كَبُرَ في بيت لا أحد يُعلّم فيه أحدًا… فقط يتعلم الصواب والخطأ بالممارسة، ومن خلال مراقبته للآخرين، وبالطريقة التي يُحسّن له خياله الأشياء من حوله، لتبدو بصورة أجمل. أحيانًا يرى السكون أفضل من الحركة، فيبدو متجمدًا في مكانه، وفي أحيان أخرى يرى في كل جُرف حماسة مكثفة، فيتخذ من الحواف الخطرة مكانًا آمنًا له. تباينت نسبة تقييم ذكائه في أوساط معلميه، فمنهم من رآه ذكيًّا، وبالطبع هناك من وسمه بالتخلف العقلي الحاد.
جدٌّ وجدةٌ هما الأكثر اصطدامًا بالأبواب، ونسيانًا لموعد ذهاب الحفيد للمدرسة؛ لأنهما يقضيان نصف يومهما نائمين، ونصفه الآخر في محاولة مستعجلة لتذكير بعضهما بقصص، يبدو محوها أسهل على الذاكرة من استرجاعها. أحصى الحفيد الفروق الشاهقة بين الجدين في لحظات نومهما الكثيرة، ولم يفته تمييز الأمر الوحيد المشترك بينهما، لحظة استيقاظهما في أي وقت من ساعات النهار الطويل، ألا وهو قولهما له العبارة نفسها في كل مرة، ولكن بدرجات تعجب متفاوتة: «لِمَ لمْ تَنَمْ بعدُ أيها الصغير؟».
مساء ذلك اليوم، وبينما أصابع الجدة مرتخية فوق إناء تنخل فيه بعض الدقيق، برز لوهلة من تحت أصابعها بعض السوس. أطل بسواده اللامع، قبل أن يعود ليختفي في أعماق البياض كذاكرتها. حينها تلفتتْ بفزع وكأن الغرفة تضيق بها، وهي تسأل، بصوت يشارف على البكاء، عن ابنها المتوفى منذ ثلاثة أعوام:« أين سعد؟ سعد … سعد !!». لم يجبها العجوز فشفتاه تصليان باتجاه السقف، لكن الحفيد الذي يخطئ في تهجِّي اسمه، قام إليها ملتقطًا في طريقه غترة لا يرتديها جده إلا في صلاة الجمعة. وقف بين فخذيها، اللذين يعانيان غيابًا نسبيًّا للحم، كإبهام لطيف برأس موازية لرأسها، ثم رفع يده ورمى «بالغترة» بشكل عشوائي ومائل فوق رأسه، ليختفي معظم وجهه تحتها، وهو يخرج صوتًا يظنه عميقًا، ليبدو أكثر رجولة… ألقت الجدة بنظرة مشجعة للحفيد الرجل، بينما تعابير وجهها، تتبدل كانفراجة زرقاء في سماء غائمة.
فاطمة عبد الحميد
* نقلا عن:
ثلاث قصص | مجلة الفيصل
جدٌّ وجدةٌ هما الأكثر اصطدامًا بالأبواب، ونسيانًا لموعد ذهاب الحفيد للمدرسة؛ لأنهما يقضيان نصف يومهما نائمين، ونصفه الآخر في محاولة مستعجلة لتذكير بعضهما بقصص، يبدو محوها أسهل على الذاكرة من استرجاعها. أحصى الحفيد الفروق الشاهقة بين الجدين في لحظات نومهما الكثيرة، ولم يفته تمييز الأمر الوحيد المشترك بينهما، لحظة استيقاظهما في أي وقت من ساعات النهار الطويل، ألا وهو قولهما له العبارة نفسها في كل مرة، ولكن بدرجات تعجب متفاوتة: «لِمَ لمْ تَنَمْ بعدُ أيها الصغير؟».
مساء ذلك اليوم، وبينما أصابع الجدة مرتخية فوق إناء تنخل فيه بعض الدقيق، برز لوهلة من تحت أصابعها بعض السوس. أطل بسواده اللامع، قبل أن يعود ليختفي في أعماق البياض كذاكرتها. حينها تلفتتْ بفزع وكأن الغرفة تضيق بها، وهي تسأل، بصوت يشارف على البكاء، عن ابنها المتوفى منذ ثلاثة أعوام:« أين سعد؟ سعد … سعد !!». لم يجبها العجوز فشفتاه تصليان باتجاه السقف، لكن الحفيد الذي يخطئ في تهجِّي اسمه، قام إليها ملتقطًا في طريقه غترة لا يرتديها جده إلا في صلاة الجمعة. وقف بين فخذيها، اللذين يعانيان غيابًا نسبيًّا للحم، كإبهام لطيف برأس موازية لرأسها، ثم رفع يده ورمى «بالغترة» بشكل عشوائي ومائل فوق رأسه، ليختفي معظم وجهه تحتها، وهو يخرج صوتًا يظنه عميقًا، ليبدو أكثر رجولة… ألقت الجدة بنظرة مشجعة للحفيد الرجل، بينما تعابير وجهها، تتبدل كانفراجة زرقاء في سماء غائمة.
فاطمة عبد الحميد
* نقلا عن:
ثلاث قصص | مجلة الفيصل