مات أبي و لم أبك، بالعكس لقد فرحت كثيرا لموته، لأني بكيت ما فيه الكفاية طول الست سنوات التي قضاها طريح الفراش في غيبوبة تامة، إنها ساعة الفرج التي طالما انتظرناها، بحيث كان ينادي أمي بأي إسم خطر على باله، فغالبا ما كان يناديها بأسماء الذكور ( آآآ سي محمد مثلا أو آآآ السي قدور..) بينما كان يناديني أنا ( آآآ ذاك الرجل ..أو آآآ بنيتي) وذلك من أجل تقليبه على الجنب المرتاح أو من أجل ان نحضر له بعض الوجبات..
مات الذي أفنى عمره من أجلي، مضى و ترك الدموع متحجرة بعيني كما ترك لي كذلك رغبة شديدة في البكاء لكن الوقت الآن لا يسمح، سأؤجل شهوة هذا الفعل إلى ما بعد ، فأنا الآن متبوع بعدة إلتزامات كإخبار الأهل مثلا زيادة على الخروج إلى السوق من أجل شراء الكفن و بعض اللوازم الأخرى...
إنها ساعة الشدّة والضيق يجب علي أن أصمد بقلب صلب لكي لا أنهار وخصوصا أنني أنا الإبن الوحيد المعتمد عليه ..
لم تمض ساعة على الحدث الجلل حتى توافدت على بيتنا فلول و جماعات من الأهل والأصدقاء، الأهل هرعوا مباشرة إلى غرفة أمي أما الأصدقاء فقد إستقبلتهم في الغرفة الكبيرة المجاورة لغرفة النعش...
كل رفاقي بالمصنع حضروا منهم مومو وعبدالسلام الشاعر و المعلم قدور و و و.. وعبدالرحمان ذاك الوجه البشوش الذي كان يطربنا دوما ( بعيطاته) وصوته الناغم ها هو أراه الآن دامعا متخشعا... إنها لحظة تضامن حقيقية فحتى خصومي و أعدائي في الحرفة حضروا باكين، نعم كلهم حضروا إلا " الدركي" فقد تغيب عن الركب...
بعد عودتنا من المقبرة و إنهاء مراسم الدفن لم يودعني أحد من الرفاق فلقد رافقوني إلى البيت و ذلك من أجل المواساة، قال لي أحدهم وهو يجدد عزاءه لي: ( ترجل يا أخي ! ترجل، فالرجل لا تكتمل رجولته إلا إذا مات أبوه..)
أبكاني قول الرجل بعدما كنت مصرا على التأجيل، إنها الدمعة التي أفاضت الجفن.. فلقد بكيت و بكيت إلى درجة ّأنني احسست بنفسي و كأنني صبي لم يتجاوز بعد سن الفطام. نعم بكيت إلى أن امتزج شهيقي المباح بقراءة القرآن.. حاولت أن أتحكم في أمري لكن الجهد فوق جهدي.. بكيت و بكيت حتى كاد أن يغمى علي، لكن من حسن الحظ لم تسمعني أمي، فقد كانت مشغولة مع باقي الأهل في الغرفة المجاورة، لأني أخاف عليها أكثر ما أخاف على نفسي من أي انهيار عصبي وخصوصا أنها مصابة بداء السكري
صحوت على صوت الفقيه عبدالله وهو يبسمل جهرا و يلعن كل شياطين السماء و الأرض..
مسحت دموعي و تناولت كأس شاي من يد الرجل الذي أبكاني ثم تحدثنا قليلا في أمور الدين و أمور الدنيا الفانية ثم ثرثرنا كثيرا في غلاء المعيشة و مشاكل الشركة وأعداد الذين ماتوا في بطن المنجم والذين احترقوا و الذين اختنقوا بالمصنع ، كما تطرقنا إلى تدهور حالة العباد والبلاد و فساد السياسة وظلم القواد إلى أن قاطعنا الفقيه عبد الله دون إستشارة مسبقة بــقوله تعالى : (و لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون..)
ما كاد أن يسكت الفقيه حتى تسابقـنا جملة إلى رحمة والديه.. وبعده دار الكأس بينناـ كأس الشاي طبعاـ تنسمناه فرادى فرادى و به تجدد الحديث.. هذه المرة نميمة مباحة بالجملة في شخص ' الدركي' المسؤول عن إدارة المصنع ..
حدثنا مومو عن قصة أمه عندما كانت خادمة ببيوت النصارى و كان' هو' أنذاك نزيلا بدار الأيتام ثم أردف: لكن العلم لله هل هو يتيم أم لقــيــ... تبسمنا جميعا مدركين المعنى ! لكن عبدالرحمان قهقه كثيرا و هو يمضغ الكلام : ( ولد الحرام.. عيناه زرقاوتان ههههه نصفه نصراني و نصفه ... ههههه هكذا يكون الحكام و إلا فلا..)
