ألحق سيجارته المخنوقة للتو بأخرى فتيّة، تصاعد الدخّان من بين أصابعه الرثّة وهو يقطع الممر جيئة وذهابًا تتبعه نظرات رفاقه بترقّب. كان أنين الفتى المنبطح في الزاوية قد بدأ بالهدوء. الموعد بعد عشر دقائق، سوف يعلم أبو يزن حينها إن استطاع ذوو المخطوف الحصول على المبلغ المطلوب، وهذا ما يأمل، فقتل الفتى لن يأتي له إلا بالندم وحكمٍ الإعدام يومًا ما، بينما يحمل الخيار الثاني بين طيّاته مبلغًا وقدره سبعة ملايين ليرة سوريّة، وهذا المبلغ -لأبي يزن ورفاقه- كان حلمًا صعب المنال، فهم ثلاثة رجال كان اثنان منهم يعملان كسائقَي تاكسي، بينما الثالث أبو يزن شرطيّ مرور. أخرج الأخير مفتاح دراجته والتفت إلى شركاء الجريمة: "فيقوه لياكل بالصرماية، صار جلد على عظم". قالها وخرج مسرعًا، كان قد قرر تأجيل الاتصال ساعتين إضافيتين.
****
في أحد أيام صيف عام 2013، كان قد هدأ صوت القصف بعد ساعات متواصلة من ضجيج الموت، كان قد بدأ خمول الظهيرة يتسلل إلى الشوارع بخجل حين مرّ زياد بسرعةٍ أمام باب المطبخ كشبح، لم تستطع الأم ترك تحريك الطعام لتلحق به لكنه صاح وقد اقترب من الباب: "نازل شوي وراجع". فصاحت له بدورها طالبةً منه ألا يتأخر عن موعد الطعام.
بعد غروب الشمس، عاد أعمام زياد وبعض شبّان العائلة لأمه بعيونٍ ترنو إلى الأرض بعد بحث دام بضع ساعات. بحثوا عنه في كل مكان، عند أصدقائه، في المطاعم والمقاهي، في المستشفيات وأقسام الشرطة أيضًا، بحثوا مطولًا، دون جدوى.
يبدو أن المدن تغدو صغيرة كغرفة مكتظة، حين نحتاج بعض الوقت مع الوحدة، وتصبح أوسع من المدى حين نبحث عمّن نحب. وصل أبو زياد متأخرًا بعض الوقت من العاصمة هذه المرة، وبنظرة سريعة على المجتمعين حول الأم الباكية علم أن ثمة مكروه ما، وقبل استحضار أسوأ الاحتمالات ظهر العمّ ليخبره بأن زيادًا قد اختفى منذ الظهيرة، ولا معلومات عنه نهائيًا.
أراح وجهه بين راحتيه دون أن ينطق بكلمة، تذكّره نائمًا على الجنب الأيمن صباح ذلك اليوم، تطل قدمه اليمنى من أسفل الغطاء وهو يطلق شخيرًا ناعمًا ورقيقًا لا يوحي بوزنه الزائد ولا خشونة صوته. مرّ بغرفته دون أن يودعه، اكتفى بنظرةٍ سريعةٍ عليه ومضى ليلحق الباص. افترسته كلّ الذكريات دفعةً واحدة، هذا زياد! وحيده، قد يكون الآن مقتولًا أو مخطوفًا أو معتقلًا، وفي الاحتمالات الثلاثة لا يملك ما يقدمه له. هذا العاجز الذي لطالما شعر -أسوةً بمعظم الآباء هناك- بأنه لا يملك شيئًا يقدمه.
في أولى ساعات الصباح أتت المكالمة أخيرًا، عشرة ملايين ليرة سورية هو المبلغ المطلوب، لم يسمح لأبي زياد أن يحدّث ابنه أو يسمع صوته، وهُدد -كما جرت العادة- بأنه سوف يستقبل ابنه جثة مشوّهة فيما لو سمح للشرطة أو أطرافٍ أخرى بالتدخل.
