في قصص الأحلام ، تخلق الجنِّيات دروباً ضائعة تنهبها أقدام العشَّاق... صوت الدراجات... وكسل الأغنام قبل المغيب... في دروب بعيدة قد نصادف الكون مختالاً إلهيّ المحيّا، يعلن ولادة واقعة كونية غريبة كرائحة الطين المتيبِّس، أشمُّها نسرينا عاصفة بلذة الريح العنيدة تمارس الصلاة فوق مذبح الربّ كلما قتلتها الرغبة في اكتشاف جسد الإله...
وصادفها...
كان يعجبه تكوُّرها فوق قدميها، و محاولتها المجهدة لإقناع سرب من النمل بأن يجتاز دروبه عبر مسيلات شعرها القمحية! وكلما مرّ بسيارته حدَّق برائحة التراب حوله و امتصّ في سرِّه نشوة تزحف به كالحردون، متلوِّياً بين حافة الطريق وكثافة العشب ودبيب النمل الشيطاني على أخمص قدميه!! حتى يستلقي في ظلها يداعب انثناءات الزهر والطين على جسدها.
قالت له ذات مرة:
- أرغب كثيرا بأن تلامس أصابعي. أكاد أجنّ عندما تحشر كلامك فوق صدري، فتهتز ارتعاشاته بارتجاف حروفك... آه... كم أنت بارع بنفث الهواء فوق سكوني. لكني لن أموت هكذا صفحة في قصتك، و لن أنتهي معك كما تنتهي الكلاب بعد الجماع. سأترك لي على وسادتك مكان تبتلّ الدموع فيه كيلا تبقى جافاً كالفخار!
- أتعرفين؟! حضورك الدائم في ذاكرتي يفقدني اتجاهاتي اللغوية. لم أعد أستطيع التجمع في مساحتي المعتادة، رغم أني بحثت طويلاً عن كرسي خشبي في حديقة خريفية تلتمِّين حولها. راقبتك كثيراً، واستغربت كيف كان أن نمت أجزائي إلى دمية تشبه تلك التي تحملين.
صمت كلاهما، لكن صمتهما امتلأ بكلمات كغشاوة تشبه شكل الدمى، لون الجدران، وتثاؤب المنازل في الضيعة. كثيرا ماً كانت تلصق دُماها بصدرها حتى تشعر بتدويره الرائع... لا أدري كيف تحس بذلك. فما أجمل أن تمتلك صدراً أنثوياً يمتدّ في سرابك الداخلي.
عندما توقفت عند العشرين لم يعد هناك ما تحصيه من ثوان... تحولت عقارب ساعتها إلى هرم يستهلك في كل انتباهة لحواسها تراخي جسمها على الطريق المتجمِّع خلف التلة...
أحبّت كل خلية من خلايا ضيعتها. وهناك، في عيون أهل الضيعة، كانت تبحث عن ضحكة تشبهها، فتأخذ في جيب سروالها كمشة حجارة صغيرة وترميها على النوافذ فيضحك الجميع... وتزمجر النساء، ويعود الطنين من جديد إلى كثافة دماغها، طنين يشبه ضحكات الضيعة.
عندما عرفتها كانت قد التقت بسبينوزا، وعرفت عنه طعم الحليب. أخبرها تحت شجرة تفاح أن الحقيقة بقرة تأخر حليبها.
حدّثني صاحب المزرعة عن مطاردتها الدائمة لأشكال الأبقار في مزرعته، وكيف كانت تقف متأمِّلة بقرة ما وهي تبتلع العشب بغباء، فتقترب منها، تزحف، ثم تحبو حتى تلتقط ضرعها الحارّ، وتأخذ بتمسيده حتى ينزّ حليباً أصفر محتاج إليها، إلى ارتصاف أسنانها، إلى التجمع مرة أخرى في خلاياها والنزوح مع دمها إلى مواطئ الحياة الناريّة في تهويماتها.
