قالت دون حرج : - ما أسقطك يا منصف ؟
كانت تناديني "عمي منصف" منذ صغرها ومن قبل أن تكمل نطق الحروف ، لحظة عمى وضياع ذهبت بعّمي، لحظة واحدة حطمت جسورا وبنت أخرى ...
هناك أيام ثقال، في يوم ثقيل منها إنحدرتً ، أنا المتدحرج دوما، و صعدت هي فوق غيمة مكدودة ناشفة، عندها انطلقت الجملة العارية .
لم أتعود فتح العيادة أيام العطل، لكن ضجرالبيوت طاردني،استقبلني القط الأعرج - على غير عادته- بمواء حزين ملحاح موصول، فتحت المذياع الذي لم يفارقني منذ أيام،أرقب نشرة الظهيرة ، جدي كان لايثق إلا بأخبارلندن، وكان يردد بعد سماع كل خبر جديد : "كان خبّرت عليه لندرة راهو صحيح".
عندما دخلتً العيادة كنت مشتتا، متناثرا، عبثا حاولت مطاردة القط الأعرج الذي أربكني حضوره الثقيل، بلبلتني نظراته المستقيمة التي تحاصرني في كل زاوية، حاصرته بعد جهد وأغلقت عليه أبواب المراحيض.
وكذلك حينما دخلت هي، كنت مشتتا بين صحيفة مًفرغة ونشرة لم تأت،جمعتً نفسي ونسيت تشتتي وخوفي وتوجسي.
احتضنتني لاهثة :
- " فادّة وتاعبة...محظوظة كي لقيتك ، كملت المسيرة، قلت نمشي لعمي منصف ، انزيد نسمع لخبار".
أخفيت ضياعي في قناع أسئلة سمجة عن الدروس والمسيرات...أنقذتني نشرة الظهيرة من تشتتي- ركام من التعليقات المربكة- غارت مياه دجلة- ودبابتان تتقدمان فوق الجسر بحذر وتصميم...
دمعتان تنحدران ببطء وتأتلقان على الوجنتين الناضحتين،أسندت رأسها الواهنة على صدري الأجوف، أنا- ككل الرجال المفرغين- لم أبك، إهتزت أضلعي كجسر مًعلق في الفراغ والقط الأعرج ينتصب قبالتي بنظرتين مستقيمتين، متحديتين ...
أغرقتنا نشرة الظهيرة في صمت مريب...
القط انقطع مواؤه، نظرته مثبتة فينا ، نشيجها يرجّع إيقاع الهزائم المتدافعة، حرج مقيت يجتاحني، ألجأ للصحيفة، عناوين المأتم الخادع ، أعياد،حريات كثيرة يقودها الإنتصاب الحرّ ...
تهتز أضلعي في نشيج مكتوم ،أضيء التلفاز الصغير،يكتسح العري كل شيء، والدبابتان تتقدمان فوق الجسر، مدفعاهما طويلان، منتصبان...
تزداد غربتي، وتئز جسور الفراغ في أضلعي، ويزيد عريي...
أحضنها أكثر فتذوب في فراغي،تمتد يدي في ارتعاشة خائبة، وتستقرّ فوق ضجيج نهديها،وينفلت الصخب من أسر صمت الضياع ، يأخذنا إنتصاب الظهيرة الرخو وسرعان ما نسقط ،اليأس يطرد الخجل، وجرأة الفراغ تدفعنا، غمرتنا الخيانة، ونضح ملح جسدينا فتلمضنا الملوحة.
أردت أن أقتل الخيانة فتسلحت بالسقوط.
نهش كل منا جسد الآخر في صمت وعناد، تسقط جسور وتمتدّ أخرى، تحت نظرات التاريخ السكرى المنهكة بتدوين الفتوحات.
ينوح الغزالي فوق القيظ والغبار:-" هاذوك العذبوني...هاذوك المرمروني...وعلى جسر المسيّب سيّبوني."-
يزعجني القط بنظراته فأطارده ثم يعود وأعود...
ظلت السيارة تجرجر هامتها على الإسفلت المبلل، ارتفع القط أمتارا كثيرة قبل أن يسقط فوق مقدمتها.
صدمة الإرتطام وصدمة السقوط ومواء العجلات المكبوحة، ونباح المنبهات ...أحسست أني مطارد في هذا اليوم الثقيل، مطارق في الرأس وخدر في اليدين المرتعشتين...