قال له الصوت البعيد بأنه سوف يعاود الاتصال بعد أسبوع. سبعة أيام إذن، هذا الوقت الذي يعادل سبعين عامًا دون الاطمئنان على ابنهم الوحيد، بينما يحلّق هذا الوقت بسرعة سبع ساعات حين يتذكّر أبو زياد ضرورة جمع مبلغ وقدره عشرة ملايين ليرة! وهو الموظّف البسيط في وزارة الإعلام السورية. بدأ صراع الوقت. السهر، جلد الذات، العتاب، البكاء، استقبال الزوار... كلها أصبحت من التفاصيل اليومية في البيت الذي طالما احتضن أحلام زياد وخيباته.
في هذه الأثناء، كان الأخير يُعامل بشكلٍ جيد نسبيًا لدى خاطفيه، وبقيت المعاملة الجيدة هذه حتى انتهى الاتصال الثاني، حينها أيقن أبو يزن أن المبلغ المطلوب لن يأتي بالسهولة المتوقعة، شيءٌ ما لم يجرِ كما خُطط له. وهذا زاد من احتقان الأجواء.
كان الشاب الجميل الذي أنهى دراسته منذ بضعة أشهر فقط، قد أكد مرارًا لأبي يزن أن المبلغ حتمًا بحوزة الجدّة، هي التي يُعتقد بأنها تكدّس الملايين في أماكن سرية وغريبة لا تخطر في بال أحد. لكن بعد أن مضى أكثر من أسبوعين على اختطاف زياد دون أن يتم جلب المبلغ، بات من المرجح فعلًا أن تكون حكايا طارق غير دقيقة، أو أن العجوز قد قررت الاحتفاظ بمالها ليومٍ أكثر سوادًا. كلّ الاحتمالات واردة. ازدياد التوتر طغى على الأجواء في الشقة الصغيرة، وأصبح زياد المتنفَّس الوحيد لغضب الرجال الثلاثة، ولكي ينتقموا من كلّ مشاكلهم الحياتية، كلّ ساعة تمضي تحمل معها الاحتمالات الأكثر سوءًا، كما تنذر بما لا تشتهيه نفوس الخاطفين.
ها قد مضى على اختطاف زياد شهر كامل، وما زالت عائلته تحاول كسب وقتٍ إضافيّ، علمًا أنه قد تم تخفيض المبلغ إلى سبعة ملايين ليرة سورية. والدة زياد باعت كلّ ما تملك من مجوهرات، كما قام والده وعدد من أفراد العائلة بجمع مبلغٍ من المال وصل الثلاثة ملايين ليرة كان معظمها تبرّعًا من أم سمير، الجدة. لجأ أبو يزن إلى أساليب جديدة لنشر حالةٍ من الهلع بين أفراد العائلة، فكان يتصل ليقول تارةً بأن زياد يعاني من مرضٍ مبهم وأنه يتغوّط دمًا، وتارةً أخرى يقول إنّ الأخير خسر عددًا من أسنانه لقاء بعض اللكمات من عناصر غير منضبطين.
وهذا الأسلوب أوصل الأم لأن تقوم بجولاتٍ يومية على الأصدقاء والمعارف طلبًا للمال. قليلون هم الذين ساهموا بمبالغ مالية، لكن معظمهم ساهم بالتخفيف عنها بسرد قصص معظمها محض خيال عن مختطفين أطلق سراحهم سابقًا، كما طمأنها الجميع أن الخاطفين يريدون المال بالشكل الأساسي، وأنهم يخافون جريمة القتل لكثرة ما قد تعرضهم للمتاعب والمخاطر. وصدقتهم، فهي الغريقة التي تريد أن ترى في كلّ موجةٍ فرصةً تقذفها إلى الشاطئ. هي التي صارعت الألم كي لا تسقط وتهدي الخاطفين انتصارًا مبكرًا. كانت تطبخ في كلّ يوم بالرغم من كثرة صواني الطعام التي كانت تصلها تضامنًا من الجيران والأقارب كما العادة في أوقات الشدائد. في كلّ ليلة أوقدت شمعة لابنها الذي لم يعتد أكل ما لا تطبخ يداها، لم تفقد الأمل، عرفت أنه امتحانٌ قاسٍ من الله ولا بد أن تجتازه. في إحدى الليالي مشت ببطء نحو زوجها الذي كان يدخّن سيجارته قبيل النوم وقالت "لو الله بدو يحرمنا منو كان مات بحادث" إشارة لأن زياد لم يزل حيًا، وثمة أمل بعودته سالمًا. فابتسم لها ذاك المنهك الروح وقال "بعمرنا ما آذينا حدا، بعد بكير على زياد".