لحظتها كنت شارد البال واضعا يدي على خدي أقرأ وجوه أحبابي الذين قضوا يوما كاملا في مواساتي إلى أن غلبني الكلام فتكلمت بعدما تبين لي الخيطان ، قلت لجموع الحاضرين: لا أنكر عليكم إخواني أنني ضدكم في الرأي هذه المرة، نعم ضدكم، فلا عيب لا في ' الدركي' و لا في الشركة التي نعمل بها ولا في الحكومة ولا في الحكام و لا حتى في النظام، ولا ولا ... العيب فينا يا إخواني بالأطنان ، نحن الذين نتفق دائما على أن لا نتفق، نسعى جاهدين إلى التفرقة و شتات الصفوف كما نتسابق إلى الرشوة و الوشاية ببعضنا وذلك لغاية في نفس حقود... فلا حل بيدنا الآن إلا إذا متنا و حيينا من جديد..
ما كدت أن أتمم خطابي حتى تسابقوا جميعا إلى رحمة والدي الذي مازال طيفه لم يفارقني بعد، ثم تكلم عباس الذي كان أشد خصومي و أحقدهم
أخي عبدالله الحركي ، إخواني المتحركين داخل الشركة ، ما رأيكم في أن نوحد صفوفنا تحت لواء إحدى المركزيات النقابية؟؟.. إنه حق مشروع وخصوصا أننا طبقة مسحوقة.. نعم سنواجه بعض المشاكل في البداية لكن '' ما ضاع حق من ورائه طالب''
قلت في نفسي: (هذا عباس.. ياسبحان مبدل الاحوال، ما أحوجنا لمثل هذه المناسبات ولو كانت موتا !! ..)
جميعا أيدنا كلام عباس و طلبنا منه أن يتزعم حركتنا النقابية لكنه أشار إليّ بسبابته مرشحا إياي كما طلب مني أن أقرأ على جموع الحاضرين بما فيهم الفقهاء والفقراء، العاملين منهم والعاطلين '' قصيدة الخبز'' التي لاتشبه غراميات عبدالسلام الشاعر في شيء، حاولت أن أتهرب لكن الشعر غلب، فقرأت:
( زد رتّل هذا النشيد
يا أيها الطفل الجائع المارد العنيد
صوّت بصوتك الرقيق
قل هاتوا الخبز
هاتوا الدقيق ..
إجمع شتاتك و أوراقك الملقاة على الرصيف
بالسيف
بالكلمة حرر رقبة العبيد
زد أكمل هذا النشيد
يا أيها الطفل الجائع المارد العنيد .)
وحين سكتت سكت الجميع طمعا في المزيد، وكنت قد ذرفت آخر دمعة مستعصية بجفني ثم أعدت نفس النشيد..
عبدالعالي أواب
يتبع
مات الذي أفنى عمره من أجلي، مضى و ترك الدموع متحجرة بعيني كما ترك لي كذلك رغبة شديدة في البكاء لكن الوقت الآن لا يسمح، سأؤجل شهوة هذا الفعل إلى ما بعد ، فأنا الآن متبوع بعدة إلتزامات كإخبار الأهل مثلا زيادة على الخروج إلى السوق من أجل شراء الكفن و بعض اللوازم الأخرى...
إنها ساعة الشدّة والضيق يجب علي أن أصمد بقلب صلب لكي لا أنهار وخصوصا أنني أنا الإبن الوحيد المعتمد عليه ..
لم تمض ساعة على الحدث الجلل حتى توافدت على بيتنا فلول و جماعات من الأهل والأصدقاء، الأهل هرعوا مباشرة إلى غرفة أمي أما الأصدقاء فقد إستقبلتهم في الغرفة الكبيرة المجاورة لغرفة النعش...
كل رفاقي بالمصنع حضروا منهم مومو وعبدالسلام الشاعر و المعلم قدور و و و.. وعبدالرحمان ذاك الوجه البشوش الذي كان يطربنا دوما ( بعيطاته) وصوته الناغم ها هو أراه الآن دامعا متخشعا... إنها لحظة تضامن حقيقية فحتى خصومي و أعدائي في الحرفة حضروا باكين، نعم كلهم حضروا إلا " الدركي" فقد تغيب عن الركب...
بعد عودتنا من المقبرة و إنهاء مراسم الدفن لم يودعني أحد من الرفاق فلقد رافقوني إلى البيت و ذلك من أجل المواساة، قال لي أحدهم وهو يجدد عزاءه لي: ( ترجل يا أخي ! ترجل، فالرجل لا تكتمل رجولته إلا إذا مات أبوه..)
أبكاني قول الرجل بعدما كنت مصرا على التأجيل، إنها الدمعة التي أفاضت الجفن.. فلقد بكيت و بكيت إلى درجة ّأنني احسست بنفسي و كأنني صبي لم يتجاوز بعد سن الفطام. نعم بكيت إلى أن امتزج شهيقي المباح بقراءة القرآن.. حاولت أن أتحكم في أمري لكن الجهد فوق جهدي.. بكيت و بكيت حتى كاد أن يغمى علي، لكن من حسن الحظ لم تسمعني أمي، فقد كانت مشغولة مع باقي الأهل في الغرفة المجاورة، لأني أخاف عليها أكثر ما أخاف على نفسي من أي انهيار عصبي وخصوصا أنها مصابة بداء السكري
صحوت على صوت الفقيه عبدالله وهو يبسمل جهرا و يلعن كل شياطين السماء و الأرض..
مسحت دموعي و تناولت كأس شاي من يد الرجل الذي أبكاني ثم تحدثنا قليلا في أمور الدين و أمور الدنيا الفانية ثم ثرثرنا كثيرا في غلاء المعيشة و مشاكل الشركة وأعداد الذين ماتوا في بطن المنجم والذين احترقوا و الذين اختنقوا بالمصنع ، كما تطرقنا إلى تدهور حالة العباد والبلاد و فساد السياسة وظلم القواد إلى أن قاطعنا الفقيه عبد الله دون إستشارة مسبقة بــقوله تعالى : (و لو رحمناهم و كشفنا ما بهم من ضر للجوا في طغيانهم يعمهون..)
ما كاد أن يسكت الفقيه حتى تسابقـنا جملة إلى رحمة والديه.. وبعده دار الكأس بينناـ كأس الشاي طبعاـ تنسمناه فرادى فرادى و به تجدد الحديث.. هذه المرة نميمة مباحة بالجملة في شخص ' الدركي' المسؤول عن إدارة المصنع ..
حدثنا مومو عن قصة أمه عندما كانت خادمة ببيوت النصارى و كان' هو' أنذاك نزيلا بدار الأيتام ثم أردف: لكن العلم لله هل هو يتيم أم لقــيــ... تبسمنا جميعا مدركين المعنى ! لكن عبدالرحمان قهقه كثيرا و هو يمضغ الكلام : ( ولد الحرام.. عيناه زرقاوتان ههههه نصفه نصراني و نصفه ... ههههه هكذا يكون الحكام و إلا فلا..)
لحظتها كنت شارد البال واضعا يدي على خدي أقرأ وجوه أحبابي الذين قضوا يوما كاملا في مواساتي إلى أن غلبني الكلام فتكلمت بعدما تبين لي الخيطان ، قلت لجموع الحاضرين: لا أنكر عليكم إخواني أنني ضدكم في الرأي هذه المرة، نعم ضدكم، فلا عيب لا في ' الدركي' و لا في الشركة التي نعمل بها ولا في الحكومة ولا في الحكام و لا حتى في النظام، ولا ولا ... العيب فينا يا إخواني بالأطنان ، نحن الذين نتفق دائما على أن لا نتفق، نسعى جاهدين إلى التفرقة و شتات الصفوف كما نتسابق إلى الرشوة و الوشاية ببعضنا وذلك لغاية في نفس حقود... فلا حل بيدنا الآن إلا إذا متنا و حيينا من جديد..
ما كدت أن أتمم خطابي حتى تسابقوا جميعا إلى رحمة والدي الذي مازال طيفه لم يفارقني بعد، ثم تكلم عباس الذي كان أشد خصومي و أحقدهم
أخي عبدالله الحركي ، إخواني المتحركين داخل الشركة ، ما رأيكم في أن نوحد صفوفنا تحت لواء إحدى المركزيات النقابية؟؟.. إنه حق مشروع وخصوصا أننا طبقة مسحوقة.. نعم سنواجه بعض المشاكل في البداية لكن '' ما ضاع حق من ورائه طالب''
قلت في نفسي: (هذا عباس.. ياسبحان مبدل الاحوال، ما أحوجنا لمثل هذه المناسبات ولو كانت موتا !! ..)
جميعا أيدنا كلام عباس و طلبنا منه أن يتزعم حركتنا النقابية لكنه أشار إليّ بسبابته مرشحا إياي كما طلب مني أن أقرأ على جموع الحاضرين بما فيهم الفقهاء والفقراء، العاملين منهم والعاطلين '' قصيدة الخبز'' التي لاتشبه غراميات عبدالسلام الشاعر في شيء، حاولت أن أتهرب لكن الشعر غلب، فقرأت:
( زد رتّل هذا النشيد
يا أيها الطفل الجائع المارد العنيد
صوّت بصوتك الرقيق
قل هاتوا الخبز
هاتوا الدقيق ..
إجمع شتاتك و أوراقك الملقاة على الرصيف
بالسيف
بالكلمة حرر رقبة العبيد
زد أكمل هذا النشيد
يا أيها الطفل الجائع المارد العنيد .)
وحين سكتت سكت الجميع طمعا في المزيد، وكنت قد ذرفت آخر دمعة مستعصية بجفني ثم أعدت نفس النشيد..
عبدالعالي أواب
يتبع