تلك الليلة ـ ليلة أول يوم عمل ـ نمت بعين واحدة.. الأخرى أوصيتها برا بساعتي التقليدية ( الدجاجة الأسطورية) التي كنت أحيض و أبيض بها، أخاف عليها كثيرا من العطب و الإنكسار لأنها أمي الثانية ...
قبل طلوع الفجر، أيقظتني دجاجتي المرضية دائخا،عين حمراء وعين صفراء و خيال شارد، لم أجد لحظتها أمامي لا خبز أمي ولا قهوتها ، سوى اني استرقت رشفة ماء أثناء غسل وجهي أطفأت بها رهبتي و رجلت بها نفسي ثم توجهت مباشرة إلى العمل...
حضرت مع الحاضرين, كنت أبدو وسط زحام جموع العمال الداخلين مع الباب الضيق كالكبش (الصردي) الأبيض , الكل يلتفت إلي ويتهامس ،بعضهم يتساءل والآخر يقهقه تحت إبطه..سرعان ما سمعت صوتا خشينا : هييييييييه، إرجع ! إرجع ..
وقفت مكاني حتى وقف أمامي البواب : من أنت ؟ أجبت مطمئنا: السلام عليك.. أنا عامل جديد يا سيدي وهذه بطاقتي التأجيرية .. أخذ مني البطاقة قرأها مقلوبة و قال لي إنتظر حتى أسلمك للمسؤول الكبير وأبرأ منك ذمّتي ..ضحكت سرا من كلام الرجل لأن الضحك في وجهه قد يجرني إلى الخسارة..
ما هي إلا ساعتين حتى جاءني رجل غض غليض يرتدي بدلة رمادية و على رأسه خوضة مدنية، قدمت له شخصي من باب الإنسانية ، قدم لي شخصه من باب الأنانية..(أنا المسمى الدركي مسؤول المصلحة الميكانيكية )..هات بطاقتك التأجيرية واتبعني ، أعطيته إياها وتبعته خطوة بخطوة ...
داخل المعمل، أضواء اللحّامين تكاد تخطف بصري و صداع الآلات يصم أذني و أنا أمشي وراء المسؤول مصدّع ومضبّع ..فجأة .إلتفتَ إليَّ وهو يكمل خطواته متمتما ببعض الكلمات الإفرنجية ، لم أفرز منها لا( وي ) ولا (نو) ما نفعني معه سوى ,نعم سيدي؟
أقترب مني و أخذني من قفاي وقال لي أنظر هناك , أرأيت ذاك الشيباني الذي يجر تلك العربة؟ إذهب لمساعدته حتى تتدرب جيدا ... و لا تنسى أن تستعير منه إحدى بدلاته القديمة ريثما...
تقدمت إلى الرجل,مددت له يدي مسلما ، مد لي مرفقه بالنيابة معتذرا لأن يديه كانتا ملطختان بالشحوم الزيتية، قائلا : ما تحب الخاطر؟ أجبت محتشما : أومرت من طرف (الشاف) الدركي بأن أمد لك يد العون ،لكن قبل هذا أريد منك أن تعيرني بدلة ولو قديمة يا سيدي، ريثما..
ابتسم في وجهي وقال لي وهو يلهث ويتصبب عرقا: تعال خذ هذه بالمرّة..لكن ( آش سماك الله؟) أجبت : عبد الله الحركي ..قال : كلنا عباد الله و هذه أرض الله ..
تحرّكْ يا ولدي ترزقْ، قل باسم الله واتّكلْ على الله .. ابتسمت في وجهه مبسملا وأنا أتحزم ثم انحنيت على شتات من الفضلات الحديدية السميكة لأجمعها بعدما كشرت عن سواعدي المفتولة..جمعتها و وضعتها في العربة ثم دفعت العربة إلى الأمام و أنا أجر بدلة مفضفضة سروالها أطول من قامتي ..
في الطريق صادفت رجلا يحترق قرفصاء أمام الملأ ،يبدو كحزمة حطب بين أحضان ألسنة من لهب ، استفسرت صاحبي فقال لي إنه معلم ماهر يجيد قطع الحديد بالنار ..أنظر جيدا كم هو حريص على قطع أنفاسه كي يركز أكثر على خط النار الذي يصهر جنبات الحديد..يصارع خيوط الدخان و الدخان يكاد يعمي عينيه الذابلتين .. إنه فعلا يحترق ،يحترق دون أن يحس به أحد !