أما المخطوف الذي بدا وكأنه فقد نصف وزنه، كان جلّ ما يتمناه أن تنقضي ليلته دون ركلات أبي يزن، أو صراخ أمجد عزيز الهيستيريّ. طارق ثالث الخاطفين، لم يقابل المخطوف أبدًا، لكنّه كان حاضرًا في أغلب جلسات التعذيب غير المبرر التي تعرّض لها زياد، وكان سببًا في إيقاف معظمها. اعترف المخطوف عن مجوهرات والدته، عن سيارة أبيه، وكلّ ما قد يتحوّل إلى مال في المنزل من أجهزة تلفاز وكمبيوتر وهواتف محمولة. بدأ مخزون الصبر لدى أبي يزن بالنفاذ، شوهد مرارًا يدخل غرفة المخطوف بعد أن يشرب حتى الثمالة، يقفل الباب ويخرج بعد ما يقارب الساعة الكاملة، يشرب سيجارته الرخيصة ويمضي خارجًا. ازدادت المشاكل بين الخاطفين، اقترح أمجد عزيز أن يقبلوا بما جمعه ذوو المخطوف من مال، بينما اقترح طارق مرارًا بأن يخلوا سبيله بعد أن ثبت أنه تحوّل إلى عبء ثقيل، بدل أن يكون طوق نجاة من حياة الفقر والقهر. أما زعيم العصابة المنشأة حديثًا، أبو يزن، رغب عن الانسحاب قبل تحقيق الهدف المرجو من العملية.
دخل أبو زياد منزله بصمت، ألقى بنفسه منهكًا على الأريكة، أمامه الكثير من النقود، كان بعضها بحقائب صغيرة متفاوتة الأحجام، والبعض الآخر مبعثرٌ على امتداد الطاولة. إنها خمسة ملايين ليرة سورية وسنوات من التعب والشقاء والأحلام، كما حمل المبلغ المفروش على الطاولة الكثير من الحرج والخجل والانكسار، والثقل الذي سوف يلازم أبا زياد طيلة حياته. أشعل سيجارةً وجلس يشربها بصمت. هذا كلّ ما يستطيع جمعه، فإما أن يطلقوا له وحيده الآن أو أن يقتلوه ليقتل نفسه وراءه. كان من المفترض أن يتصل الخاطفون بعد أربعة أيام، لكن الاتصال أتى باكرًا، ولحسن الحظ وافق الخاطفون على المبلغ المعروض دونما نقاش. الشروط واضحة، يذهب أبو يزن برفقة شخصٍ واحدٍ فقط إلى المكان المتفق عليه، وبحوزته المبلغ كاملًا، أكد الخاطفون أنهم سوف ينشرون عناصرهم في المنطقة كاملة، ولن يترددوا بقتل زياد فور الشعور بأن أباه نقض الاتفاق. والعملية تتم الليلة!
ركب الأب سيارة أخيه الأكبر وانطلق الاثنان إلى حدود المدينة، اختلطت المشاعر حتى بات من المستحيل أن يحددها أيّ منهما. المكان مظلم لا يُسمع فيه سوى صوت المحرك وصراصير الليل. كان المكان بعيدًا، موحشًا ومحفوفًا بمخاطر عدة. معظم المخاوف كانت واضحة على العم أبو تيسير بفعل رجفة شفاهه واهتزاز صوته، أما أبو زياد فكان يُرغم عقله ألا يرى ما حوله وأن يُبقي التركيز على وحيده المختطف منذ شهرٍ ونصف الشهر، ذاك الذي يأمل بإعادته إلى أمه التي ودّعت الرجال بكلماتٍ مختصرة، والكثير من الدموع الحبيسة. وصلوا إلى المكان المطلوب، أوقفوا السيارة وأبقوا على الأضواء الداخلية فقط كما طُلب منهما. انتظروا نصف ساعة تقريبًا دون أي إشارة، لم يحمل الوقت سوى الصمت وكلمات متقطعة من العم أبو تيسير، ظهر من بين الأشجار رجلٌ قصير القامة، ملثمًا وبحوزته مسدس من طرازٍ قديم.
