ، ملتصقاً بالجدار المزيت للبرميل ، متعايشاً بأقصى ما أستطيع مع رائحته التى لم أفكر أبداً فى إدراك مصدرها .
ظل دماغى فى سكون قطعة أسفنج حية تنبض دون تفكير فى شئ .
هكذا ظللت حابساً أفكارى ، مانعاً عقلى من الاسترسال حتى لا أرتجف ، حتى لحظة الأمان التى تجلت الآن . وقد تجلت هذه اللحظة المدهشة عندما تغير لون قبة البرميل من الأبيض إلى الأسود ، فبدأت أعنف نفسى :
كيف أمكنك أن تشارك مجانين فى مظاهرة تعسة لا طائل من ورائها .. إإيه .. فقط من أجل زيادة رواتبكم فى الهيئة العامة لقصور الثقافة ..أأف .. وما ضير المرتب .. حتى لو كان أقل مرتب فى الدولة فأنت تعيش على أية حال . ما كان لك أن تستمع لهؤلاء الغوغائيين الذين قرروا فجأة تنظيم مظاهرة.
مظاهرة !! أف .. أية فكرة مجنونة قمنا بها .. إذ ربما كان من الأجدى .. آه طبعاً .. ربما كان من العقل لو استطعت إقناعهم بتقديم طلب رسمى بزيادة المرتبات إلى مدير الموقع الثقافى الذى نشغله ، والذى سيرفعه إلى مدير الفرع الثقافى ، وهذا إذا كان متعاوناً ومتفهماً ، وأظن أنه كذلك سيرفعه بدوره إلى رئيس الإقليم الثقافى ، الذى ربما يستطيع أن يحاول مجرد محاولة فى عرضه على رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة ، والذى وبقدر من الحنكة السياسية فى اختيار التوقيت ، سيقوم بعرضه على وزير الثقافة ، وما الضير حتى لو قام الوزير بركنه فى درج مكتبه لشهور .. فربما يأتى الوقت الذى يتمكن فيه من عرض الطلب على وزير المالية لتوفير اعتمادات ومخصصات إضافية لهذه الزيادة .
هكذا بكل بساطة سيتم الأمر .. دون مظاهرات ودون ضرب بالهراوات على ساعدك الذى تسيل منه الدماء كل وقت .
أوغاد ومجانين .. يظنون أنهم بهذه المظاهرة سيلوون ذراع الحكومة .
أف لا تقل لى إنكم جربتم كل هذه الإجراءات البيروقراطية لمدى سنوات ، وما ضير ذلك ، فالحكمة تقول إنه لا يضيع حق وراءه مُطالب . هل كانت ستصيبك هراوة على ساعدك فتجرحه، وهل كانت ستصيبك لطمة على الخد من يد متوحش إسبرطى . طبعاً لم يكن شيئاً من هذا ليحدث ، لماذا يتحتم علينا اختيار الطريق الأصعب .. طالماً كانت الطرق الأكثر صعوبة مفتوحة بترحاب .
. . .
لم يكن بمقدورى معرفة مصير زملائى ، وما إذا كانت العاصفة الإسبرطية قد أصابتهم ، أو لعل بعضهم قابع الآن مثلى فى براميل أخرى بشوارع أخرى ..
ربما كان علىّ أن أعترف .. كنا نشبه وردات ذابلة .. بالكاد ترفع أجسادنا رؤوسها ، وحين انتظمنا فى المظاهرة وارتفعت أصواتنا تألقنا وشعرنا بحياة جديدة وماء جديد يصب فى أوصالنا .. ولكن ربما كان الخطأ فى اختيار المكان والزمان ، فلم يكن مناسباً أبداً تعطيل حركة السير فى شارع مهم كشارع القصر العينى ، خاصة أن مبنى البرلمان يقبع فى بدايته بحراساته المشددة ، كما أن اليوم كان السابق على زيارة الرئيس لافتتاح الدورة البرلمانية الجديدة ،كان ينبغى توخى الحذر . ولكن وبعد عدة ساعات من الهدوء ، لم يترك لنا الجنود أدنى فرصة ، كانوا يندفعون من عرباتهم الكبيرة كأسراب نمل أعمى يتدفق من مخابئه .. منتظمين فى صفوف لا تُصدق !!
