بصيص الضوء لا يدخل إلى حجرته سوى صباحات الجمعة، حيث تفتح زوجة ابنه نوافذ الحجرات كلها، بما في ذلك الحجرة الجوانية التي تشبه القبو. هي حجرة صغيرة للغاية، متواضعة الأثاث، تطل على حجرة واسعة ليس فيها أحد. لا حس ولا خبر. بالكاد، حين يصيخ الجد السمع، يستمع إلى تلفزيون الأحفاد وهو يوش على قنوات لا يعرفها.
المهم أن الضوء لا يزوره سوى صباحات الجمعة!
* * *
الجمعة – بداية سنة 2001: زارني في المنام رجل يرتدي أبيض في أبيض. طرق بابي ولم أدعه للدخول، فاضطر لقول "إحم إحم، دستور"، ودخل... خير، اللهم اجعله خيرًا!
اليوم خبطت مفتاح الراديو بالعكاز. ندهت على البت منى ولم ترد. طالعة لأمها! سمعتها تضحك وتعبث بمحطات التلفزيون. استمعت إلى الشيخ رفعت – الله يفتح عليه! – في الراديو.
بجواري وجدت برتقالتين تم تقشيرهما بشكل يشي بقلة الخبرة. عرفت أنها المزغودة فاطمة! دعوت لها، ثم ناديت عليها. هي فقط التي تسمع الكلام في هذا البيت الملعون! طلبت منها كوب شاي ثقيل، فأيقظتْ أمَّها من أجله. سمعت ماجدة تدعو على ابنتها التي أيقظتْها وهي في عزِّ النوم. لا أتذكر ماذا سمعت أيضًا، ولكن الشاي جاءني بعد نصف ساعة. كان باردًا. أعطتْه لي فاطمة. عرفت أنه شاي المساء البايت. قلت: "وماله؟" وشربته.
* * *
فقط يوم الجمعة تعاوده الرغبة في التشبث بالحياة. يود لو يقوم من قعدته، التي دامت سنتين لم يبرح فيها بيت ابنه، ويترجل ذاهبًا ناحية القهوة. يود لو يجد أصدقاءه – خميس وفرج وسيد وعامر – مجتمعين في القهوة بانتظاره، مع أنه يعرف أنه دفنهم جميعًا بيده.
ذهب مرة واحدة إلى القهوة بعدما دفن فرج بأيام قليلة. ظل يرغي قليلاً مع القهوجي. غير أن الأخير لم يُعِرْه اهتمامًا، وانصرف لتلبية طلبات الزبائن.
* * *
لن أتذكر شيئًا في أي يوم سوى الجمعة. أصل الجمعة مفتاح الجنة! الجمعة يوم حظي يا جماعة، يوم تضاء الغرفةُ وتنير قلبي، يوم بعثي كل أسبوع. أنتم لا تعرفون يومًا بلا نهار، بلا الشمس وصخبها ودفئها ونورها وفرجها القريب.
أعطيت البت فاطمة جنيهًا وحيدًا بقي تحت المخدة من أجل شراء البخور. جاءتني به في الصباح. كان بخورًا قصير العود، في علبة صفراء جميلة. اشترت أيضًا – العفريتة! – مشط كبريت لإشعال العيدان. أعطتْني الكبريت كي أشعله، ولكني فشلت. اهتزت يدي تحت وطأة العمر، فقلت: "أمسك أنا البخور، وولَّعي أنتِ الكبريت." ذهبت البت إلى الحجرة البرانية وأغلقت الباب وعاودتني. أشعلت البخور وتمت الصفقة. أعطيتها قبلة، وطلبت منها أن تجاورني الفراش. ظلت تنظر إلى العود في حب استطلاع، تنظر إليه وهو يتآكل ويستحيل إلى رماد، شيئًا فشيئًا يتآكل ويستحيل إلى رماد. أمسكتُ بالعود ودسستُه في كوب الماء المستقر فوق الكومودينو. قالت فاطمة: "ليه يا جدو؟ خسارة!" قلت: "اللي زيِّك مش لازم يشوف الحاجات دي." خرجت فاطمة وهي تبكي مغتاظةً مني.