قال لها:
- لم أجرب أن أتعلَّم الموت مرة. ألا أشبه الأطفال كثيراً؟! في صغري، عندما أحببت أنفي واكتشفت أصابعي ولامست شعري، لم أجرّب الموت. تعلَّمت الخوف من مسافة الموت التي ترافقني حتى على ورقة الكتابة وأصابع البيانو. أصبحت تشبه مسافة الكلمة الأولى من قصة تدور في رائحتي، بل تشبه الاهتزاز الأول لفراغي قبل البدء بطنين الموسيقى... البيانو... كان بهياً جداً لحن "الليلية" التي كتبها شوبان... بهياً... عندما عزفته لآخر مرة.
بكت طويلاً على أذنيه، رقبته، على ساعده المبتورة، ثم غاصت في الطين الليلي لذاك المساء. لم يكن لجسدها ابتداء يحيط بانثناءاته. كان يمتد إلى الطين. استطاعت أن تكوِّن جزأها الطيني بطريقة ساحرة، حرة أكثر من تفاصيلها اليومية القاتلة، وأحسَّت كثيراً أن جسمها مجرد تفصيل لا يتغير، شبيه بأوراق الروزنامة المقيتة.
دار حول انتباهها في سيارته وأثار حولها غبار رجولته. سألها وهي على طينها السابق:
- أريد أن تصنعي طيناً للموت؟! لست قادراً على الضياع في حانوتك هذا. ربما عرفته أكثر في انسياب الطين...
قالت له وهي تعبث بصمتها و تقضم أظافرها:
- غبي... أغبى من بقرة... يا أغبى من سطل القشّ!!
تعبت منه وهي تركض أمام حواسه، لكنها وقعت أمام دولاب السيارة فانتفضت من الذعر. من وهج المساحة البيضاء في خيالاتها. ثمة أشباح بيضاء تدور بالقرب من رائحة الدولاب المحترقة.
مسح خدوشها ودمها ببنطاله ونظر إلى إبهامها المتعب، ثم قرّبه بصمت ودغدغ شفتيه برحيقه النفّاذ.
همست في فمه:
- الموت لا يوجد إلا في تماثيل الثلج. يشبه لون القمر...
تذكّرت كيف أحبته على تلك التلّة. بقيت حينها تحبه ساعات ست متواصلة. ثم انتهت على شكل سيجارته الطويلة المنطفئة في فمه. كان الطريق طويلاً ينتهي بمنخفض عالٍ تقريباً. ألحّت أن يسابقها في سيارته مسافة ذلك الطريق.
تحفّزت وهو يضغط دوّاسة البنزين. انتبه كل شيء في جسمها عندما أصغت لتوقُّف الدم في مسيلاتها، ثم أخذت تخبو قليلاً. لم يعبق أمامها سوى احتراق سيجارته في حينها، ثم بدأت تتلاشى في مجهولها ببطء يشبه حركة الحصى حول المكان.
انطلقت قبله بزمن تجربة الخلاص تلك. كانت ستولد الآن بطريقتها الجديدة. بدأت تموت... إنها تذكر هذا جيداً... تركّزت جداً في مكانها الذي أخذ يدفعها إلى رنين أعلى فأعلى ثم صمم كليّ يشبه الـ"دو" البعيدة في البيانو... تذكّرت جيداً ملامحه وهو يمضغ الطريق أمامه... لقد مات معها وهو جالس خلف مقوده، ولن تستطيع اللحاق به.
قالت له: "سبقتك... لن..."
وبعثت واقعة كونية، حيث تفتّتت ملامحهما أمام رغبة عجوز شاخت في حسّهما الطفولي. في ذاك الموت فقدت عينيها وفقد ساعده وأصابع يده الأخرى. قال لها:
- تجربة ولادة جديدة... هه... خُلِقتُ مشوَّهاً يا خرقاء! كم كنت جميلاً عندما أنجبتني أمي.
- أرحتني من طنين البيانو، وأرحتك من الاحتراق سبعين مرة في عيني كل يوم...
لم تتغير ضحكتها كثيراً. تحوّلت فيما بعد إلى غناء مستمر. رقصا الفالس وهما داخل السيارة. كان يجيد استخدام الفرامل في خلق دوائر الفالس المثلثية!
أما عنه فقد تعلَّم أن يعيش في سوادها الأبدي مدة ثلاث ساعات يومية. ثم اتسعت الأزمنة فيما بينهما إلى ارتعاش جديد يغزو ارتجافهما، وعريهما.
في هذه المرة اهتزّ الهلام مثل اهتزاز الكون لأول خلق وابتداء في أحشائه.
لقد ولدا من طهر الطين، خرافِيّا الكيان...
وصادفها...
كان يعجبه تكوُّرها فوق قدميها، و محاولتها المجهدة لإقناع سرب من النمل بأن يجتاز دروبه عبر مسيلات شعرها القمحية! وكلما مرّ بسيارته حدَّق برائحة التراب حوله و امتصّ في سرِّه نشوة تزحف به كالحردون، متلوِّياً بين حافة الطريق وكثافة العشب ودبيب النمل الشيطاني على أخمص قدميه!! حتى يستلقي في ظلها يداعب انثناءات الزهر والطين على جسدها.
قالت له ذات مرة:
- أرغب كثيرا بأن تلامس أصابعي. أكاد أجنّ عندما تحشر كلامك فوق صدري، فتهتز ارتعاشاته بارتجاف حروفك... آه... كم أنت بارع بنفث الهواء فوق سكوني. لكني لن أموت هكذا صفحة في قصتك، و لن أنتهي معك كما تنتهي الكلاب بعد الجماع. سأترك لي على وسادتك مكان تبتلّ الدموع فيه كيلا تبقى جافاً كالفخار!
- أتعرفين؟! حضورك الدائم في ذاكرتي يفقدني اتجاهاتي اللغوية. لم أعد أستطيع التجمع في مساحتي المعتادة، رغم أني بحثت طويلاً عن كرسي خشبي في حديقة خريفية تلتمِّين حولها. راقبتك كثيراً، واستغربت كيف كان أن نمت أجزائي إلى دمية تشبه تلك التي تحملين.
صمت كلاهما، لكن صمتهما امتلأ بكلمات كغشاوة تشبه شكل الدمى، لون الجدران، وتثاؤب المنازل في الضيعة. كثيرا ماً كانت تلصق دُماها بصدرها حتى تشعر بتدويره الرائع... لا أدري كيف تحس بذلك. فما أجمل أن تمتلك صدراً أنثوياً يمتدّ في سرابك الداخلي.
عندما توقفت عند العشرين لم يعد هناك ما تحصيه من ثوان... تحولت عقارب ساعتها إلى هرم يستهلك في كل انتباهة لحواسها تراخي جسمها على الطريق المتجمِّع خلف التلة...
أحبّت كل خلية من خلايا ضيعتها. وهناك، في عيون أهل الضيعة، كانت تبحث عن ضحكة تشبهها، فتأخذ في جيب سروالها كمشة حجارة صغيرة وترميها على النوافذ فيضحك الجميع... وتزمجر النساء، ويعود الطنين من جديد إلى كثافة دماغها، طنين يشبه ضحكات الضيعة.
عندما عرفتها كانت قد التقت بسبينوزا، وعرفت عنه طعم الحليب. أخبرها تحت شجرة تفاح أن الحقيقة بقرة تأخر حليبها.
حدّثني صاحب المزرعة عن مطاردتها الدائمة لأشكال الأبقار في مزرعته، وكيف كانت تقف متأمِّلة بقرة ما وهي تبتلع العشب بغباء، فتقترب منها، تزحف، ثم تحبو حتى تلتقط ضرعها الحارّ، وتأخذ بتمسيده حتى ينزّ حليباً أصفر محتاج إليها، إلى ارتصاف أسنانها، إلى التجمع مرة أخرى في خلاياها والنزوح مع دمها إلى مواطئ الحياة الناريّة في تهويماتها.
قال لها:
- لم أجرب أن أتعلَّم الموت مرة. ألا أشبه الأطفال كثيراً؟! في صغري، عندما أحببت أنفي واكتشفت أصابعي ولامست شعري، لم أجرّب الموت. تعلَّمت الخوف من مسافة الموت التي ترافقني حتى على ورقة الكتابة وأصابع البيانو. أصبحت تشبه مسافة الكلمة الأولى من قصة تدور في رائحتي، بل تشبه الاهتزاز الأول لفراغي قبل البدء بطنين الموسيقى... البيانو... كان بهياً جداً لحن "الليلية" التي كتبها شوبان... بهياً... عندما عزفته لآخر مرة.
