بشار خليف - دمشق

باردٌ، كدمشق في يومها الأخير.

أرى: يبلعُ الرملُّ الماءَ ولا يشبع.

أرى: أركض نحو أختي، التي ماتت قبل أن تلدها أمِّي، كي أمنحها سرِّي.

أنا ابن آخر قطرات من شتاء، كالضجيج أتصاعد، حكاية بخار منفيٍّ من إبريق جدِّي.

وجدِّي، رأس لطربوش أحمر، وقمباز لسجادة صلاة تحت مئذنة.

كان شكل جدِّي مئذنة.

"ألفٌ، لامٌ، ميمٌ" – ويصير جدِّي نونًا بين ركعتين.

رأس تعلو، إسْت تهوي. غريب، عميق، وحيد، مثل إصبع جدَّتي في جوربها المثقوب.

باردٌ أنتَ. أفهم أن آخر عشقك كان أول موتك.

وسط الموت أنت، ضُمَّة وَرْدٍ في كفٍّ متعبة.

أردُّك الآن عنِّي نحو رملي، أردُّ عنك جنوني، أدَعُ الصبح يرسم رفيف الجناح على كتفيك.

يدٌ تقبض على نقطة نبيذ قديمة: أنت.

مثلك، شَقيٌّ أنا، يا جدِّي، نسغٌ بين جوريتين في يوم دمشق الأخير.

«أخيرًا» كنتَ، يا جدِّي، إفكًا، فارسًا شنقتْه رايتُه، حديقة نَشَّفتْ أشجارها.

أَوْدَعْتُكَ السرَّ أخيرًا. أنا الآن آخر ما تَبقَّى منِّي.

أرى: يشتعل باب جيرون عند عتبة بيت أخيك كنعان في ورشة الصباح الأرجواني. نائلة تفرُّ من بيت جدِّها، والجدُّ هارب من نسائه الأربع.

الوقت مِسْبَحَةٌ في كفِّ جدِّي.

أرى: لستَ من نسل القرود أنت، أنتَ وَشْمٌ على جناح طائر.

في سماء قديمة، كنت تحوِّم حولك، والآخرون، أرى، يحوِّمون حولك.

قصُّوا جناحيك لتصير قردًا سوف يستقيم.

كي تُذَلَّ قدماك، وتكون لعنة الشرق أنت، لتمشي بساقين من خطيئة وإثم.

صوب الشرق أنتَ، شروقك شرق وغروبك شرق.

صوب الشرق أنت، تسكنك السماء التي أدارتْ ظهرها لغروبك.

تموت السماءُ فيك. هكذا، بلا أجنحة، تحجل على ساقين من ورق.

أحكي الآن عنك: صغيرًا، جميلاً، وتحبُّ نفسك، وأمك أوشكتْ أن تنزل في الماء، أن ترسم هذا الشفق الأحمر على صفحة أبيك.

وَضَعَتْكَ في قارب من القصب، غنَّى الفراتُ لك كي لا يلعنك الطَّمْيُ أو الصخر.

بعد موجة، داهمَكَ طائرُ الرَّمل، حملكَ بمخلبيه إلى عشِّ المطاف، غَسَلَ أذنيك بماء الورد وغنَّى لك.

لم تفهم شيئًا، يا جدِّي، سوى أن جدَّك طائر قصُّوا جناحيه كي يَصِمُوكَ بالقرود.

طير من بقايا السماء أنت، كلما أوغلتَ عمقًا تفرَّق الغيم عنِّي.

أعِدْ رياحَك كي تفوز بطاحون المطاف، أَعِدْ أرضك كي تحظى بالسماء، أَعِدْ جناحيك كي أطير.

لستَ باهتًا لتهوي، لستَ ثقيلاً كي تغور في الرمل. جاءَ، يبلع الماء ولا يشبع...

ألفٌ، لامٌ، ميمٌ، حَدَدٌ

ألفٌ، لامٌ، ميمٌ، مَدَدٌ

أرى: قبل الآن كنتَ ترافق حجارة الطريق إلى حَدَدِك،[1] وعند الأدراج الحجرية لم يكن ثمة مقهى.

كانت هي تنتظرك كآنٍ واحد.

رميتَ قطعة نقدية في حضنها فتذكرتْ جسدَها وتبعتْكَ.

أرى: بعد «قبل الآن»، مررتَ مع حجارة الطريق. لم يكن سيفك دمشقيًّا، ولا حتى رداؤك. حتى زمنُك لم يَفْرِطْ نفسَه عشبًا كي تتمدَّد عليه حين رحيلك.

قاسيًا كالدِّين تَعْبُرُ نحو المطاف كي لا تطوف.