لوّح به في وجه أبي زياد وطلب منه المبلغ حسب الاتفاق، كما أمر بمواصلة القيادة بطريقٍ مستقيم حتى يروا زياد بانتظارهم. سلم أبو تيسير المبلغ كاملًا إلى هذا الرجل المخيف، ليركب دراجته الهوائية ويمضي مبتعدًا ويبقى صوت دراجته يحاور صمت المكان لبعض الوقت. ارتجف أبو زياد وأصبح لارتطام أسنانه صوت ارتجاج النوافذ في الشتاء. بصعوبةٍ فائقة أكملا طريقهما ببطء وخوف، كان لفحيح الأشجار من حولهما صوت يشبه صراخ العجائز، تحوّل الصمت إلى ضجيج لا يطاق؛ الصراصير والرياح والرصاص البعيد وعواء الكلاب الذي يقترب أكثر فأكثر.
ضربات القلب تزيد من وحشة الليل، والعتمة تبعث الخوف الذي لم يعد إخفاؤه ممكنًا. أكملا الطريق بحذرٍ شديد، أبو زياد ينظر حوله في كلّ الاتجاهات بترٌقب، مضت بضع دقائق ثقيلة حتى ظهر زياد بوضوح على بعد عشرة أمتار إلى الأمام، لمحه فجأة، أوقف العم سيارته بركلة قوية على المكابح ترافقت مع صرخات أبو زياد التي بدأت خفيفةً وتعالت حتى سُمع دويها في كلّ أرجاء المنطقة، ترجّل الأخير من السيارة وأصيب بما يشبه شللًا مؤقتًا، صمت صراخه وأصدر أنينًا ثاقبًا وهو يلوّح برأسه يمينًا وشمالًا، تقدّم نحو وحيده بحذر، صمت الضجيج حولهما وارتفع صراخ الأب مجددًا. أبو تيسير الذي لم يقترب، ضرب وجهه براحتيه وصرخ وسع الليل "يا الله.. يا الله"، وزياد، الذي أصبح نحيلًا كأبيه، كان ممددًا وسط اللاشيء الذي يحوطه في تلك البقعة من تراب الوطن. كان صامتًا، شاحب الوجه، يشبه كل من تركت الأرواح جسدهم قطعة باردة من اللحم، وابتعدت متلاشية في الفضاء.
****
لم يكن العم أبو تيسير ينتظر أي زيارة حين قُرع بابه، هو الذي عُرف عنه الكره لضيوف الظهيرة. دخل الرجال الأربعة وجلسوا على كراسٍ متباعدة، بدأوا بقذفه بالأسئلة عن طارق، أين هو الآن، متى سافر إلى النرويج، ماذا يفعل هناك، من معه، هل هناك أي تواصل بينهما، أين إخوانه، من أصدقاؤه، كيف كانت علاقة طارق بابن عمّه زياد.. وأخيرًا طلبوا منه الحضور معهم إلى مركز الشرطة، تعرّق وجهه وشعر بخدرٍ يتسلل بين راحتي يده وينتقل إلى جسده كاملًا، انتظر الرجال الأربعة بعض الوقت حتى استجمع الكهل قواه. قد اعترف أمجد عزيز بكلّ شيء، سرد القصة كما حدثت، بكلّ تفاصيلها، حدثهم كيف التقوا بطارق، كيف عرض الأخير على أبي يزن (مجهول المكان) أن يختطفوا زيادًا، كيف قدّم منزل صديقه المغترب ليتم حجز المخطوف فيه، كيف أغراهم بمال العائلة المخفي الذي قد يغير حياة الجميع. وأن آخر مرة التقوا فيها طارق كانت حين أخذ حصّته من العملية واختفى، ليعلموا لاحقًا أنه قد استقر في إحدى الدول الأوروبية. طُلب من أبي تيسير التعاون الكامل في المستقبل، أخذ من الضابط بعض التوجيهات، ورحل.
في طريق العودة، تمتم بكلماتٍ كثيرة، شعر أنه اقترب من السقوط عدة مرات. حاول جاهدًا أن لا تتمكّن منه اللحظة فيخسر ما بقي من حياته في الشارع كالقطط. بعد المشي الطويل كجثة متحرّكة، مرّ بالقرب من بيت أخيه، كانت أم زياد جالسة على كرسيّ أمام البيت، تحيك شيئًا ما يشبه من بعيد سترةً شتائية، ترنو إلى خيوط القماش المتداخلة دون أن تحرّك شيئًا سوى يديها. استند على الرصيف حتى أجلس جسده المتهالك، أمسك حفنة من التراب وراقب تساقطها من بين أصابعه، وبقي جالسًا هناك حتى هبط الظلام على المدينة، دون أن ينطق بكلمة.
س
****
في أحد أيام صيف عام 2013، كان قد هدأ صوت القصف بعد ساعات متواصلة من ضجيج الموت، كان قد بدأ خمول الظهيرة يتسلل إلى الشوارع بخجل حين مرّ زياد بسرعةٍ أمام باب المطبخ كشبح، لم تستطع الأم ترك تحريك الطعام لتلحق به لكنه صاح وقد اقترب من الباب: "نازل شوي وراجع". فصاحت له بدورها طالبةً منه ألا يتأخر عن موعد الطعام.
بعد غروب الشمس، عاد أعمام زياد وبعض شبّان العائلة لأمه بعيونٍ ترنو إلى الأرض بعد بحث دام بضع ساعات. بحثوا عنه في كل مكان، عند أصدقائه، في المطاعم والمقاهي، في المستشفيات وأقسام الشرطة أيضًا، بحثوا مطولًا، دون جدوى.
يبدو أن المدن تغدو صغيرة كغرفة مكتظة، حين نحتاج بعض الوقت مع الوحدة، وتصبح أوسع من المدى حين نبحث عمّن نحب. وصل أبو زياد متأخرًا بعض الوقت من العاصمة هذه المرة، وبنظرة سريعة على المجتمعين حول الأم الباكية علم أن ثمة مكروه ما، وقبل استحضار أسوأ الاحتمالات ظهر العمّ ليخبره بأن زيادًا قد اختفى منذ الظهيرة، ولا معلومات عنه نهائيًا.
أراح وجهه بين راحتيه دون أن ينطق بكلمة، تذكّره نائمًا على الجنب الأيمن صباح ذلك اليوم، تطل قدمه اليمنى من أسفل الغطاء وهو يطلق شخيرًا ناعمًا ورقيقًا لا يوحي بوزنه الزائد ولا خشونة صوته. مرّ بغرفته دون أن يودعه، اكتفى بنظرةٍ سريعةٍ عليه ومضى ليلحق الباص. افترسته كلّ الذكريات دفعةً واحدة، هذا زياد! وحيده، قد يكون الآن مقتولًا أو مخطوفًا أو معتقلًا، وفي الاحتمالات الثلاثة لا يملك ما يقدمه له. هذا العاجز الذي لطالما شعر -أسوةً بمعظم الآباء هناك- بأنه لا يملك شيئًا يقدمه.
في أولى ساعات الصباح أتت المكالمة أخيرًا، عشرة ملايين ليرة سورية هو المبلغ المطلوب، لم يسمح لأبي زياد أن يحدّث ابنه أو يسمع صوته، وهُدد -كما جرت العادة- بأنه سوف يستقبل ابنه جثة مشوّهة فيما لو سمح للشرطة أو أطرافٍ أخرى بالتدخل.
قال له الصوت البعيد بأنه سوف يعاود الاتصال بعد أسبوع. سبعة أيام إذن، هذا الوقت الذي يعادل سبعين عامًا دون الاطمئنان على ابنهم الوحيد، بينما يحلّق هذا الوقت بسرعة سبع ساعات حين يتذكّر أبو زياد ضرورة جمع مبلغ وقدره عشرة ملايين ليرة! وهو الموظّف البسيط في وزارة الإعلام السورية. بدأ صراع الوقت. السهر، جلد الذات، العتاب، البكاء، استقبال الزوار... كلها أصبحت من التفاصيل اليومية في البيت الذي طالما احتضن أحلام زياد وخيباته.