بكت طويلاً على أذنيه، رقبته، على ساعده المبتورة، ثم غاصت في الطين الليلي لذاك المساء. لم يكن لجسدها ابتداء يحيط بانثناءاته. كان يمتد إلى الطين. استطاعت أن تكوِّن جزأها الطيني بطريقة ساحرة، حرة أكثر من تفاصيلها اليومية القاتلة، وأحسَّت كثيراً أن جسمها مجرد تفصيل لا يتغير، شبيه بأوراق الروزنامة المقيتة.
دار حول انتباهها في سيارته وأثار حولها غبار رجولته. سألها وهي على طينها السابق:
- أريد أن تصنعي طيناً للموت؟! لست قادراً على الضياع في حانوتك هذا. ربما عرفته أكثر في انسياب الطين...
قالت له وهي تعبث بصمتها و تقضم أظافرها:
- غبي... أغبى من بقرة... يا أغبى من سطل القشّ!!
تعبت منه وهي تركض أمام حواسه، لكنها وقعت أمام دولاب السيارة فانتفضت من الذعر. من وهج المساحة البيضاء في خيالاتها. ثمة أشباح بيضاء تدور بالقرب من رائحة الدولاب المحترقة.
مسح خدوشها ودمها ببنطاله ونظر إلى إبهامها المتعب، ثم قرّبه بصمت ودغدغ شفتيه برحيقه النفّاذ.
همست في فمه:
- الموت لا يوجد إلا في تماثيل الثلج. يشبه لون القمر...
تذكّرت كيف أحبته على تلك التلّة. بقيت حينها تحبه ساعات ست متواصلة. ثم انتهت على شكل سيجارته الطويلة المنطفئة في فمه. كان الطريق طويلاً ينتهي بمنخفض عالٍ تقريباً. ألحّت أن يسابقها في سيارته مسافة ذلك الطريق.
تحفّزت وهو يضغط دوّاسة البنزين. انتبه كل شيء في جسمها عندما أصغت لتوقُّف الدم في مسيلاتها، ثم أخذت تخبو قليلاً. لم يعبق أمامها سوى احتراق سيجارته في حينها، ثم بدأت تتلاشى في مجهولها ببطء يشبه حركة الحصى حول المكان.
انطلقت قبله بزمن تجربة الخلاص تلك. كانت ستولد الآن بطريقتها الجديدة. بدأت تموت... إنها تذكر هذا جيداً... تركّزت جداً في مكانها الذي أخذ يدفعها إلى رنين أعلى فأعلى ثم صمم كليّ يشبه الـ"دو" البعيدة في البيانو... تذكّرت جيداً ملامحه وهو يمضغ الطريق أمامه... لقد مات معها وهو جالس خلف مقوده، ولن تستطيع اللحاق به.
قالت له: "سبقتك... لن..."
وبعثت واقعة كونية، حيث تفتّتت ملامحهما أمام رغبة عجوز شاخت في حسّهما الطفولي. في ذاك الموت فقدت عينيها وفقد ساعده وأصابع يده الأخرى. قال لها:
- تجربة ولادة جديدة... هه... خُلِقتُ مشوَّهاً يا خرقاء! كم كنت جميلاً عندما أنجبتني أمي.
- أرحتني من طنين البيانو، وأرحتك من الاحتراق سبعين مرة في عيني كل يوم...
لم تتغير ضحكتها كثيراً. تحوّلت فيما بعد إلى غناء مستمر. رقصا الفالس وهما داخل السيارة. كان يجيد استخدام الفرامل في خلق دوائر الفالس المثلثية!
أما عنه فقد تعلَّم أن يعيش في سوادها الأبدي مدة ثلاث ساعات يومية. ثم اتسعت الأزمنة فيما بينهما إلى ارتعاش جديد يغزو ارتجافهما، وعريهما.
في هذه المرة اهتزّ الهلام مثل اهتزاز الكون لأول خلق وابتداء في أحشائه.
لقد ولدا من طهر الطين، خرافِيّا الكيان...