تأملته جيدا وأنا أجتر وراء عربتي متنهدا: مسكييييييين ! مسكيييييييين !لكن لماذا لم يستعمل تلك المقصلة لقطع الحديد؟ يبدو لي أنها جاهزة ! ؟ ما كدت أنهي كلامي حتى استدركني صاحبي قائلا: إنها آلة قديمة محدودة الجهد، طاقتها لا تتعدى السنتميتر الواحد،ثم إنها موروثة من مخلفات العصر الصناعي الأول ،إياك أن تقربها إنها ضعيفة الجهد وطاقتها لا تسعب أكثر من سنتميتر واحد ، أما صاحبنا المحترق فإنه يقطع سمك العشرين سنتميترا و ما يزيد..
ولازلت شارد البال ، أحترق حسرة و أسفا على الرجل حتى قال لي صاحبي ساخرا : لازلت لم تر شيئا بعد ! أنظر أيضا إلى ذاك الصندوق الكبير الذي يتصاعد منه دخان كثيف يحتل كل فضاء المصنع ،، إن بداخله صديقنا رحال الذي قضى كل حياته رحالا يبحث عن كسرة خبز ، وها قد وجدها الآن هنا، كان الله في عونه ، له سبعة أطفال مع الزوجة الأولى وثلاثة مع الجديدة ، إنه يموت كل يوم من أجل إعالة قوم بأكمله ! فعندما تتدرب أنت كذلك جيدا و تعرف من أين تدخل ومن أين تخرج ، سوف تمارس نفس العمليات ، من قطع الحديد وتلحيمه وصقله وصناعته ، ستموت أنت الآخرـ يا ولدي ـ كذلك من أجل أن يعيش الخلف الصالح،،
ولازلت أتألم متلذذا الحلاوة المعقولة في كلام صاحبي ، أجمع الفضائل الحديدية
، أمسح قطرات عرقي المالح وأدفع العربة الثقيلة ذهابا وإيابا، مرات ومرات ، حتى شممت رائحة غريبة وكريهة تكاد تزكمني حد العطس،حرت، من أين؟ ! بعد أن فحصت كل أطرافي المشكوك فيها علني أعثر على المصدر،لم يبق لي سوى أن أسأل صاحبي ، لكني تمهلت قليلا إلى أن تبت شمي على الرائحة ! بل الروائح الفوارة التي ما فتأت تفوح وتفوح من جنباتني..آه، إنها رائحة شريفة، رائحة عرق صاحبي التي كانت خامدة منذ زمن طويل بين طيات البدلة المستعملة التي أعطاني إياها ، فارت الآن بعد أن اختلطت برائحة عرقي الساخن ورائح الأوساخ و الزيوت المحروقة..المهم سأصبر حتى ينظر الله في أمري.
في اليوم التالي اختلطت بمجموعة من العمال، ثلة من الشياب و قليل من الشباب..سئلت أكثر من مرة عن إسمي و نسبي و من أين أتيت ووووو..وكأني في مخفر الشرطة فغالبا ما كانوا يذمون لي بعضهم البعض، وخصوصا أن هناك تمة صراعات خفية بين الجيلين من العمال ( الشياب والشباب) كل يوم كانت تنشب فتنة بين عامل جديد و عامل قديم حول الإمرة في تسيير و تيسير العمل ..فلا زلت أذكر ما حصل لي مع مساعدي الشيباني ( مومو) الذي بدلا من أن يحثني على الجدّية في العمل ويقدم لي المساعدة اللازمة ،كان يغنى لي المواويل الشعبية القديمة، والنكت الشبابية العجيبة...إنه (مومو) ذاك الذي كنت أحسبه أقرب العمال القدماء إلى قلبي أخيرا إكتشفت أنه أكبر الثعاليب مكرا، فلقد كان يلهيني و ينسيني واجباتي عمدا..لتكتمل الفرجة لديه ساعة الحساب الذي ينتظرني حين يخزيني وجه (الدركي) الذي ما عدت أحتمله ،إنه السبع كما يسمونه ..فلقد صفعني عدة صفعات آخرها..يومين دعيرة مخصومة من الأجر لا لنقص العطاء من حيث الكم أو الكيف، بل لأنه ضبطني ذات مرة أضحك مستترا جراء سماعي لبعض النكت الممسوخة التي كان يرسلها لي الشيطان ( مومو) جهرا (هَهْهَهْهَهْهَهْ)
قبل طلوع الفجر، أيقظتني دجاجتي المرضية دائخا،عين حمراء وعين صفراء و خيال شارد، لم أجد لحظتها أمامي لا خبز أمي ولا قهوتها ، سوى اني استرقت رشفة ماء أثناء غسل وجهي أطفأت بها رهبتي و رجلت بها نفسي ثم توجهت مباشرة إلى العمل...