في هذه الأثناء، كان الأخير يُعامل بشكلٍ جيد نسبيًا لدى خاطفيه، وبقيت المعاملة الجيدة هذه حتى انتهى الاتصال الثاني، حينها أيقن أبو يزن أن المبلغ المطلوب لن يأتي بالسهولة المتوقعة، شيءٌ ما لم يجرِ كما خُطط له. وهذا زاد من احتقان الأجواء.
كان الشاب الجميل الذي أنهى دراسته منذ بضعة أشهر فقط، قد أكد مرارًا لأبي يزن أن المبلغ حتمًا بحوزة الجدّة، هي التي يُعتقد بأنها تكدّس الملايين في أماكن سرية وغريبة لا تخطر في بال أحد. لكن بعد أن مضى أكثر من أسبوعين على اختطاف زياد دون أن يتم جلب المبلغ، بات من المرجح فعلًا أن تكون حكايا طارق غير دقيقة، أو أن العجوز قد قررت الاحتفاظ بمالها ليومٍ أكثر سوادًا. كلّ الاحتمالات واردة. ازدياد التوتر طغى على الأجواء في الشقة الصغيرة، وأصبح زياد المتنفَّس الوحيد لغضب الرجال الثلاثة، ولكي ينتقموا من كلّ مشاكلهم الحياتية، كلّ ساعة تمضي تحمل معها الاحتمالات الأكثر سوءًا، كما تنذر بما لا تشتهيه نفوس الخاطفين.
ها قد مضى على اختطاف زياد شهر كامل، وما زالت عائلته تحاول كسب وقتٍ إضافيّ، علمًا أنه قد تم تخفيض المبلغ إلى سبعة ملايين ليرة سورية. والدة زياد باعت كلّ ما تملك من مجوهرات، كما قام والده وعدد من أفراد العائلة بجمع مبلغٍ من المال وصل الثلاثة ملايين ليرة كان معظمها تبرّعًا من أم سمير، الجدة. لجأ أبو يزن إلى أساليب جديدة لنشر حالةٍ من الهلع بين أفراد العائلة، فكان يتصل ليقول تارةً بأن زياد يعاني من مرضٍ مبهم وأنه يتغوّط دمًا، وتارةً أخرى يقول إنّ الأخير خسر عددًا من أسنانه لقاء بعض اللكمات من عناصر غير منضبطين.
وهذا الأسلوب أوصل الأم لأن تقوم بجولاتٍ يومية على الأصدقاء والمعارف طلبًا للمال. قليلون هم الذين ساهموا بمبالغ مالية، لكن معظمهم ساهم بالتخفيف عنها بسرد قصص معظمها محض خيال عن مختطفين أطلق سراحهم سابقًا، كما طمأنها الجميع أن الخاطفين يريدون المال بالشكل الأساسي، وأنهم يخافون جريمة القتل لكثرة ما قد تعرضهم للمتاعب والمخاطر. وصدقتهم، فهي الغريقة التي تريد أن ترى في كلّ موجةٍ فرصةً تقذفها إلى الشاطئ. هي التي صارعت الألم كي لا تسقط وتهدي الخاطفين انتصارًا مبكرًا. كانت تطبخ في كلّ يوم بالرغم من كثرة صواني الطعام التي كانت تصلها تضامنًا من الجيران والأقارب كما العادة في أوقات الشدائد. في كلّ ليلة أوقدت شمعة لابنها الذي لم يعتد أكل ما لا تطبخ يداها، لم تفقد الأمل، عرفت أنه امتحانٌ قاسٍ من الله ولا بد أن تجتازه. في إحدى الليالي مشت ببطء نحو زوجها الذي كان يدخّن سيجارته قبيل النوم وقالت "لو الله بدو يحرمنا منو كان مات بحادث" إشارة لأن زياد لم يزل حيًا، وثمة أمل بعودته سالمًا. فابتسم لها ذاك المنهك الروح وقال "بعمرنا ما آذينا حدا، بعد بكير على زياد".
أما المخطوف الذي بدا وكأنه فقد نصف وزنه، كان جلّ ما يتمناه أن تنقضي ليلته دون ركلات أبي يزن، أو صراخ أمجد عزيز الهيستيريّ. طارق ثالث الخاطفين، لم يقابل المخطوف أبدًا، لكنّه كان حاضرًا في أغلب جلسات التعذيب غير المبرر التي تعرّض لها زياد، وكان سببًا في إيقاف معظمها. اعترف المخطوف عن مجوهرات والدته، عن سيارة أبيه، وكلّ ما قد يتحوّل إلى مال في المنزل من أجهزة تلفاز وكمبيوتر وهواتف محمولة. بدأ مخزون الصبر لدى أبي يزن بالنفاذ، شوهد مرارًا يدخل غرفة المخطوف بعد أن يشرب حتى الثمالة، يقفل الباب ويخرج بعد ما يقارب الساعة الكاملة، يشرب سيجارته الرخيصة ويمضي خارجًا. ازدادت المشاكل بين الخاطفين، اقترح أمجد عزيز أن يقبلوا بما جمعه ذوو المخطوف من مال، بينما اقترح طارق مرارًا بأن يخلوا سبيله بعد أن ثبت أنه تحوّل إلى عبء ثقيل، بدل أن يكون طوق نجاة من حياة الفقر والقهر. أما زعيم العصابة المنشأة حديثًا، أبو يزن، رغب عن الانسحاب قبل تحقيق الهدف المرجو من العملية.
دخل أبو زياد منزله بصمت، ألقى بنفسه منهكًا على الأريكة، أمامه الكثير من النقود، كان بعضها بحقائب صغيرة متفاوتة الأحجام، والبعض الآخر مبعثرٌ على امتداد الطاولة. إنها خمسة ملايين ليرة سورية وسنوات من التعب والشقاء والأحلام، كما حمل المبلغ المفروش على الطاولة الكثير من الحرج والخجل والانكسار، والثقل الذي سوف يلازم أبا زياد طيلة حياته. أشعل سيجارةً وجلس يشربها بصمت. هذا كلّ ما يستطيع جمعه، فإما أن يطلقوا له وحيده الآن أو أن يقتلوه ليقتل نفسه وراءه. كان من المفترض أن يتصل الخاطفون بعد أربعة أيام، لكن الاتصال أتى باكرًا، ولحسن الحظ وافق الخاطفون على المبلغ المعروض دونما نقاش. الشروط واضحة، يذهب أبو يزن برفقة شخصٍ واحدٍ فقط إلى المكان المتفق عليه، وبحوزته المبلغ كاملًا، أكد الخاطفون أنهم سوف ينشرون عناصرهم في المنطقة كاملة، ولن يترددوا بقتل زياد فور الشعور بأن أباه نقض الاتفاق. والعملية تتم الليلة!
ركب الأب سيارة أخيه الأكبر وانطلق الاثنان إلى حدود المدينة، اختلطت المشاعر حتى بات من المستحيل أن يحددها أيّ منهما. المكان مظلم لا يُسمع فيه سوى صوت المحرك وصراصير الليل. كان المكان بعيدًا، موحشًا ومحفوفًا بمخاطر عدة. معظم المخاوف كانت واضحة على العم أبو تيسير بفعل رجفة شفاهه واهتزاز صوته، أما أبو زياد فكان يُرغم عقله ألا يرى ما حوله وأن يُبقي التركيز على وحيده المختطف منذ شهرٍ ونصف الشهر، ذاك الذي يأمل بإعادته إلى أمه التي ودّعت الرجال بكلماتٍ مختصرة، والكثير من الدموع الحبيسة. وصلوا إلى المكان المطلوب، أوقفوا السيارة وأبقوا على الأضواء الداخلية فقط كما طُلب منهما. انتظروا نصف ساعة تقريبًا دون أي إشارة، لم يحمل الوقت سوى الصمت وكلمات متقطعة من العم أبو تيسير، ظهر من بين الأشجار رجلٌ قصير القامة، ملثمًا وبحوزته مسدس من طرازٍ قديم.
لوّح به في وجه أبي زياد وطلب منه المبلغ حسب الاتفاق، كما أمر بمواصلة القيادة بطريقٍ مستقيم حتى يروا زياد بانتظارهم. سلم أبو تيسير المبلغ كاملًا إلى هذا الرجل المخيف، ليركب دراجته الهوائية ويمضي مبتعدًا ويبقى صوت دراجته يحاور صمت المكان لبعض الوقت. ارتجف أبو زياد وأصبح لارتطام أسنانه صوت ارتجاج النوافذ في الشتاء. بصعوبةٍ فائقة أكملا طريقهما ببطء وخوف، كان لفحيح الأشجار من حولهما صوت يشبه صراخ العجائز، تحوّل الصمت إلى ضجيج لا يطاق؛ الصراصير والرياح والرصاص البعيد وعواء الكلاب الذي يقترب أكثر فأكثر.
ضربات القلب تزيد من وحشة الليل، والعتمة تبعث الخوف الذي لم يعد إخفاؤه ممكنًا. أكملا الطريق بحذرٍ شديد، أبو زياد ينظر حوله في كلّ الاتجاهات بترٌقب، مضت بضع دقائق ثقيلة حتى ظهر زياد بوضوح على بعد عشرة أمتار إلى الأمام، لمحه فجأة، أوقف العم سيارته بركلة قوية على المكابح ترافقت مع صرخات أبو زياد التي بدأت خفيفةً وتعالت حتى سُمع دويها في كلّ أرجاء المنطقة، ترجّل الأخير من السيارة وأصيب بما يشبه شللًا مؤقتًا، صمت صراخه وأصدر أنينًا ثاقبًا وهو يلوّح برأسه يمينًا وشمالًا، تقدّم نحو وحيده بحذر، صمت الضجيج حولهما وارتفع صراخ الأب مجددًا. أبو تيسير الذي لم يقترب، ضرب وجهه براحتيه وصرخ وسع الليل "يا الله.. يا الله"، وزياد، الذي أصبح نحيلًا كأبيه، كان ممددًا وسط اللاشيء الذي يحوطه في تلك البقعة من تراب الوطن. كان صامتًا، شاحب الوجه، يشبه كل من تركت الأرواح جسدهم قطعة باردة من اللحم، وابتعدت متلاشية في الفضاء.
****
لم يكن العم أبو تيسير ينتظر أي زيارة حين قُرع بابه، هو الذي عُرف عنه الكره لضيوف الظهيرة. دخل الرجال الأربعة وجلسوا على كراسٍ متباعدة، بدأوا بقذفه بالأسئلة عن طارق، أين هو الآن، متى سافر إلى النرويج، ماذا يفعل هناك، من معه، هل هناك أي تواصل بينهما، أين إخوانه، من أصدقاؤه، كيف كانت علاقة طارق بابن عمّه زياد.. وأخيرًا طلبوا منه الحضور معهم إلى مركز الشرطة، تعرّق وجهه وشعر بخدرٍ يتسلل بين راحتي يده وينتقل إلى جسده كاملًا، انتظر الرجال الأربعة بعض الوقت حتى استجمع الكهل قواه. قد اعترف أمجد عزيز بكلّ شيء، سرد القصة كما حدثت، بكلّ تفاصيلها، حدثهم كيف التقوا بطارق، كيف عرض الأخير على أبي يزن (مجهول المكان) أن يختطفوا زيادًا، كيف قدّم منزل صديقه المغترب ليتم حجز المخطوف فيه، كيف أغراهم بمال العائلة المخفي الذي قد يغير حياة الجميع. وأن آخر مرة التقوا فيها طارق كانت حين أخذ حصّته من العملية واختفى، ليعلموا لاحقًا أنه قد استقر في إحدى الدول الأوروبية. طُلب من أبي تيسير التعاون الكامل في المستقبل، أخذ من الضابط بعض التوجيهات، ورحل.
في طريق العودة، تمتم بكلماتٍ كثيرة، شعر أنه اقترب من السقوط عدة مرات. حاول جاهدًا أن لا تتمكّن منه اللحظة فيخسر ما بقي من حياته في الشارع كالقطط. بعد المشي الطويل كجثة متحرّكة، مرّ بالقرب من بيت أخيه، كانت أم زياد جالسة على كرسيّ أمام البيت، تحيك شيئًا ما يشبه من بعيد سترةً شتائية، ترنو إلى خيوط القماش المتداخلة دون أن تحرّك شيئًا سوى يديها. استند على الرصيف حتى أجلس جسده المتهالك، أمسك حفنة من التراب وراقب تساقطها من بين أصابعه، وبقي جالسًا هناك حتى هبط الظلام على المدينة، دون أن ينطق بكلمة.
س