* * *
الليلة هي الخميس، على ما أعتقد. رغم ذلك تذكَّرتُها. تذكَّرتُها لأن ماجدة – على غير العادة – جاءتني مبتسمة. قالت: "إنتَ ما بتسمعش غير القرآن الكريم!" ثم غيَّرت المحطة على إذاعة "الست"، فوجدت أغنية "رق الحبيب" تخترقني. بدأت أعرف الصوت. هي نفس الآهات والتنهيدات والتقاسيم. قلت لنفسي: "الناس كانت عايشة إزاي قبل أم كلثوم؟! عجيبة!"
لمَّا خرجت ماجدة تاركةً الراديو كنت منتشيًا أردِّد "رق الحبيب". وحين أغلقت خلفها الباب لم أعد أسمع غير أنفاسي أنا و"الست". ندهت فلم يستجب أحد. فتذكرت الحلم الذي أصبح يزورني كثيرًا.
* * *
قبل أن يتذكر الحلم كان يستمع لأم كلثوم – كما تعلمون. تذكَّر أيام "الفجالة" السهرانة، بعدما يعاود من تجارته أيام الخميس، يتحمَّم ويتعطَّر ويتغندر نازلاً إلى الصحبة. يغلق دكَّانه على أصدقائه، ويتناوبون رصَّ حجر المعسِّل المطعَّم بالحشيش الآتي من تجار ليبيا رأسًا. كانت أم كلثوم تنشد "فات الميعاد".
أم كلثوم تداعب العقل وتطهِّره، ثم تتركه خاليًا ليس فيه سوى لعلعة أصداء الصوت، ونشوة تسربت واستقرت في قاع القلب. كان الجد يعرف ذلك جيدًا، فيترك صدره مفتوحًا بانتظار الوصل والانتشاء. يأخذ أنفاسًا غير متلاحقة، غير منتظمة، غير نهمة، في هداوة واستحلاء.
* * *
يقول الجد: "يا مين يرجَّع لي عمري لحظة، وأدِّيله عمري كله!"
* * *
الجمعة – أبريل: هل رأيتم السندباد في أوانه؟ كنت كذلك اليوم. السندباد والبحر والحصان في آنٍ واحد! تسلَّلت من الحجرة والبيت بعدما صليت الفجر. نزلت الأدوار الثلاثة بعد هدِّة حيل. خرجت من المنطقة بأسرها قبل أن يدركني الناس ويعيدوني إلى البيت. اليوم فقط قررت أن أذهب لأخي في المنوفية.
خرجت من المنطقة، سألت عن ركوبة المنوفية. لا أذكر كم سيارة هبدتني، ولكني تبيَّنت نفسي وأنا بجوار محطة المترو ومحطة الميكروباص. ثم ركبت سيارة قال سائقها إنه ذاهب للمنوفية. ثم أفقت على قرآن الجمعة وهو يزعق في أذني. وجدتُني أقترب من نهاية طريق لست أعرفه. وبعد حين، قال السائق: "الآخِر يا جماعة... حمد الله على السلامة!"
الناس أنزلتني. ووقفت وحدي أستجمع ذاكرتي: أنا في المنوفية، أريد الذهاب لأخي. قلت لعابر: "عايز أروح عند أخويا حسن حربي." قال الرجل: "منين هوَّ؟ ساكن فين؟" قلت: "هنا في المنوفية." أجلسني الرجل على كرسي، وتركني أمام مقهى المحطة. ندهت للواد القهوجي وطلبت منه إحضار الفطور. تخيلوا أنه ضحك! ابن العبيطة ضحك علي! – حتى إن المعلم نهره وأمره بإحضار فطور. أكلت، وشربت شاي باللبن، وشكرت المعلم ورحلت.