عندما سقط القط فوق مقدمة السيارة، أصابني رعب توجسي- "لاتضرب القط إنه جني متنكر" كانت تردد عمتي كلما ركلت قطها الرمادي... قررت مواصلة السير، حدت عن شارع الحرية، وسرت في إتجاه ممنوع... القط النازف ينشب أظافره في المعدن الأملس قبالتي ويحدق في بألم، أقود بعصبية وإصرار، أسقطته بعد جهد وخوف، كنت أسرع ثم أكبح السيارة، قاوم ثم تهاوى وارتطم بالمعدن السفلي، وزدت السرعة وهربت.
أوصلتها إلى مدخل العمارة، لم تنظر في وجهي ولم أنظر في وجهها، لم نتكلم بعد غيمة الظهيرة ،جملتها الوحيدة، تمدّ جسور صمتنا ، تتردد في الفراغ: "ما أسقطك يا منصف"
ليست جملتها بل جملتنا الوحيدة، لأني كذلك - ككل الرجال المفرغين- لم أتكلم، حاولت أن أسترجع تفاصيل غيمة الظهيرة لكني أخفقت، أردت أن أحدد زمن الحقيقة، الخيانة: قبل السقوط أم بعده؟
" أعتبرها كيف آمل بنتك ...ما انزيدش انوصيك عليها"
أبوها - قبل توغله في الصقيع- كان صديقي الأوحد،أخذته الحياة بعيدا،كان يخشى السقوط ،ويكره الإنتظار، ترك الوصية، واختار الرحيل...
عند ولادتها إحتفلنا وسكرنا وكان يقول سميتها "أحلام" حتى يستمر الحلم... وفي خيباته الكثيرة كان يردد "لاتخف إبنتي أحلام وإبنتك أمل قوسان موتوران في الطريق الطويل".
متى وردت على فمها جملة الحقيقة ؟ يصعب التحديد رغم إن الغيمة لم تزد عن الساعة، نصفها الأول كنا مشدودين إلى نشرة الظهيرة، ثم كان الصمت ...وفي موجزها - الدبابتان فوق الجسر- ثم كان العبور والإنتصاب الخائب ثم ماذا بعدها؟
من وحشة الصمت، تولد خيبة الحقيقة، وربما جاءت الجملة في هذا الموضع تحديدا ...
وفي كل الحالات لايكون السقوط سقوطا إلا إذا سبقه إرتفاع ، فجملتها الوحيدة: "ما أسقطك يا منصف"
- أو بالأحرى جملتنا- تبعا لذلك تصبح بلا معنى.
أوصلتها وعدت إلى المنزل مكرها تطاردني عيون زرقاء،إختناق يعصر أضلعي المتشابكة كجسر معلق في الفراغ...
في إحدى العشريات المظلمة كان يقول : نحن لقاح يا منصف، جيلنا جسر عبور للآتي ، نحن منذورون لذلك، كان مفتونا بالعوالم السفلية :" يجب أن نبدأ من حيث تكون البداية..." كان يهوى حركة القواعد وينتحر فيها وعندما سطا المحترفون على كل الحركة، مزقته الخيانة فمزق أوراقه، وخرج عن كل المنظمات والجمعيات وتاه في وحشة الغربة ...
هربت من طيفه وركنت السيارة، و تفحصتها،لم أجد عليها أثرا لأرتطام القط أوسقوطه ،غير خدوش على صفيحة الدهن اللماع، إستقبلتني زوجتي في إضطراب واضح، شعرها منفوش وأثوابها ملتوية، كانت وحيدة في المنزل.
طالعني خيال قط سريع يعبر الفناء، - لم يكن بمنزلنا قطط - أسرعت في الإثر، لمحت فيه قط العيادة الأعرج، أصابني غضب وخوف،هممت أطارده فاقتحم غرفة النوم، رأيت القط الأعرج مهروس الأضلع يقف على المخدة فوق السرير المبعثر، وينظر في عيني، هممت به فقفز من الشباك المفتوح ، داعب النسيم ستائر الغرفة.
فعبقت رائحة ذكورة حادة ...
تسلحت بقضيب حديدي، وخرجت إلى الفناء أبغي القط، لم أجده لكني وجدت الخيانة...
تملكتني رغبة القتل، حاصرتني العيون الزرقاء وإستعدت تداعيات اليوم المشبوه : نشرة لندن، غيمة الظهيرة، الدبابتان فوق الجسر...مشاهد الإنتصاب، نظرات القط الأعرج، حادثة الطريق... جملتنا المفرغة... خيانة السقوط وسقوط الخيانة...
تساءلت أيهما أسبق الخيانة أم السقوط؟ ؟ وحين أدركت أني قتلت الخيانة بالسقوط.