ولكن لا مثيل للدهشة القادمة ..
كان ابن أخى ضمن صفوف الجنود .. هو .. هو ابن أخى بسترة سوداء ورأس حليق و" بيريه " أسود بخط أحمر فى المنتصف ، هو بشاربه الأخضر الذى يظهر بالكاد فى وجهه ، لقد وقف أمامى مباشرة .. ورأيته ، ولكن بدا أنه أعمى . ثم وبتعليمات من الضابط الذى تلمع على كتفه سيوف ونسور ذهبية وضعوا الخوذات على رؤوسهم ، وظللت أرى وجهه من وراء الغطاء الزجاجى رغم ذلك . اتخذوا وضع الاستعداد ، ورأيتهم يشهرون الهراوات والعصىّ ، وعندما هجموا لم أصدق أن ابن أخى سيضرب ، ولكنه ضرب .. ضربنى على ساعدى الذى تحرك لاتقاء الضربة التى كانت موجهة لرأسى بالأساس ، وبالتأكيد كان هناك شئ يشبه مسماراً أو قطع حديد بارزة على الهراوة بحيث أحدثت جرحاً بطول ساعدى ، هو الذى ينزف الآن دون توقف ، ودون قدرة لى على وقفه . إذ قررت فى البرميل ألا أتحرك قيد أنملة ، فربما يكون إسبرطى قابع بجوار البرميل ينتظر خروجى ..
وقررت احتمال الدماء .. هكذا ببساطة .
بعد ذلك طاردونا فى كل الشوارع ، كنا ننظر إليهم يندفعون وراءنا جرياً بأحذيتهم الكبيرة التى تطرقع على الأسفلت ، كانوا يجرون مباعدين بين أقدامهم قاصدين الطرقعة على الأرض بأعلى صوت يمكن التوصل إليه . بدوا كمومياوات انبعثت من ركام الأرض وعادت لها الحياة فجأة ، إذ كنت أشك فى أنهم يرون أو يسمعون إذ كان ابن أخى لا يرانى ، أو بإمكانى القول كان ينظر إلىَّ ولا يرانى ..
عندما انتشرنا فى هروبنا الكبير فى كل الشوارع المتفرعة ، استطعنا فى جرينا المتلاحق رؤية هؤلاء الأغبياء الذين انطمست بصائرهم بفعل الخوف فاندفعوا فى شارع يفضى إلى قسم شرطة ، ويبدو أن جنود حراسة القسم حين رأوهم يندفعون باتجاههم أرسلوا معلومة خاطئة مفادها أن المتظاهرين يحاولون الاستيلاء على القسم ، هذا ما يفسر طلقات النيران التى اندفعت فجأة فحصدت تسعة موظفين يتقاضون ثلاثمائة جنيه ، وكانوا يطمحون فى أن تكون أربعمائة .. آه .. أربعمائة فقط .
. . .
الآن تحول الضوء إلى الأسود الفاحم فى قبة البرميل ، فاستطعت إحصاء كل النجمات المتاحة فى دائرة البرميل . تُرى كم من الوقت قضيت أو ربما عشت مدركاً ومفعماً بإنسانيتى التى استطعت إبقاءها حية . وفجأة اختفت النجمات فى قبة البرميل ، وأصابنى الرعب حين شعرت بكتل غامضة مشبعة بسائل على جسدى ووجهى .. ساخنة وكريهة . كان محض سكران يتقيأ .
وعندما عاد الضوء المبهج إلى قبة البرميل ابتهجت .. وارتاحت نفسيتى المتعكرة .
الآن هبطت الشمس على فوهة البرميل ، شعرت بصفاء هذه الأشعة الأخاذة التى بعثت فى جسدى الدفء ، فعاودنى إدراكى بالحياة تمضى ، وعدت أفكر فى إمكانية الخروج أو البقاء لأيام حتى تهدأ الأجواء فى الخارج ، وأخيراً قررت فى ترحيب لائق البقاء لأجل غير محدد .