أرى: بعد قليل مررتَ. يوحنا[2] المقطوع الرأس، هنا.

هُسْ... عليك الصمت، يا جدِّي، إن الرأس نائم.

أرى: عدتَ، مررتَ، لم تلقَ قطعة، لم يكن سيفك معك، ولستَ عاريًا. لكنك عُدتَ بأربع نساء ناقصاتِ عقلٍ ودين.

ولم تكن أنتَ نفسك. رأيتُك كما أرى، كالبعيد الذي لم يتعب من الصَّدى. رأيتك كما أرى، كُحْلاً على وجه كاهنةِ معبدٍ من رماد.

رأيتك كما رأى، وأرَيْتُك وجهي القديم في يوم دمشق الأخير. والتدمرية تبحث عن ناووسها في مدفن يرحبول.

تُرى لماذا كلما جاءكَ سيفٌ شاءك غمدًا له؟

أخفيك الآن، يا جدِّي، أنني، كلَّما دنوتُ منك، هدَّني حنيني إليك.

ناتئًا كالومض، ما أحلاك تحمل عنقودك، تعصر قلبك، كي يسكر العشقُ فيك.

قبل الآن، غادر غرفتي عالمُ الآثار. خبيئًا كنتَ كأثر، أخرجك من قاربك، أَبْعَدَ عنك قرن الثور وسِنَّ الحصان، قرأ سورة مريم، نفض التراب عنك، أنت المثقل بالمدن واللغات، المتخوم بالآلهة، يا سماء.

تعال الآن، يا جدِّي، كي تحكي لي حكاية قبل نوم دمشق الأخير، كي أرى جناحيك يصفِّقان ليطردا غبش الآن عنِّي. أنت «الآنُ» الآخر، جئني بأصغريك.

حِبَّني كي يكتمل قمرُ نشوتي في المساء، فأصوم عن ماء حبيبتي؛

حِبَّني كما لم تحب جدَّتي أكثر من حصانك، أكثر من أشجار غوطتنا.

يا ألله، ما أصعب أن أحلم على سريرك، أن أنام في نفس ليلك.

- تهذي؟!

- أنتَ!

- أنا.

- مِنْ أين؟

- منك.

- إلى أين؟

- إليك.

- مثخن بالجراح أنت؟!

- أبدِّل دمي.

- لِمَ؟

- كي أعود... إن روما تتكاثر.

- والمطاف؟

- سيف يبحث عن غمد.

- ما الذي على أذنيك؟

- إيه، ألا تعرفه؟ إنه الووكمان Walkman.

- الووكمان!... ماذا تسمع؟

- ما يحلو لي.

- أغانيَ؟

- نعم، بما يُحَفِّزُني على القتال.

- أَسمِعْنِي!

- لا... هي قديمة على مسامعك. ربما لا تألفها.

- لمن؟

- لفرانك سيناترا Frank Sinatra.

- أتسمع لفرانك سيناترا؟

- نعم.

- جُننتَ يا جدِّي؟!

- مَنْ جَدُّك؟

- أنت!

- ليس عندي أبناء.

- لكنِّي حفيدك.

- ليس لي أبناء.

- إذن مَنْ أنت؟

- أنا الرملُ يبلعُ الماءَ ولا يشبع. ألم تكتب عنِّي ذلك قبل قليل؟

- في لحظة انتصاف بين رَوْعَيْن.

- وما يُروِّعك؟

- ما أرى.

- ماذا ترى؟

- أرى.

- ماذا؟

- أراك فيَّ كما أريد، أراك كما يجب أن أراك.

- لو تراني كما أنا، هذا أفضل بكثير.

- لكنك تسمع فرانك سيناترا!

- لأنك تسمع مايكل جاكسون Michael Jackson.

- والحل؟

- عندك.

- كيف؟

- حَلُّكَ مِنكَ وفيكَ.

- أتوه!

- تُهْ، حتى تراك، وعُدْ حتى تراني.

- وأنتَ؟

- لستُ جَدًّا لابنٍ ضائع.

- أفضل من لا جدٍّ لابنِ ضائع...

يأفل الحلم ولا تتعب الوسادات، تنهض اللُّحف عن أسِرَّتها، تومئ الرؤوس بقهوة الصباح،

تكبر الرؤية.

يشتعل الرمل الآن، إسْتٌ تعلو،

رأس تهوي،

إسْتٌ تهوي،

رأس يعلو...

بارد، أتسلَّق الجبل القديم. غريب، عميق، وحيد، أُلوِّحُ بمنديلي لدمشق في يومها الأخير.



[1] حَدَد إله العاصفة والمطر عند الآراميين.
[2] يوحنا المعمدان.


* عن معاير

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى