لأنهم بايعوني بالجملة نائبا عنهم ، ظنوا أن الحكاية إنتهت، وظننت أنهم سيقفون بجنبي في كل المحطات النضالية، لكنهم لم يفعلوا.. مساكين معذورون على غيابهم ، ومعذورون أيضا حتى على النفور مني فسيف الشركة ذو حدين، لا مشاورة و لاحوارا و لا .. ولا.. و لا هم يفرحون، فالدركي و أعوانه من المسؤولين عن الشركة المنجمية الشريفة يشردون العمال في كل مرة عبرة لمن يعتبر ويحكمون ظلما لمن أراد أن يحتكم، فالمعلم قدير مثلا كان من الصناع المهرة الأوائل، ما بارت صناعته يوما و لا عقرت لكنه إنتهى أحمقا يخيط شوارع المدينة و يرتق أزقتها بعدما ألقى بكل أثاثه المنزلي الفخم من النافذة ... طلق العمل الطلاق الثلاث و صار يجوب الشوارع عرضا وطولا وهو يضحك، يضحك ويضحك ههههههههههه... ذنبه في ذلك أنه كان لا يكتم كلمة الحق .. أما آخرون فقد شُردوا هم و أطفالهم و نساؤهم إلى درجة أن لسان الشارع لم يعد يتطاول على أحد من الناس سواهم .. هذا البريء إبن فلان وتلك الضحية زوجة فلان بيد أن فلانا كان و كان.. كان رجلا و نعم الرجال..
مساكين معذورون لم يطأوا يوما مقر نقابتنا رغم أنهم كانوا دائما يقسمون لي بالله العلي العظيم أنهم في المرة القادمة سيحضروا.. لكنهم في النهاية يأتونني معتذرين.. منهم من يبرهن غيابه بموت أحد أفراده و منهم من يقول لي آه نسيت ومنهم المسافر و لا سفر ! لكن الجميل فيهم أنهم كانوا يعدونني كل مرة بالحضور كانوا يقولون لي متأسفين : في المرة القادمة إن شاء الله لابد و أن نحضر..
و لأني كنت دائما أُعرفهم بمفهوم النقابة تماما كما شرحه لي أحد الرفاق الضالعين في فعل النضال حين سألته يوما عن ماهية النقابة و رد علي مازحا ومستهزئا النقابة هي ان تنقب عن زلات إدارة الشركة و تدينها قبل ان تصبح قانونا معمولا به و هي أيضا من غير عمال فاعلين مجرد كراسي فارغة تضر و لا تنفع .. كنت أستدفئ بثقتهم لكن كلما أتت المرة القادمة لا يقدمون، يا سبحان الله وكأنهم على إتفاق مسبق.. دائما نفس التبريرات ونفس الأعذار.. مثلهم في ذلك كمثل قوم موسى حين قالوا له: ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون)..
فقط بعض العمال القلائل كانوا يأتون لا من مصلحة الصيانة الميكانيكية التي كنت أنتمي إليها بل من بعض الأقسام الأخرى من عمال ما تحت الأرض أي الغار .. سواء من " الجهيرة " أو " العراض " أو "المزيندة " و كلها مدن تحت الأرض يحكمها رجل من فوق الأرض أنيــق جدا و ظالم ظلم مستعمر يضرب بالعصا و تمد إليه.. هذه الفئة من العمال كانوا يلقبون بـ : ( الدوزيام حلوف) أي الحلوف رقم 2 نظرا لشجاعتهم و بسالتهم وعرض عضلاتهم.. لكنهم هم الرجال الحقيقيون ، أذكر أنهم اعتصموا ذات مرة في قلب الغار و أضربوا عن الطعام، رجال و نعم الرجال يعملون بجد و نشاط و إخلاص و يعرفون الوطن أكثر ما يعرفهم.. هم الذين يستخرجون المعدن النفيس من جوف الأرض سواء من " الجهيرة " أو من 'العراض " أو من تحت قرى أخرى متاخمة لمدينة الضباب و التراب (…..)
إنها مجموعة أغوار تنحدر إلى أعماق الارض بمئات الأمتار مكتوب على بيبانه كما يقول ( العطاشة ) أي عمال ما تحت الأرض: (الداخل مفقود و الخارج مولود..) نَعم رجال ونِعم الرجال و التاريخ شاهد على ما يقال و 'ولد زازة' أكبر العطاشة شهيد وشاهد على العصر، على ذاك المكان وعلى ما كان.. هذا الأُخير لفظ أنفاسه الأخيرة بين أحضان رفيق له على درب النضال و في فمه كلمة لا إله إلا الله، مات مغذورا برصاص العسكر أمام باب المنجم رقم " 3" غريبا مات، لا أحد حضر إحتضاره.. لا كاميرات و لا شاشات ولا مذياعا يذيع الخبر.. ذنبه في ذلك أنه رفع راية العصيان ناضل و أعلن الإضراب.