وفى منتصف النهار تهيأ لى أنى أسمع صوتاً أعرفه ، فنزعت الخرقة من أذنى ، اتضح الصوت تماماً واندهشت ، كان صوتاً يشبه صوتى . سمعت صوت زحزحات للبراميل المجاورة وأيد تعبث بها .. ثم صوت أقدام تقترب ، وأخيراً وجهى على فوهة البرميل .
ما الذى يمكننى تفسيره ، وكيف أقطع بقدرتى على التفسير حين رأيت شخصاً يشبهنى يطل من قبة البرميل البيضاء ، كنت أنا مبتسماً وقوياً كما لم أكن ، فتحيرت حيرة جميلة وهادئة ومطمئنة ، مد يده إلى داخلى المظلم والتقط هاتفى ، فاستطعت أن أرى جرحى على ساعده ، ملفوفاً بضمادة بيضاء وشاش أبيض .
كان واحداً من عدة براميل كبيرة ومتجاورة بلون أزرق قاتم ، مصطفة دونما انتظام بجوار حائط رطب . ولحظة اندفاعى تجاهه استطعت أن ألمح قليل من النفايات المنزلية تنتشر حوله .
قبعت ساكناً لفترة ، واستطعت بقوة قاهرة أن أكتم لهاثى الناتج عن جرى متواصل بسرعة واندفاع عداء فى أربع شوارع متفاوتة الطول .
والآن ..آه .. الآن .. استطعت وبمحاولات فريدة تنفيذ وقف مؤقت لسير الدم فى عروقى ، إذ من الممكن لخيط الدم الذى يتدفق من ساعدى أن يشير إلى مكمنى فى البرميل . أغلقت عينى فى اللحظة المناسبة تماماً ، تلك اللحظة التى اقتربَت فيها أصوات أحذية جنود الأمن ، كانت أحذية ضخمة ذات رقبة تصل حتى منتصف الساق ، وكانت تطرقع على الأسفلت كطواحين .
اقترب حذاء كان يجرى من بعيد ، سمعت صوت طرقعاته المتسارعة على الأسفلت ، ثم انخفضت سرعة الطرقعات بيد أن صوتها كان يتضح شيئاً فشيئاً ، واستطعت سماع صوت أنفاسه فوقى تماماً .. يا ويحى ..تُرى هل يرتجف البرميل فيدركنى ، إذ أنه فى هذه اللحظة لم أستطع منع جسدى من الارتجاف ، والسبب .. نعم السبب الوحيد هى هذه الأذن الحمقاء التى سمعت صوت الطرقعات وتسببت فى توتر جسدى ، لذا كان علىّ بعد ابتعاده البطئ أن أبحث فى جوف البرميل عن أية خرق قماشية أسد بها أذنى ، وعندما فعلت قررت فى أريحية أن أحدا ً من هؤلاء الجنود الإسبرطيين لن يستطيع اكتشافى أبداً ، لأن جسدى سيتوقف تماماً عن التوتر والارتعاش ، فتنهدت بارتياح .
إإإيه .. الآن أتنهد بارتياح ..كمكافأة على قدرتى وكفائتى فى إدارة معركة الاختفاء والانزواء ، ملتصقاً بالجدار المزيت للبرميل ، متعايشاً بأقصى ما أستطيع مع رائحته التى لم أفكر أبداً فى إدراك مصدرها .
ظل دماغى فى سكون قطعة أسفنج حية تنبض دون تفكير فى شئ .
هكذا ظللت حابساً أفكارى ، مانعاً عقلى من الاسترسال حتى لا أرتجف ، حتى لحظة الأمان التى تجلت الآن . وقد تجلت هذه اللحظة المدهشة عندما تغير لون قبة البرميل من الأبيض إلى الأسود ، فبدأت أعنف نفسى :
كيف أمكنك أن تشارك مجانين فى مظاهرة تعسة لا طائل من ورائها .. إإيه .. فقط من أجل زيادة رواتبكم فى الهيئة العامة لقصور الثقافة ..أأف .. وما ضير المرتب .. حتى لو كان أقل مرتب فى الدولة فأنت تعيش على أية حال . ما كان لك أن تستمع لهؤلاء الغوغائيين الذين قرروا فجأة تنظيم مظاهرة.
مظاهرة !! أف .. أية فكرة مجنونة قمنا بها .. إذ ربما كان من الأجدى .. آه طبعاً .. ربما كان من العقل لو استطعت إقناعهم بتقديم طلب رسمى بزيادة المرتبات إلى مدير الموقع الثقافى الذى نشغله ، والذى سيرفعه إلى مدير الفرع الثقافى ، وهذا إذا كان متعاوناً ومتفهماً ، وأظن أنه كذلك سيرفعه بدوره إلى رئيس الإقليم الثقافى ، الذى ربما يستطيع أن يحاول مجرد محاولة فى عرضه على رئيس الهيئة العامة لقصور الثقافة ، والذى وبقدر من الحنكة السياسية فى اختيار التوقيت ، سيقوم بعرضه على وزير الثقافة ، وما الضير حتى لو قام الوزير بركنه فى درج مكتبه لشهور .. فربما يأتى الوقت الذى يتمكن فيه من عرض الطلب على وزير المالية لتوفير اعتمادات ومخصصات إضافية لهذه الزيادة .
هكذا بكل بساطة سيتم الأمر .. دون مظاهرات ودون ضرب بالهراوات على ساعدك الذى تسيل منه الدماء كل وقت .
أوغاد ومجانين .. يظنون أنهم بهذه المظاهرة سيلوون ذراع الحكومة .
أف لا تقل لى إنكم جربتم كل هذه الإجراءات البيروقراطية لمدى سنوات ، وما ضير ذلك ، فالحكمة تقول إنه لا يضيع حق وراءه مُطالب . هل كانت ستصيبك هراوة على ساعدك فتجرحه، وهل كانت ستصيبك لطمة على الخد من يد متوحش إسبرطى . طبعاً لم يكن شيئاً من هذا ليحدث ، لماذا يتحتم علينا اختيار الطريق الأصعب .. طالماً كانت الطرق الأكثر صعوبة مفتوحة بترحاب .
. . .
لم يكن بمقدورى معرفة مصير زملائى ، وما إذا كانت العاصفة الإسبرطية قد أصابتهم ، أو لعل بعضهم قابع الآن مثلى فى براميل أخرى بشوارع أخرى ..
ربما كان علىّ أن أعترف .. كنا نشبه وردات ذابلة .. بالكاد ترفع أجسادنا رؤوسها ، وحين انتظمنا فى المظاهرة وارتفعت أصواتنا تألقنا وشعرنا بحياة جديدة وماء جديد يصب فى أوصالنا .. ولكن ربما كان الخطأ فى اختيار المكان والزمان ، فلم يكن مناسباً أبداً تعطيل حركة السير فى شارع مهم كشارع القصر العينى ، خاصة أن مبنى البرلمان يقبع فى بدايته بحراساته المشددة ، كما أن اليوم كان السابق على زيارة الرئيس لافتتاح الدورة البرلمانية الجديدة ،كان ينبغى توخى الحذر . ولكن وبعد عدة ساعات من الهدوء ، لم يترك لنا الجنود أدنى فرصة ، كانوا يندفعون من عرباتهم الكبيرة كأسراب نمل أعمى يتدفق من مخابئه .. منتظمين فى صفوف لا تُصدق !!
ولكن لا مثيل للدهشة القادمة ..
كان ابن أخى ضمن صفوف الجنود .. هو .. هو ابن أخى بسترة سوداء ورأس حليق و" بيريه " أسود بخط أحمر فى المنتصف ، هو بشاربه الأخضر الذى يظهر بالكاد فى وجهه ، لقد وقف أمامى مباشرة .. ورأيته ، ولكن بدا أنه أعمى . ثم وبتعليمات من الضابط الذى تلمع على كتفه سيوف ونسور ذهبية وضعوا الخوذات على رؤوسهم ، وظللت أرى وجهه من وراء الغطاء الزجاجى رغم ذلك . اتخذوا وضع الاستعداد ، ورأيتهم يشهرون الهراوات والعصىّ ، وعندما هجموا لم أصدق أن ابن أخى سيضرب ، ولكنه ضرب .. ضربنى على ساعدى الذى تحرك لاتقاء الضربة التى كانت موجهة لرأسى بالأساس ، وبالتأكيد كان هناك شئ يشبه مسماراً أو قطع حديد بارزة على الهراوة بحيث أحدثت جرحاً بطول ساعدى ، هو الذى ينزف الآن دون توقف ، ودون قدرة لى على وقفه . إذ قررت فى البرميل ألا أتحرك قيد أنملة ، فربما يكون إسبرطى قابع بجوار البرميل ينتظر خروجى ..
وقررت احتمال الدماء .. هكذا ببساطة .
بعد ذلك طاردونا فى كل الشوارع ، كنا ننظر إليهم يندفعون وراءنا جرياً بأحذيتهم الكبيرة التى تطرقع على الأسفلت ، كانوا يجرون مباعدين بين أقدامهم قاصدين الطرقعة على الأرض بأعلى صوت يمكن التوصل إليه . بدوا كمومياوات انبعثت من ركام الأرض وعادت لها الحياة فجأة ، إذ كنت أشك فى أنهم يرون أو يسمعون إذ كان ابن أخى لا يرانى ، أو بإمكانى القول كان ينظر إلىَّ ولا يرانى ..
عندما انتشرنا فى هروبنا الكبير فى كل الشوارع المتفرعة ، استطعنا فى جرينا المتلاحق رؤية هؤلاء الأغبياء الذين انطمست بصائرهم بفعل الخوف فاندفعوا فى شارع يفضى إلى قسم شرطة ، ويبدو أن جنود حراسة القسم حين رأوهم يندفعون باتجاههم أرسلوا معلومة خاطئة مفادها أن المتظاهرين يحاولون الاستيلاء على القسم ، هذا ما يفسر طلقات النيران التى اندفعت فجأة فحصدت تسعة موظفين يتقاضون ثلاثمائة جنيه ، وكانوا يطمحون فى أن تكون أربعمائة .. آه .. أربعمائة فقط .
. . .
الآن تحول الضوء إلى الأسود الفاحم فى قبة البرميل ، فاستطعت إحصاء كل النجمات المتاحة فى دائرة البرميل . تُرى كم من الوقت قضيت أو ربما عشت مدركاً ومفعماً بإنسانيتى التى استطعت إبقاءها حية . وفجأة اختفت النجمات فى قبة البرميل ، وأصابنى الرعب حين شعرت بكتل غامضة مشبعة بسائل على جسدى ووجهى .. ساخنة وكريهة . كان محض سكران يتقيأ .
وعندما عاد الضوء المبهج إلى قبة البرميل ابتهجت .. وارتاحت نفسيتى المتعكرة .
الآن هبطت الشمس على فوهة البرميل ، شعرت بصفاء هذه الأشعة الأخاذة التى بعثت فى جسدى الدفء ، فعاودنى إدراكى بالحياة تمضى ، وعدت أفكر فى إمكانية الخروج أو البقاء لأيام حتى تهدأ الأجواء فى الخارج ، وأخيراً قررت فى ترحيب لائق البقاء لأجل غير محدد .
وفى منتصف النهار تهيأ لى أنى أسمع صوتاً أعرفه ، فنزعت الخرقة من أذنى ، اتضح الصوت تماماً واندهشت ، كان صوتاً يشبه صوتى . سمعت صوت زحزحات للبراميل المجاورة وأيد تعبث بها .. ثم صوت أقدام تقترب ، وأخيراً وجهى على فوهة البرميل .
ما الذى يمكننى تفسيره ، وكيف أقطع بقدرتى على التفسير حين رأيت شخصاً يشبهنى يطل من قبة البرميل البيضاء ، كنت أنا مبتسماً وقوياً كما لم أكن ، فتحيرت حيرة جميلة وهادئة ومطمئنة ، مد يده إلى داخلى المظلم والتقط هاتفى ، فاستطعت أن أرى جرحى على ساعده ، ملفوفاً بضمادة بيضاء وشاش أبيض .