سألت مجددًا عن بيت حسن حربي، ولكن بعدما تذكرت أنه في عزبة "القصاصين". أنا من هناك بالمناسبة. أصْلي من "القصاصين"، بجوار زاوية جروان.
السيارة هبدتني كثيرًا في الطريق الوعر، حتى رمتني في العزبة. وحين حلَّ الليل كنت في بيت أخي حسن. أجلسوني على سريره. ظلوا يبكون كثيرًا. الواد زايد ابن حسن بكى، وإخوته كذلك. ولمَّا تبيَّنت أني راقد على سرير حسن صرخت: "فين أخويا يا ولاد الجزم؟! ما عاش ولا كان اللي ينام على سريرك!" غير أن الدموع كانت تسبقهم. قال زايد: "البقية في حياتك يا عمِّي... تعيش إنت... من تلات سنين."
الحرامية خبُّوه عني! ولاد الجبانة "فهيمة" خبُّوه عني! فهيمة تموت وكل مَن يتشدد لها، لكن أخي، لا!
خرجت من الدار بصحبة زايد قاصدًا غيط أخي. قلت: "أكيد سأجده هناك." بحثت: في غرزة عزام، عند هنداوي البقال، على الجسر، أمام غابة الموز، فوق الطامية. انهدَّ حيلي ولم أجده، إلى أن اصطحبني زايد للجبَّانة. دخلنا والكلاب من خلفنا تنهش الصمت، حتى وقفنا أمام تُرَب عائلة "آل حرب". قرأ زايد أمامي أسماء عيون المقابر كلِّها، ثم أكمل: "حسن حربي." اسمه تهاوى فوق رقبتي سيفًا باترًا. وقعت من طولي، ونهنهت كما الأطفال. سالت الدموع من عيني وانداحت فوق تراب الأرض. ثم قرأنا الفاتحة وخرجنا.
* * *
العجب أن الناس فاكرة إن تعبي ومرضي الأخير سببه هذا المشوار إلى... إلى... "القصاصين". ضَعضَعَني المرض، ولكن حزني على أخي هزمني. لم تهزمني العتمة ولا المرض ولا الزمن وأعماله السوداء، وإنما هزمني الحزن! تعجَّبت ممَّن يعتقدون أن المشوار قصم ظهري.
* * *
الأربعاء – نهاية أبريل: الرجل الذي يرتدي أبيض في أبيض أصبح يزورني في نومي وصحوي، على غير العادة. صرت أتبين ملامحه. بل إنه أصبح يلازمني، ويداوم على تونيسي.
الونس... لو أعرف من أين يأتي الونس! لو أصل إلى موطنه! زمان، الونس كان في الأتوبيس والشارع والأصوات الزاعقة، واللهاث خلف لقمة العيش، والضحك بعد الشقاء، وعجن الهم في خبيز مشاركة هموم الناس.
الونس، زمان، كان يملأ الفراغ، وينسكب على الجدران. كان مساحات الفضفضة وسيل الكلام الذي لا ينتهي. كان رحلة شتائي وصيفي، تجارتي التي لا تبور، كنزي وناسي وشغلي الشاغل.
* * *
نظرات أبنائي مصوَّبة نحوي، وبجواري يرقد الرجل الذي يرتدي أبيض في أبيض. ابنتي تجاورني أيضًا. يدها باردة. أردت أن أسألها عن حالها، وعن سبب برودة يدها، ولكن الكلام لم يخرج من حلقي. أردت أن أعرف أيضًا سبب البرودة التي اجتاحت جسمي فجأةً وجعلتْه ينتفض. بدأت البرودة بساقي، ثم امتدت إلى جسمي وكل أوصالي.
* * *
رحل الرجل الذي يرتدي أبيض في أبيض. رحل الجد. تغيَّرت محطة القرآن الكريم إلى كل محطات الدنيا. فُتحت النافذةُ على مصراعيها، لتسكب الشمسُ ضوءها فوق سرير خاوٍ، وصوتُ السيارات والناس يأتي من البعيد يملأ فراغ الحجرة.