أما رفاقي عمال الصيانة المناضلين ما فوق الأرض، فقد كانوا لا علم لهم لا بتاريخ الشركة الأسود و لا بولد زازة من يكون ؟ الشيء الذي زاد في طينهم بلة و في ردتهم حدة .. مناضلون و ماهم بمناضلين، دائمو الغياب ، كثيرو السؤال..همهم الوحيد هو أنهم كلما عدت إليهم يمطرونني بالأسئلة و بالإعتذارات عن عدم الحضور إلى مقر النقابة الوطنية لعمال التراب..
أذكر أني عدت ذات يوم مبتهجا ومعي بطاقات إحتجاجية صفراء مستديرة ظانا أني سأوزعها بكل شغف على جموع الرفاق من العمال لكني أصبت بخيبة أمل لأن كل الرفاق الذين كنت أحسب لهم ألف حساب قلبوا لي الأوراق والموازين في يوم مشين و ما هو بمشين منهم من تنصل مني بسلام و منهم من لم يقل لي حتى السلام !!
و لأنهم كانوا يعترضون طريقي واحدا واحدا صباح مساء مستفسرينني عن بعض الأستحقاقات الموعود بها إلى درجة أنهم كانوا يشغلونني عن مهامي وواجباتي المهنية هاهم اليوم يوم الشارة ينفرون مني.. اقترب ويبتعدون . حاولت هذه المرة أن أقترب منهم و أحسسهم كالعادة أن الوضعية السياسية في البلاد تحسنت و أن العقلية تغيرت و أن الشركة رغما عنها أنفتحت على بعض الحقوق و خصوصا النقابية منها ، لكن دون جدوى لم يقتنعوا و لن يقتنعوا ولا هم بمقتنعين... مثلهم في ذلك كمثل الدجاج الذي فك من قيده و ما زال يحسب نفسه مقيدا ...
وحدي حملت الشارة الصفراء المستديرة... يومها كم فرحت بها و كم أعجبت.. علقتها على صدري رمزا للكرامة و الشهامة و الرجولة أيضا في زمن الدجاج الأبيض و قلة الرجال.. وحدي أندد وأحتج .. أطالب بالزيادة في الأجور ، تمليك السكن و الترقية ، نعم الترقية لأن هناك من العمال من بدأ مسيرته العملية حلوفا و أنتهى حلوفا ، أما الأطر و المهندسين و غيرهم من أولي الأمر بدأوا مهندسين صغارا و انتهوا رؤوسا كبيرة وغليظة في هرم الدولة ككل ... أما أنا العامل المناضل الشريف فأرفض كل الرفض أن أبدأ مسيرتي العملية حلوفا و أنتهي حلوفا... لأني عامل مردودي و أريد أن يعم فضل مردوديتي عليَ وعلى كل المتعبين أمثالي ..
كان بالإمكان أن اكون ... لكني طاوعت ضميري و لم أطاوع المسؤول .. لم يُطلب مني شيء سوى السكوت لكن عيبي الوحيد أني لا أسكت عما تراه عيني المبجحة من خروقات لأن لساني طويلٌ طويلٌ وطويل دائما يغلبني و لاغالب إلا الله.
عبدالعالي أواب
مساكين معذورون لم يطأوا يوما مقر نقابتنا رغم أنهم كانوا دائما يقسمون لي بالله العلي العظيم أنهم في المرة القادمة سيحضروا.. لكنهم في النهاية يأتونني معتذرين.. منهم من يبرهن غيابه بموت أحد أفراده و منهم من يقول لي آه نسيت ومنهم المسافر و لا سفر ! لكن الجميل فيهم أنهم كانوا يعدونني كل مرة بالحضور كانوا يقولون لي متأسفين : في المرة القادمة إن شاء الله لابد و أن نحضر..
و لأني كنت دائما أُعرفهم بمفهوم النقابة تماما كما شرحه لي أحد الرفاق الضالعين في فعل النضال حين سألته يوما عن ماهية النقابة و رد علي مازحا ومستهزئا النقابة هي ان تنقب عن زلات إدارة الشركة و تدينها قبل ان تصبح قانونا معمولا به و هي أيضا من غير عمال فاعلين مجرد كراسي فارغة تضر و لا تنفع .. كنت أستدفئ بثقتهم لكن كلما أتت المرة القادمة لا يقدمون، يا سبحان الله وكأنهم على إتفاق مسبق.. دائما نفس التبريرات ونفس الأعذار.. مثلهم في ذلك كمثل قوم موسى حين قالوا له: ( فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ها هنا قاعدون)..
فقط بعض العمال القلائل كانوا يأتون لا من مصلحة الصيانة الميكانيكية التي كنت أنتمي إليها بل من بعض الأقسام الأخرى من عمال ما تحت الأرض أي الغار .. سواء من " الجهيرة " أو " العراض " أو "المزيندة " و كلها مدن تحت الأرض يحكمها رجل من فوق الأرض أنيــق جدا و ظالم ظلم مستعمر يضرب بالعصا و تمد إليه.. هذه الفئة من العمال كانوا يلقبون بـ : ( الدوزيام حلوف) أي الحلوف رقم 2 نظرا لشجاعتهم و بسالتهم وعرض عضلاتهم.. لكنهم هم الرجال الحقيقيون ، أذكر أنهم اعتصموا ذات مرة في قلب الغار و أضربوا عن الطعام، رجال و نعم الرجال يعملون بجد و نشاط و إخلاص و يعرفون الوطن أكثر ما يعرفهم.. هم الذين يستخرجون المعدن النفيس من جوف الأرض سواء من " الجهيرة " أو من 'العراض " أو من تحت قرى أخرى متاخمة لمدينة الضباب و التراب (…..)
إنها مجموعة أغوار تنحدر إلى أعماق الارض بمئات الأمتار مكتوب على بيبانه كما يقول ( العطاشة ) أي عمال ما تحت الأرض: (الداخل مفقود و الخارج مولود..) نَعم رجال ونِعم الرجال و التاريخ شاهد على ما يقال و 'ولد زازة' أكبر العطاشة شهيد وشاهد على العصر، على ذاك المكان وعلى ما كان.. هذا الأُخير لفظ أنفاسه الأخيرة بين أحضان رفيق له على درب النضال و في فمه كلمة لا إله إلا الله، مات مغذورا برصاص العسكر أمام باب المنجم رقم " 3" غريبا مات، لا أحد حضر إحتضاره.. لا كاميرات و لا شاشات ولا مذياعا يذيع الخبر.. ذنبه في ذلك أنه رفع راية العصيان ناضل و أعلن الإضراب.
أما رفاقي عمال الصيانة المناضلين ما فوق الأرض، فقد كانوا لا علم لهم لا بتاريخ الشركة الأسود و لا بولد زازة من يكون ؟ الشيء الذي زاد في طينهم بلة و في ردتهم حدة .. مناضلون و ماهم بمناضلين، دائمو الغياب ، كثيرو السؤال..همهم الوحيد هو أنهم كلما عدت إليهم يمطرونني بالأسئلة و بالإعتذارات عن عدم الحضور إلى مقر النقابة الوطنية لعمال التراب..
أذكر أني عدت ذات يوم مبتهجا ومعي بطاقات إحتجاجية صفراء مستديرة ظانا أني سأوزعها بكل شغف على جموع الرفاق من العمال لكني أصبت بخيبة أمل لأن كل الرفاق الذين كنت أحسب لهم ألف حساب قلبوا لي الأوراق والموازين في يوم مشين و ما هو بمشين منهم من تنصل مني بسلام و منهم من لم يقل لي حتى السلام !!
و لأنهم كانوا يعترضون طريقي واحدا واحدا صباح مساء مستفسرينني عن بعض الأستحقاقات الموعود بها إلى درجة أنهم كانوا يشغلونني عن مهامي وواجباتي المهنية هاهم اليوم يوم الشارة ينفرون مني.. اقترب ويبتعدون . حاولت هذه المرة أن أقترب منهم و أحسسهم كالعادة أن الوضعية السياسية في البلاد تحسنت و أن العقلية تغيرت و أن الشركة رغما عنها أنفتحت على بعض الحقوق و خصوصا النقابية منها ، لكن دون جدوى لم يقتنعوا و لن يقتنعوا ولا هم بمقتنعين... مثلهم في ذلك كمثل الدجاج الذي فك من قيده و ما زال يحسب نفسه مقيدا ...
وحدي حملت الشارة الصفراء المستديرة... يومها كم فرحت بها و كم أعجبت.. علقتها على صدري رمزا للكرامة و الشهامة و الرجولة أيضا في زمن الدجاج الأبيض و قلة الرجال.. وحدي أندد وأحتج .. أطالب بالزيادة في الأجور ، تمليك السكن و الترقية ، نعم الترقية لأن هناك من العمال من بدأ مسيرته العملية حلوفا و أنتهى حلوفا ، أما الأطر و المهندسين و غيرهم من أولي الأمر بدأوا مهندسين صغارا و انتهوا رؤوسا كبيرة وغليظة في هرم الدولة ككل ... أما أنا العامل المناضل الشريف فأرفض كل الرفض أن أبدأ مسيرتي العملية حلوفا و أنتهي حلوفا... لأني عامل مردودي و أريد أن يعم فضل مردوديتي عليَ وعلى كل المتعبين أمثالي ..
كان بالإمكان أن اكون ... لكني طاوعت ضميري و لم أطاوع المسؤول .. لم يُطلب مني شيء سوى السكوت لكن عيبي الوحيد أني لا أسكت عما تراه عيني المبجحة من خروقات لأن لساني طويلٌ طويلٌ وطويل دائما يغلبني و لاغالب إلا الله.
عبدالعالي أواب