حضرت مع الحاضرين, كنت أبدو وسط زحام جموع العمال الداخلين مع الباب الضيق كالكبش (الصردي) الأبيض , الكل يلتفت إلي ويتهامس ،بعضهم يتساءل والآخر يقهقه تحت إبطه..سرعان ما سمعت صوتا خشينا : هييييييييه، إرجع ! إرجع ..
وقفت مكاني حتى وقف أمامي البواب : من أنت ؟ أجبت مطمئنا: السلام عليك.. أنا عامل جديد يا سيدي وهذه بطاقتي التأجيرية .. أخذ مني البطاقة قرأها مقلوبة و قال لي إنتظر حتى أسلمك للمسؤول الكبير وأبرأ منك ذمّتي ..ضحكت سرا من كلام الرجل لأن الضحك في وجهه قد يجرني إلى الخسارة..
ما هي إلا ساعتين حتى جاءني رجل غض غليض يرتدي بدلة رمادية و على رأسه خوضة مدنية، قدمت له شخصي من باب الإنسانية ، قدم لي شخصه من باب الأنانية..(أنا المسمى الدركي مسؤول المصلحة الميكانيكية )..هات بطاقتك التأجيرية واتبعني ، أعطيته إياها وتبعته خطوة بخطوة ...
داخل المعمل، أضواء اللحّامين تكاد تخطف بصري و صداع الآلات يصم أذني و أنا أمشي وراء المسؤول مصدّع ومضبّع ..فجأة .إلتفتَ إليَّ وهو يكمل خطواته متمتما ببعض الكلمات الإفرنجية ، لم أفرز منها لا( وي ) ولا (نو) ما نفعني معه سوى ,نعم سيدي؟
أقترب مني و أخذني من قفاي وقال لي أنظر هناك , أرأيت ذاك الشيباني الذي يجر تلك العربة؟ إذهب لمساعدته حتى تتدرب جيدا ... و لا تنسى أن تستعير منه إحدى بدلاته القديمة ريثما...
تقدمت إلى الرجل,مددت له يدي مسلما ، مد لي مرفقه بالنيابة معتذرا لأن يديه كانتا ملطختان بالشحوم الزيتية، قائلا : ما تحب الخاطر؟ أجبت محتشما : أومرت من طرف (الشاف) الدركي بأن أمد لك يد العون ،لكن قبل هذا أريد منك أن تعيرني بدلة ولو قديمة يا سيدي، ريثما..
ابتسم في وجهي وقال لي وهو يلهث ويتصبب عرقا: تعال خذ هذه بالمرّة..لكن ( آش سماك الله؟) أجبت : عبد الله الحركي ..قال : كلنا عباد الله و هذه أرض الله ..
تحرّكْ يا ولدي ترزقْ، قل باسم الله واتّكلْ على الله .. ابتسمت في وجهه مبسملا وأنا أتحزم ثم انحنيت على شتات من الفضلات الحديدية السميكة لأجمعها بعدما كشرت عن سواعدي المفتولة..جمعتها و وضعتها في العربة ثم دفعت العربة إلى الأمام و أنا أجر بدلة مفضفضة سروالها أطول من قامتي ..
في الطريق صادفت رجلا يحترق قرفصاء أمام الملأ ،يبدو كحزمة حطب بين أحضان ألسنة من لهب ، استفسرت صاحبي فقال لي إنه معلم ماهر يجيد قطع الحديد بالنار ..أنظر جيدا كم هو حريص على قطع أنفاسه كي يركز أكثر على خط النار الذي يصهر جنبات الحديد..يصارع خيوط الدخان و الدخان يكاد يعمي عينيه الذابلتين .. إنه فعلا يحترق ،يحترق دون أن يحس به أحد !