[*] قاص من مصر، صحفي بجريدة أخبار اليوم القاهرية.
عن معابر
المهم أن الضوء لا يزوره سوى صباحات الجمعة!
* * *
الجمعة – بداية سنة 2001: زارني في المنام رجل يرتدي أبيض في أبيض. طرق بابي ولم أدعه للدخول، فاضطر لقول "إحم إحم، دستور"، ودخل... خير، اللهم اجعله خيرًا!
اليوم خبطت مفتاح الراديو بالعكاز. ندهت على البت منى ولم ترد. طالعة لأمها! سمعتها تضحك وتعبث بمحطات التلفزيون. استمعت إلى الشيخ رفعت – الله يفتح عليه! – في الراديو.
بجواري وجدت برتقالتين تم تقشيرهما بشكل يشي بقلة الخبرة. عرفت أنها المزغودة فاطمة! دعوت لها، ثم ناديت عليها. هي فقط التي تسمع الكلام في هذا البيت الملعون! طلبت منها كوب شاي ثقيل، فأيقظتْ أمَّها من أجله. سمعت ماجدة تدعو على ابنتها التي أيقظتْها وهي في عزِّ النوم. لا أتذكر ماذا سمعت أيضًا، ولكن الشاي جاءني بعد نصف ساعة. كان باردًا. أعطتْه لي فاطمة. عرفت أنه شاي المساء البايت. قلت: "وماله؟" وشربته.
* * *
فقط يوم الجمعة تعاوده الرغبة في التشبث بالحياة. يود لو يقوم من قعدته، التي دامت سنتين لم يبرح فيها بيت ابنه، ويترجل ذاهبًا ناحية القهوة. يود لو يجد أصدقاءه – خميس وفرج وسيد وعامر – مجتمعين في القهوة بانتظاره، مع أنه يعرف أنه دفنهم جميعًا بيده.
ذهب مرة واحدة إلى القهوة بعدما دفن فرج بأيام قليلة. ظل يرغي قليلاً مع القهوجي. غير أن الأخير لم يُعِرْه اهتمامًا، وانصرف لتلبية طلبات الزبائن.
* * *
لن أتذكر شيئًا في أي يوم سوى الجمعة. أصل الجمعة مفتاح الجنة! الجمعة يوم حظي يا جماعة، يوم تضاء الغرفةُ وتنير قلبي، يوم بعثي كل أسبوع. أنتم لا تعرفون يومًا بلا نهار، بلا الشمس وصخبها ودفئها ونورها وفرجها القريب.
أعطيت البت فاطمة جنيهًا وحيدًا بقي تحت المخدة من أجل شراء البخور. جاءتني به في الصباح. كان بخورًا قصير العود، في علبة صفراء جميلة. اشترت أيضًا – العفريتة! – مشط كبريت لإشعال العيدان. أعطتْني الكبريت كي أشعله، ولكني فشلت. اهتزت يدي تحت وطأة العمر، فقلت: "أمسك أنا البخور، وولَّعي أنتِ الكبريت." ذهبت البت إلى الحجرة البرانية وأغلقت الباب وعاودتني. أشعلت البخور وتمت الصفقة. أعطيتها قبلة، وطلبت منها أن تجاورني الفراش. ظلت تنظر إلى العود في حب استطلاع، تنظر إليه وهو يتآكل ويستحيل إلى رماد، شيئًا فشيئًا يتآكل ويستحيل إلى رماد. أمسكتُ بالعود ودسستُه في كوب الماء المستقر فوق الكومودينو. قالت فاطمة: "ليه يا جدو؟ خسارة!" قلت: "اللي زيِّك مش لازم يشوف الحاجات دي." خرجت فاطمة وهي تبكي مغتاظةً مني.