همت في ظلمة الشارع الممتدّ فوق جسور الفراغ
كانت تناديني "عمي منصف" منذ صغرها ومن قبل أن تكمل نطق الحروف ، لحظة عمى وضياع ذهبت بعّمي، لحظة واحدة حطمت جسورا وبنت أخرى ...
هناك أيام ثقال، في يوم ثقيل منها إنحدرتً ، أنا المتدحرج دوما، و صعدت هي فوق غيمة مكدودة ناشفة، عندها انطلقت الجملة العارية .
لم أتعود فتح العيادة أيام العطل، لكن ضجرالبيوت طاردني،استقبلني القط الأعرج - على غير عادته- بمواء حزين ملحاح موصول، فتحت المذياع الذي لم يفارقني منذ أيام،أرقب نشرة الظهيرة ، جدي كان لايثق إلا بأخبارلندن، وكان يردد بعد سماع كل خبر جديد : "كان خبّرت عليه لندرة راهو صحيح".
عندما دخلتً العيادة كنت مشتتا، متناثرا، عبثا حاولت مطاردة القط الأعرج الذي أربكني حضوره الثقيل، بلبلتني نظراته المستقيمة التي تحاصرني في كل زاوية، حاصرته بعد جهد وأغلقت عليه أبواب المراحيض.
وكذلك حينما دخلت هي، كنت مشتتا بين صحيفة مًفرغة ونشرة لم تأت،جمعتً نفسي ونسيت تشتتي وخوفي وتوجسي.
احتضنتني لاهثة :
- " فادّة وتاعبة...محظوظة كي لقيتك ، كملت المسيرة، قلت نمشي لعمي منصف ، انزيد نسمع لخبار".
أخفيت ضياعي في قناع أسئلة سمجة عن الدروس والمسيرات...أنقذتني نشرة الظهيرة من تشتتي- ركام من التعليقات المربكة- غارت مياه دجلة- ودبابتان تتقدمان فوق الجسر بحذر وتصميم...
دمعتان تنحدران ببطء وتأتلقان على الوجنتين الناضحتين،أسندت رأسها الواهنة على صدري الأجوف، أنا- ككل الرجال المفرغين- لم أبك، إهتزت أضلعي كجسر مًعلق في الفراغ والقط الأعرج ينتصب قبالتي بنظرتين مستقيمتين، متحديتين ...
أغرقتنا نشرة الظهيرة في صمت مريب...
القط انقطع مواؤه، نظرته مثبتة فينا ، نشيجها يرجّع إيقاع الهزائم المتدافعة، حرج مقيت يجتاحني، ألجأ للصحيفة، عناوين المأتم الخادع ، أعياد،حريات كثيرة يقودها الإنتصاب الحرّ ...
تهتز أضلعي في نشيج مكتوم ،أضيء التلفاز الصغير،يكتسح العري كل شيء، والدبابتان تتقدمان فوق الجسر، مدفعاهما طويلان، منتصبان...
تزداد غربتي، وتئز جسور الفراغ في أضلعي، ويزيد عريي...
أحضنها أكثر فتذوب في فراغي،تمتد يدي في ارتعاشة خائبة، وتستقرّ فوق ضجيج نهديها،وينفلت الصخب من أسر صمت الضياع ، يأخذنا إنتصاب الظهيرة الرخو وسرعان ما نسقط ،اليأس يطرد الخجل، وجرأة الفراغ تدفعنا، غمرتنا الخيانة، ونضح ملح جسدينا فتلمضنا الملوحة.
أردت أن أقتل الخيانة فتسلحت بالسقوط.
نهش كل منا جسد الآخر في صمت وعناد، تسقط جسور وتمتدّ أخرى، تحت نظرات التاريخ السكرى المنهكة بتدوين الفتوحات.
ينوح الغزالي فوق القيظ والغبار:-" هاذوك العذبوني...هاذوك المرمروني...وعلى جسر المسيّب سيّبوني."-
يزعجني القط بنظراته فأطارده ثم يعود وأعود...
ظلت السيارة تجرجر هامتها على الإسفلت المبلل، ارتفع القط أمتارا كثيرة قبل أن يسقط فوق مقدمتها.
صدمة الإرتطام وصدمة السقوط ومواء العجلات المكبوحة، ونباح المنبهات ...أحسست أني مطارد في هذا اليوم الثقيل، مطارق في الرأس وخدر في اليدين المرتعشتين...
عندما سقط القط فوق مقدمة السيارة، أصابني رعب توجسي- "لاتضرب القط إنه جني متنكر" كانت تردد عمتي كلما ركلت قطها الرمادي... قررت مواصلة السير، حدت عن شارع الحرية، وسرت في إتجاه ممنوع... القط النازف ينشب أظافره في المعدن الأملس قبالتي ويحدق في بألم، أقود بعصبية وإصرار، أسقطته بعد جهد وخوف، كنت أسرع ثم أكبح السيارة، قاوم ثم تهاوى وارتطم بالمعدن السفلي، وزدت السرعة وهربت.
أوصلتها إلى مدخل العمارة، لم تنظر في وجهي ولم أنظر في وجهها، لم نتكلم بعد غيمة الظهيرة ،جملتها الوحيدة، تمدّ جسور صمتنا ، تتردد في الفراغ: "ما أسقطك يا منصف"
ليست جملتها بل جملتنا الوحيدة، لأني كذلك - ككل الرجال المفرغين- لم أتكلم، حاولت أن أسترجع تفاصيل غيمة الظهيرة لكني أخفقت، أردت أن أحدد زمن الحقيقة، الخيانة: قبل السقوط أم بعده؟
" أعتبرها كيف آمل بنتك ...ما انزيدش انوصيك عليها"
أبوها - قبل توغله في الصقيع- كان صديقي الأوحد،أخذته الحياة بعيدا،كان يخشى السقوط ،ويكره الإنتظار، ترك الوصية، واختار الرحيل...
عند ولادتها إحتفلنا وسكرنا وكان يقول سميتها "أحلام" حتى يستمر الحلم... وفي خيباته الكثيرة كان يردد "لاتخف إبنتي أحلام وإبنتك أمل قوسان موتوران في الطريق الطويل".
متى وردت على فمها جملة الحقيقة ؟ يصعب التحديد رغم إن الغيمة لم تزد عن الساعة، نصفها الأول كنا مشدودين إلى نشرة الظهيرة، ثم كان الصمت ...وفي موجزها - الدبابتان فوق الجسر- ثم كان العبور والإنتصاب الخائب ثم ماذا بعدها؟
من وحشة الصمت، تولد خيبة الحقيقة، وربما جاءت الجملة في هذا الموضع تحديدا ...
وفي كل الحالات لايكون السقوط سقوطا إلا إذا سبقه إرتفاع ، فجملتها الوحيدة: "ما أسقطك يا منصف"
- أو بالأحرى جملتنا- تبعا لذلك تصبح بلا معنى.
أوصلتها وعدت إلى المنزل مكرها تطاردني عيون زرقاء،إختناق يعصر أضلعي المتشابكة كجسر معلق في الفراغ...
في إحدى العشريات المظلمة كان يقول : نحن لقاح يا منصف، جيلنا جسر عبور للآتي ، نحن منذورون لذلك، كان مفتونا بالعوالم السفلية :" يجب أن نبدأ من حيث تكون البداية..." كان يهوى حركة القواعد وينتحر فيها وعندما سطا المحترفون على كل الحركة، مزقته الخيانة فمزق أوراقه، وخرج عن كل المنظمات والجمعيات وتاه في وحشة الغربة ...
هربت من طيفه وركنت السيارة، و تفحصتها،لم أجد عليها أثرا لأرتطام القط أوسقوطه ،غير خدوش على صفيحة الدهن اللماع، إستقبلتني زوجتي في إضطراب واضح، شعرها منفوش وأثوابها ملتوية، كانت وحيدة في المنزل.
طالعني خيال قط سريع يعبر الفناء، - لم يكن بمنزلنا قطط - أسرعت في الإثر، لمحت فيه قط العيادة الأعرج، أصابني غضب وخوف،هممت أطارده فاقتحم غرفة النوم، رأيت القط الأعرج مهروس الأضلع يقف على المخدة فوق السرير المبعثر، وينظر في عيني، هممت به فقفز من الشباك المفتوح ، داعب النسيم ستائر الغرفة.
فعبقت رائحة ذكورة حادة ...
تسلحت بقضيب حديدي، وخرجت إلى الفناء أبغي القط، لم أجده لكني وجدت الخيانة...
تملكتني رغبة القتل، حاصرتني العيون الزرقاء وإستعدت تداعيات اليوم المشبوه : نشرة لندن، غيمة الظهيرة، الدبابتان فوق الجسر...مشاهد الإنتصاب، نظرات القط الأعرج، حادثة الطريق... جملتنا المفرغة... خيانة السقوط وسقوط الخيانة...
تساءلت أيهما أسبق الخيانة أم السقوط؟ ؟ وحين أدركت أني قتلت الخيانة بالسقوط.
همت في ظلمة الشارع الممتدّ فوق جسور الفراغ