تأملته جيدا وأنا أجتر وراء عربتي متنهدا: مسكييييييين ! مسكيييييييين !لكن لماذا لم يستعمل تلك المقصلة لقطع الحديد؟ يبدو لي أنها جاهزة ! ؟ ما كدت أنهي كلامي حتى استدركني صاحبي قائلا: إنها آلة قديمة محدودة الجهد، طاقتها لا تتعدى السنتميتر الواحد،ثم إنها موروثة من مخلفات العصر الصناعي الأول ،إياك أن تقربها إنها ضعيفة الجهد وطاقتها لا تسعب أكثر من سنتميتر واحد ، أما صاحبنا المحترق فإنه يقطع سمك العشرين سنتميترا و ما يزيد..
ولازلت شارد البال ، أحترق حسرة و أسفا على الرجل حتى قال لي صاحبي ساخرا : لازلت لم تر شيئا بعد ! أنظر أيضا إلى ذاك الصندوق الكبير الذي يتصاعد منه دخان كثيف يحتل كل فضاء المصنع ،، إن بداخله صديقنا رحال الذي قضى كل حياته رحالا يبحث عن كسرة خبز ، وها قد وجدها الآن هنا، كان الله في عونه ، له سبعة أطفال مع الزوجة الأولى وثلاثة مع الجديدة ، إنه يموت كل يوم من أجل إعالة قوم بأكمله ! فعندما تتدرب أنت كذلك جيدا و تعرف من أين تدخل ومن أين تخرج ، سوف تمارس نفس العمليات ، من قطع الحديد وتلحيمه وصقله وصناعته ، ستموت أنت الآخرـ يا ولدي ـ كذلك من أجل أن يعيش الخلف الصالح،،
ولازلت أتألم متلذذا الحلاوة المعقولة في كلام صاحبي ، أجمع الفضائل الحديدية
، أمسح قطرات عرقي المالح وأدفع العربة الثقيلة ذهابا وإيابا، مرات ومرات ، حتى شممت رائحة غريبة وكريهة تكاد تزكمني حد العطس،حرت، من أين؟ ! بعد أن فحصت كل أطرافي المشكوك فيها علني أعثر على المصدر،لم يبق لي سوى أن أسأل صاحبي ، لكني تمهلت قليلا إلى أن تبت شمي على الرائحة ! بل الروائح الفوارة التي ما فتأت تفوح وتفوح من جنباتني..آه، إنها رائحة شريفة، رائحة عرق صاحبي التي كانت خامدة منذ زمن طويل بين طيات البدلة المستعملة التي أعطاني إياها ، فارت الآن بعد أن اختلطت برائحة عرقي الساخن ورائح الأوساخ و الزيوت المحروقة..المهم سأصبر حتى ينظر الله في أمري.
في اليوم التالي اختلطت بمجموعة من العمال، ثلة من الشياب و قليل من الشباب..سئلت أكثر من مرة عن إسمي و نسبي و من أين أتيت ووووو..وكأني في مخفر الشرطة فغالبا ما كانوا يذمون لي بعضهم البعض، وخصوصا أن هناك تمة صراعات خفية بين الجيلين من العمال ( الشياب والشباب) كل يوم كانت تنشب فتنة بين عامل جديد و عامل قديم حول الإمرة في تسيير و تيسير العمل ..فلا زلت أذكر ما حصل لي مع مساعدي الشيباني ( مومو) الذي بدلا من أن يحثني على الجدّية في العمل ويقدم لي المساعدة اللازمة ،كان يغنى لي المواويل الشعبية القديمة، والنكت الشبابية العجيبة...إنه (مومو) ذاك الذي كنت أحسبه أقرب العمال القدماء إلى قلبي أخيرا إكتشفت أنه أكبر الثعاليب مكرا، فلقد كان يلهيني و ينسيني واجباتي عمدا..لتكتمل الفرجة لديه ساعة الحساب الذي ينتظرني حين يخزيني وجه (الدركي) الذي ما عدت أحتمله ،إنه السبع كما يسمونه ..فلقد صفعني عدة صفعات آخرها..يومين دعيرة مخصومة من الأجر لا لنقص العطاء من حيث الكم أو الكيف، بل لأنه ضبطني ذات مرة أضحك مستترا جراء سماعي لبعض النكت الممسوخة التي كان يرسلها لي الشيطان ( مومو) جهرا (هَهْهَهْهَهْهَهْ)