* * *
الليلة هي الخميس، على ما أعتقد. رغم ذلك تذكَّرتُها. تذكَّرتُها لأن ماجدة – على غير العادة – جاءتني مبتسمة. قالت: "إنتَ ما بتسمعش غير القرآن الكريم!" ثم غيَّرت المحطة على إذاعة "الست"، فوجدت أغنية "رق الحبيب" تخترقني. بدأت أعرف الصوت. هي نفس الآهات والتنهيدات والتقاسيم. قلت لنفسي: "الناس كانت عايشة إزاي قبل أم كلثوم؟! عجيبة!"
لمَّا خرجت ماجدة تاركةً الراديو كنت منتشيًا أردِّد "رق الحبيب". وحين أغلقت خلفها الباب لم أعد أسمع غير أنفاسي أنا و"الست". ندهت فلم يستجب أحد. فتذكرت الحلم الذي أصبح يزورني كثيرًا.
* * *
قبل أن يتذكر الحلم كان يستمع لأم كلثوم – كما تعلمون. تذكَّر أيام "الفجالة" السهرانة، بعدما يعاود من تجارته أيام الخميس، يتحمَّم ويتعطَّر ويتغندر نازلاً إلى الصحبة. يغلق دكَّانه على أصدقائه، ويتناوبون رصَّ حجر المعسِّل المطعَّم بالحشيش الآتي من تجار ليبيا رأسًا. كانت أم كلثوم تنشد "فات الميعاد".
أم كلثوم تداعب العقل وتطهِّره، ثم تتركه خاليًا ليس فيه سوى لعلعة أصداء الصوت، ونشوة تسربت واستقرت في قاع القلب. كان الجد يعرف ذلك جيدًا، فيترك صدره مفتوحًا بانتظار الوصل والانتشاء. يأخذ أنفاسًا غير متلاحقة، غير منتظمة، غير نهمة، في هداوة واستحلاء.
* * *
يقول الجد: "يا مين يرجَّع لي عمري لحظة، وأدِّيله عمري كله!"
* * *
الجمعة – أبريل: هل رأيتم السندباد في أوانه؟ كنت كذلك اليوم. السندباد والبحر والحصان في آنٍ واحد! تسلَّلت من الحجرة والبيت بعدما صليت الفجر. نزلت الأدوار الثلاثة بعد هدِّة حيل. خرجت من المنطقة بأسرها قبل أن يدركني الناس ويعيدوني إلى البيت. اليوم فقط قررت أن أذهب لأخي في المنوفية.
خرجت من المنطقة، سألت عن ركوبة المنوفية. لا أذكر كم سيارة هبدتني، ولكني تبيَّنت نفسي وأنا بجوار محطة المترو ومحطة الميكروباص. ثم ركبت سيارة قال سائقها إنه ذاهب للمنوفية. ثم أفقت على قرآن الجمعة وهو يزعق في أذني. وجدتُني أقترب من نهاية طريق لست أعرفه. وبعد حين، قال السائق: "الآخِر يا جماعة... حمد الله على السلامة!"
الناس أنزلتني. ووقفت وحدي أستجمع ذاكرتي: أنا في المنوفية، أريد الذهاب لأخي. قلت لعابر: "عايز أروح عند أخويا حسن حربي." قال الرجل: "منين هوَّ؟ ساكن فين؟" قلت: "هنا في المنوفية." أجلسني الرجل على كرسي، وتركني أمام مقهى المحطة. ندهت للواد القهوجي وطلبت منه إحضار الفطور. تخيلوا أنه ضحك! ابن العبيطة ضحك علي! – حتى إن المعلم نهره وأمره بإحضار فطور. أكلت، وشربت شاي باللبن، وشكرت المعلم ورحلت.
سألت مجددًا عن بيت حسن حربي، ولكن بعدما تذكرت أنه في عزبة "القصاصين". أنا من هناك بالمناسبة. أصْلي من "القصاصين"، بجوار زاوية جروان.
السيارة هبدتني كثيرًا في الطريق الوعر، حتى رمتني في العزبة. وحين حلَّ الليل كنت في بيت أخي حسن. أجلسوني على سريره. ظلوا يبكون كثيرًا. الواد زايد ابن حسن بكى، وإخوته كذلك. ولمَّا تبيَّنت أني راقد على سرير حسن صرخت: "فين أخويا يا ولاد الجزم؟! ما عاش ولا كان اللي ينام على سريرك!" غير أن الدموع كانت تسبقهم. قال زايد: "البقية في حياتك يا عمِّي... تعيش إنت... من تلات سنين."
الحرامية خبُّوه عني! ولاد الجبانة "فهيمة" خبُّوه عني! فهيمة تموت وكل مَن يتشدد لها، لكن أخي، لا!
خرجت من الدار بصحبة زايد قاصدًا غيط أخي. قلت: "أكيد سأجده هناك." بحثت: في غرزة عزام، عند هنداوي البقال، على الجسر، أمام غابة الموز، فوق الطامية. انهدَّ حيلي ولم أجده، إلى أن اصطحبني زايد للجبَّانة. دخلنا والكلاب من خلفنا تنهش الصمت، حتى وقفنا أمام تُرَب عائلة "آل حرب". قرأ زايد أمامي أسماء عيون المقابر كلِّها، ثم أكمل: "حسن حربي." اسمه تهاوى فوق رقبتي سيفًا باترًا. وقعت من طولي، ونهنهت كما الأطفال. سالت الدموع من عيني وانداحت فوق تراب الأرض. ثم قرأنا الفاتحة وخرجنا.
* * *
العجب أن الناس فاكرة إن تعبي ومرضي الأخير سببه هذا المشوار إلى... إلى... "القصاصين". ضَعضَعَني المرض، ولكن حزني على أخي هزمني. لم تهزمني العتمة ولا المرض ولا الزمن وأعماله السوداء، وإنما هزمني الحزن! تعجَّبت ممَّن يعتقدون أن المشوار قصم ظهري.
* * *
الأربعاء – نهاية أبريل: الرجل الذي يرتدي أبيض في أبيض أصبح يزورني في نومي وصحوي، على غير العادة. صرت أتبين ملامحه. بل إنه أصبح يلازمني، ويداوم على تونيسي.
الونس... لو أعرف من أين يأتي الونس! لو أصل إلى موطنه! زمان، الونس كان في الأتوبيس والشارع والأصوات الزاعقة، واللهاث خلف لقمة العيش، والضحك بعد الشقاء، وعجن الهم في خبيز مشاركة هموم الناس.
الونس، زمان، كان يملأ الفراغ، وينسكب على الجدران. كان مساحات الفضفضة وسيل الكلام الذي لا ينتهي. كان رحلة شتائي وصيفي، تجارتي التي لا تبور، كنزي وناسي وشغلي الشاغل.
* * *
نظرات أبنائي مصوَّبة نحوي، وبجواري يرقد الرجل الذي يرتدي أبيض في أبيض. ابنتي تجاورني أيضًا. يدها باردة. أردت أن أسألها عن حالها، وعن سبب برودة يدها، ولكن الكلام لم يخرج من حلقي. أردت أن أعرف أيضًا سبب البرودة التي اجتاحت جسمي فجأةً وجعلتْه ينتفض. بدأت البرودة بساقي، ثم امتدت إلى جسمي وكل أوصالي.
* * *
رحل الرجل الذي يرتدي أبيض في أبيض. رحل الجد. تغيَّرت محطة القرآن الكريم إلى كل محطات الدنيا. فُتحت النافذةُ على مصراعيها، لتسكب الشمسُ ضوءها فوق سرير خاوٍ، وصوتُ السيارات والناس يأتي من البعيد يملأ فراغ الحجرة.
[*] قاص من مصر، صحفي بجريدة أخبار اليوم القاهرية.
عن معابر